26/12/1994

الـدين والمعـرفة الدينـية

اشرت في مقال الاسبوع الماضي الى ضرورة التفريق بين الدين (النص الديني) من جهة والمعارف الدينية والعلوم التي تسمى اسلامية من جهة اخرى ، وكان الغرض هو الدعوة الى منهج لقراءة التراث الاسلامي قراءة علمية تؤكد على اصالة النص واوليته ، لكن هذا التفريق لم يرض بعض الزملاء الذين اشاروا الى ان هذا الفصل ينطوي على قدر من التعسف.
الراي شخصي والحقائق الخارجية موضوعية
طريق العلم وقيمته
العلم هو النتائج الظنية او القطعية التي يتوصل اليها البحث والتحليل في موضوع معين نظري أو عملي ، بحيث يستغني العارفون به عن اعادة التجريب والتحليل ، في وقت معين ، وهذا التحديد اشارة الى وثيق الارتباط بين العلم والزمن ، اذ ان تطور الزمن قد يكشف عناصر جديدة ذات صلة بموضوعه ،لم يجر اخذها بعين الاعتبار في التجارب السابقة ، مما يمكن من اعادة التحليل على اسس امتن ، ويوفر الفرصة للتوصل الى نتائج اكثر صمودا عند النزاع .
والتحليل هو اصطناع علاقة بين عناصر اولية هي المعلومات ، بالاعتماد على امكانية مفترضة للتفاعل فيما بينها ، تتوفر في اطار منهج تحليل خاص يقدمه الباحث كمسار واطار لعمله العلمي ، فالمعلومات سابقة على العلم ، ويؤثر وجودها ـ قلة أو كثرة ـ على مستوى العلم الناتج عن التحليل ، ان توفر المعلومات او ندرتها ، تابع لمستوى مايوفره المجتمع من بيئة مناسبة للعمل العلمي ،  ولاسيما الاعتبار الاجتماعي للنشطين في هذا المجال ، ومدى تمتعهم بحرية البحث والتجريب ، ثم التعبير عن النتائج .
حاجات البيئة
وبديهي ان الاعتبار الاجتماعي للعلم والعلماء ، انما تقرر لكون الجهد العلمي واحدا من الوسائل التي يستخدمها المجتمع في انجاز حاجاته ، فالتقدم والرفاهية والقوة لاتاتي الا بتطبيق القواعد والارشادات العلمية ، ولم يحصل في اي ظرف ان تقدم مجتمع من المجتمعات ، دون الاتكال على قواعد العلم وارشاداته .
ومن هذه الزاوية خصوصا ، يمكن استنتاج ان العلم ليس ـ في اغلب الاحيان ـ محايدا ، ان ارتباطه بحاجات المجتمع الذي ينتج فيه ، يجعله خاضعا او ـ على الاقل ـ متأثرا بايديولوجية المجتمع ، بل ربما اصبح العلم في حالات معينة جهازا لصناعة الايديولوجيا المجتمعية ، اذ يحتاج مجتمع معين في وقت من الاوقات ، للاخذ بسلوك جديد او التخلي عن سلوك سائد ، خلافا لمقولات النظام القيمي الخاص به ، وهذا مايحصل ـ عادة ـ في اوقات الشدة أو ظروف التحول الاجتماعي ، فيقوم اهل العلم بوضع قاعدة نظرية لتبرير هذه الحاجة ، ومستلزماتها العملية ، بحيث يجري احلال السلوكيات الجديدة ضمن النظام القيمي للمجتمع كامتداد له ، حتى لو لم تكن كذلك في الاصل ، فيتاح للفرد ان يقوم بالعمل الذي لم يكن معتادا او مصنفا كأحد الافعال الصحيحة ، دون ان يشعر بتأنيب الضمير أو يتعرض لنقد اقرانه في المجتمع ، وقد يستعمل هذا المنهج التبريري لتسهيل انفلات المجتمع ، او القوى الفاعلة فيه ، من النظام القيمي الضابط للسلوك والعلاقات الاجتماعية .
الشيء ونقيضه
 ولايصعب العثور على الكثير من المفارقات المثيرة للدهشة في تاريخنا ، والتي انما وجدت في ظرف كالذي ذكرناه ، كما ان الامم الاوربية ابتدعت مقولة رسالة التنوير ، التي يحملها الجنس الابيض للعالم ، كمبرر لاستعمار البلدان والشعوب الملونة ، التي وصفت بانها في حاجة الى من يهديها طريق التقدم الذي اكتشفه الاوربيون دون غيرهم ، وذلك للخلاص من مشكل التناقض بين دعوة التحرر التي شاعت في اوربا قبيل الحقبة الاستعمارية ، وبين ارادة الاستعمار الذي تبرره  عوامل اقتصادية واستراتيجية ، فاستعمال العلم لتسويغ الاغراض الاجتماعية المؤقتة أمر متعارف ، ولولا هذه الامكانية ربما لم يشعر الناس بحاجة ماسة الى تقدير العلم والعلماء وتقديمهم على من سواهم .
وعلى هذا فمن البديهي القول ان العمل العلمي وماينتج عنه ، غير محايد ولاموضوعي ، في اغلب الحالات ، بمعنى ارتباطه بالمعلومات المفترض حيادها ، دون تاثر بالظرف الاجتماعي الذي يعايشه .
ــ اذا لم يكن العلم محايدا  فهل يمكن القول ان المعلومات محايدة ؟ .
ــ ربما ولكن ليس على الدوام ، فالعناصر التي يجري تحليلها ضمن عملية علمية ، تتضمن ملاحظات مباشرة لوقائع ، اضافة الى نتائج لتجارب أخرى سابقة ، وهي موصوفة بما سبق ذكره ، كما ان تجميع العناصر المشتركة في التحليل ، هو في حقيقته تقرير لموقعها ضمن هذا السياق او ذاك ، وهو يتأثر بخلفية الباحث التي لايمكن ان تكون محايدة ، بالنظر لكونه جزءا من مجتمع له ايديولوجية خاصة أو نظام قيم خاص ، وليس شجرة معزولة في صحراء .
الـــدين
اما الـدين فهو مجموع الحقائـق التي علمها الله سبحانه لخلقه ، على لسان نبيه ، لتمكينهم من حمل الامانة العظمى ، وهي خلافته في الارض  ، ويتضمن قواعد لنظم علاقة الانسان بربه ، وأخرى لنظم علاقته بمن سواه من البشر ، وثالثة لنظم علاقته بالكون المادي المحيط به ، والحقائق الدينية يقينيات ليس فيها جدل ، في صحتها او صلاحيتها ، اذ انها تأتي من عند خالق الكون ، العالم بكل مافيه وكل مايصلحه .
وفي هذه النقطة يختلف الدين عن العلم ، فبينما الدين كامل وحقائقه نهائية ، كما اخبرنا الله سبحانه {اليوم اكملت لكم دينكم } فان العلم لايكتمل ، بل هو في حال تطور لايتوقف ، وكل مرحلة من مراحله تكشف قصور سابقتها .
 العلم الذي نعنيه هو بطبيعة الحال علم البشر ، فعلم الله مطلق وكامل ويقيني ، وهو مالا يستطيعه بشر ايا كان .
المعرفة الدينية
ولذلك ميز علماء المسلمين بين ارادة الله للاشياء ، وقدرة عباده على ادراك تلك الارادة ، وقالوا بوجود عالمين للحكم الشرعي ، اعلاهما عالم التكوين حيث ان لله في كل واقعة حكما ، مطابقا للواقع على وجه اليقين ، وأدناهما عالم التشريع حيث يسعى اهل العلم لاستنباط الحكم الشرعي من مصادره ، بالاعتماد على ادوات الاستنباط المعروفة ، وهم مع بذل كامل جهدهم لبلوغ الحقيقة ، لايستطيعون القطع بان ماتوصلوا اليه هو عين مراد الخالق سبحانه ، او انه مطابق للواقع على وجه اليقين ، ولذلك عرف بعض الاصوليين الفقه بانه الظن الغالب ، أو القطع بحسب الطاقة العقلية للبشر غير المعصوم ، وهي محدودة على اي حال .
ومن مظاهر القصور في علم البشر ، اختلاف فهمهم للدين وحقائقه ، فالذي وصل الينا على لسان النبي (ص) يتضمن ماهو واضح لايحتاج الى مزيد بيان ، كما يتضمن مالايعرف كنهه غير الراسخين في العلم ، وهو اذن بحاجة الى تفسير وتبيين ، ان اختلاف الناس في فهم مقاصد النص الديني ، هو احد اللوازم القهرية لاختلاف العقول ، وتباين مقادير العلم بين اهل العلم ، وهذا الاختلاف هو الذي جعل العلم ضرورة لفهم الشرع . كما يوضح هذا مكان العلم بالنسبة الى الدين ، فهو يفسره ويبين غوامضه ويفصل مجملاته ، كما يشخص موارد تطبيق كل حكم من أحكامه ، وبقدر مايتطور العلم ترتقي قدرتنا على فهم الدين .
ومنذ البعثة النبوية كان تطور العلوم في مجالاتها المختلفة ، سبيلا للكشف عن حقائق في الدين او سنن الحياة ونظام الكون ، اشير اليها مجملة في النص القرآني او النبوي ، ولم يتح مستوى العلم في ازمان سابقة استيعابها او معرفة تطبيقاتها .
ومن هذا يتضح ان فهم البشر لحقائق الدين رهين بمقدار معارفهم ، ويبقى هذا الفهم قاصرا ، بقدر ما العلم قاصر ، ان قصور العلم هو الاساس في تطوره ، والاعتقاد بهذا القصور هو الدافع الى البحث عن مجهولاته والتعرف على المزيد من دقائقه ، وهو السر في حركته الدائمة نحو الكمال الذي لايبلغه .
نشر في (اليوم) 24 رجب 1415 (26/12/1994)

 مقالات ذات علاقة

20/12/1994

التراث الاسلامي بين البحث العلمي والخطاب

 يتفق معظم المتحدثين في الثقافة العربية على ان الارث الثقافي الذي انتقل الينا من الاسلاف ، عظيم الفائدة اذا ما  اتخذ دعامة للجهد الهادف الى تجديد الحياة الاجتماعية في العالم العربي ، ذلك ان التراث ومعطياته الثقافية تشكل جانبا مهما من ذهنية الانسان العربي ، التي تتضمن تصوراته عن نفسه والاخرين ، وطريقة تفكيره وتطلعاته والقيم التي تنتظم حياته ، فهو من هذه الناحية  يمثل الوعاء الذي يحتضن مقومات هويته .

ويبدو لي ان العرب يتاثرون بموروثهم التاريخي بدرجة اعظم من اي شعب آخر، ربما لان تكون وتراكم هذا التراث ، قد تقارن زمنيا وموضوعيا مع قيام الامة العربية ، التي تكونت كحقيقة وكيان محدد الملامح ، في  ظل سيرورة تاريخية كان محركها وناظمها الاسلام ، بكل مافيه من عقائد وافكار وقيم ونظام حياة .

لهذا فمن الصعب بل من المستحيل التعامل مع التراث ، باعتباره قابلا للالغاء او التهميش ، فهو متموضع في مكان القلب من كل ماله علاقة بالثقافة في حياة الانسان العربي ، وعليه فان الخيار المنطقي هو التعامل ايجابيا مع التراث في اي عملية ثقافية تتعلق بالمجتمع العربي.

البحث عن منهج
 معظم الراغبين في التعامل مع التراث ، مثل الذين يشككون في مكانته ضمن المنظومة الثقافية العربية ، لايزالون ـ مع افتراض امثل الاحتمالات ـ يبحثون عن المنهج الاسلم في التعامل مع هذه التجربة التاريخية العظيمة ، بكلمة اخرى فاننا لانزال نفتقر الى منهج متفق عليه ، للبحث في التراث بل وفي المكانة التي ينبغي له ان يحتلها كمرجع او كمقياس .
وفي هذا المستوى فان الجدل الاساسي ينصب على مايفترض انه قراءة انتقائية للتراث ، لاتاخذ بعين الاعتبار مجموع العوامل التي تتشكل منها التجربة التاريخية للامة ، بل تنتقي مايرى الباحث فيه تدعيما لرأي يتبناه او يدعو اليه ، ولذلك تجد تكرارا ان باحثين يدعون الى اراء متناقضة ، بامكانهم العثور على مايكفي من الادلة من تلك التجربة لكي يدعم كل منهم رايه ، مما يثير الشك في صحة المرجعية التي توفر الدعم للراي ونقيضه في آن واحد .

الخطاب الجماهيري
بالنسبة للباحثين المحترفين فان القضية تبدو اسهل تناولا ، اذ يبدو من السهل الاتفاق معهم على ايجاد تراتب منهجي، بين ماهو دين (نص ديني ) وماهو معارف دينية (شروح او تفاسير او استنباطات من النص ، او اجتهادات محكومة بالقواعد المنصوصة) وماهو علوم تبلورت بموازاة العلوم  الدينية ، دون ان تكتسب المرتبة الخاصة بالعلوم الدينية ، او علوم تبلورت في الاطار الاجتماعي للجماعة المسلمة ، فهي منسوبة للمجتمع وليس الدين  .

لكن الصعوبة تاتي من الاختلاط القائم بين البحث العلمي والخطاب الجماهيري ، اذ يضطر المتحدث الى عامة الناس ـ بحكم العادة ربما ـ  لعرض العديد من العناصر التاريخية او الثقافية التراثية المصدر ، من اجل اثارة حماسة المستمعين ، وقد جرى العرف على التساهل في الاستدلال بما يبدو ـ ظاهريا على الاقل ـ غير مخالف للاحكام الشرعية ، من اجل تشجيع الناس على الاهتمام باعمال الخير او توجيه افكارهم الى الحقائق التي لاينبغي لهم ان يغفلوها .

وهذا المنهج على الرغم من سلامة مقاصده ، يؤدي ـ في احيان كثيرة ـ الى اشاعة افكار او قيم لايمكن التاكد من صدقيتها ، نحن نعلم ان الناس يتاثرون بالخطاب الذي يحوي اكبر قدر من الشواهد والاشارات الحادة ، المثيرة للنشاط الذهني في بعد واحد ، وهم يستريحون الى حشد الادلة وراء الفكرة التي يُدعون اليها ، الفكرة العامة ، المطلقة والاحادية البعد ، التي لاتحتمل ـ في اذهانهم على الاقل ـ النقض او التخصيص  .

 ويمكن لنا ان نستوعب خطورة هذا المنحى ، اذا ما وضعنا الافكار المتداولة بين عامة الناس عن الدين والتاريخ على مائدة النقد ، واقمنا مقارنة بينها وبين ماهو ثابت الصحة ، عندها سنكتشف ان العديد مما يتداول باعتباره بديهيا او متعارفا على كونه صحيحا ، هو في الحقيقة غير ذلك ، وقد جمع الشيخ ناصر الدين الالباني نحو خمسة الاف من الروايات ، المنسوبة للرسول عليه الصلاة والسلام ، مما تحفل به الكتب ويتحدث عنه المتحدثـون ، وهي مشكوكة او كاذبة ، وقد وجدت بينها عددا كبيرا مما تسالم الناس على صحته ، وتعارف المتحدثون على قوله باعتباره ثابتا بل بديهيا ، ومثل ذلك يمكن القول عن القضايا التاريخية والاراء في مختلف القضايا والامور ، مما يحتاج الى تمحيص ، لكنها تقال للناس من باب التساهل او الطمع في ان تساعد على اقناعهم بالافكار الصحيحة ، لكنها ـ بعد زمن ـ تصبح جزءا من ذاكرة الناس وتتداخل في النسيج الاصلي فلايعود من الممكن ـ عند غير الباحثين المختصين على الاقل ـ  تمييزها عن العناصر الصحيحة .

زمن العجلة
ومما يزيد الطين بلة ان كثيرا من المشتغلين بالشأن الثقافي ، ممن يتحدثون للناس او يكتبون لهم في وسائل الاعلام المختلفة ، لاينفقون في البحث العلمي من وقتهم الا القليل ، وقد وجدت من متابعة لعدد من هؤلاء ان معظمهم لديه اختصاص معين لكنه يتحدث في كل قضية ، كما لو انه قد كشف له غطاء العلم ، فهم في ممارستهم للدعوة والتبشير بالافكار التي يتبنونها ، لايتوقفون عن الحديث في اي موضوع طالما كان يخدم تلك الافكار ، بغض النظر عن قدرتهم على التعامل معها او نقدها ،  وغالبا ماتجد احدهم شاغلا كل وقته في الكتابة او التبليغ والحديث الى الناس ، بحيث لايتبقى لديه سوى القليل جدا من الوقت يصرفه بالكاد في استذكار مايريد الحديث عنه في اليوم التالي ، ومثل هذا لايستطيع تخصيص الوقت الذي يحتاجه ـ في العادة ـ من يريد التمحيص ، وياخذ على نفسه التحقق من كل امر قبل اعلانه على الناس . هذه الطائفة من المشتغلين في الشان الثقافي هي الاكثر تواصلا مع الناس ، وهي في الوقت ذاته اقل محترفي العمل الثقافي بذلا للجهد في الانتخاب والاختيار .

وجود مثل هذه الحالة ، وهي امر واقع لايسع احد الغاءه ، هو مما يؤكد الحاجة الى بحث واسع يستهدف تقييم العناصر المختلفة التي يتشكل منها موروثنا الثقافي ، لابراز ماهو صحيح وتسليط الضوء على ماهو مصطنع او فاقد الصلاحية ، وهذا بدوره يدعو الى ايجاد منهج نقدي متوافق عليه لتقييم تلك العناصر ، اضافة الى اشاعة مناخ من التسامح ، يوفر الفرصة لنقد الافكار التي يعرضها هذا او ذاك من المتحدثين في الشأن الثقافي ، حينها سيكون كل متحدث مطمئنا الى ان مايعرضه يتمتع بالموثوقية او مواجهة النقد ، حتى لاتقال الافكار للناس ، فيترك الغث منها والسمين يدور في الانفس فيبني من جهة ويهدم من جهة اخرى .

نشر في (اليوم) 17 رجب 1415 - (20 ديسمبر 1994)



مقالات ذات علاقة :

مقالات  ذات علاقة
-------------------


13/12/1994

دولة واحدة ... مجتمعات عديدة



خلال الاشهر القليلة الماضية تابعت وسائل الاعلام عددا من القضايا التي تبدو في ظاهرها مختلفة باختلاف مواقعها ومبرراتها ، على الرغم من كونها تمثل تجسيدات لمشكلة واحدة ، الا وهي مشكلة التنوع القومي والثقافي ، في اطار الدولة الواحدة وحدود هذا التنوع ، من اتفاق الولايات المتحدة مع كوبا على الحد من هجرة المواطنين الكوبيين ، الى منع المحجبات من دخول المدارس الفرنسية ، مرورا بالجدل الدائر في السودان حول تطبيق الشريعة ، وانتهاء بمحاكمة النواب الاكراد في البرلمان التركي .

الدولة القومية
ظهرت فكرة الدولة القومية في اوربا في اواخر القرن التاسع عشر ، كواحدة من المحاولات الهادفة الى حل مشكلة التنافر الاجتماعي ، الناتج عن تعدد الثقافات وتعدد القوميات في الدولة الواحدة ، وفي ذلك الوقت فان طبيعة النظام السياسي في اكثر الاقطار الاوروبية ، كانت توجد اسبابا لقيام تقسيم طبقي على اساس الانتماء القومي ، مما يجعل طائفة من المواطنين محكومة بارادة الطائفة الاخرى ، فتشكل الاولى مجتمع الدرجة الثانية ، بينما تستأثر الثانية بالدرجة العليا ، ومايترتب عليها من امتيازات ومكاسب ، بل ان بعض الامبراطوريات قامت بمحاولات جادة وعنيفة ، لتذويب القوميات والثقافات في بوتقة القومية المسيطرة ، مع ما استتبع هذا السعي من تكاليف باهضة ، على الصعيد المادي والبشري ، كما على الصعيد السياسي ، ولاينسى معظم المؤرخين سياسة الفرنسة في الجزائر ، ولاسياسة التتريك التي قادها حزب تركيا الفتاة ، عشية الغروب المؤلم لشمس الدولة العثمانية ، فضلا عن محاكم التفتيش المشهورة ، التي اعقبت سقوط الدولة الاسلامية في الاندلس .

تنوع باهظ الـثمن
وفي الفترة بين الحربين العالميتين حاول الحزب النازي بزعامة ادولف هتلر ، الذي اصبح من ثم الحزب الحاكم ، احياء هذه النزعة وتأجيجها على نطاق اوسع ، يقوم على التمييز بين الالمان ، باعتبارهم النموذج الانساني الاصفى والارقى ، وبين بقية سكان العالم الذين اعتبرهم من الدرجة الثانية ، وادى ذلك الى الويلات والمآسي المعروفة في الحرب الكونية الثانية .
اما في العالم العربي ، فثمة امثلة عديدة على التنافرات السياسية ، التي نتجت عن التعدد الثقافي او القومي في القطر الواحد ، من بينها الحرب الطويلة المزمنة في شمال العراق ، بين الحكومة والاقلية الكردية ، والحرب الاهلية اللبنانية التي استعرت بين الطوائف الدينية ، مرتين على الاقل خلال اقل من قرن ، وحديثا جدا الدعوة المتعاظمة بين الجزائريين الذين يرجعون الى اصول بربرية ، للحصول على وضع مميز ضمن الدولة الجزائرية .

يطمح السياسيون الى دولة ذات مجتمع واحد ، بثقافة واحدة ، لاتقاء التعدد الذي قد يصبح في وقت من الاوقات ، مبررا للتنافر الاجتماعي ، لكن يبدو ان تحقيق مثل هذا المجتمع ، لم يعد الان ضمن قائمة الممكنات على الصعيد السياسي ، بل ان العالم يسير حثيثا باتجاه مستويات من التنوع الثقافي داخل كل دولة ، تعيد من جديد صورة الامبراطوريات الكبرى ، التي سادت في ازمان سالفة ، وضمت تحت لوائها قوميات وشعوبا عديدة ، على بقاع واسعة من الارض ، كما هو الشأن في الدول الاسلامية المتعاقبة ، وامبراطوريات القرون الوسطى الاوربية ، ان تزايد الاهتمام بقضية حقوق الانسان من جهة ، وتحرير التجارة الدولية من جهة اخرى ، اضافة الى التقدم العظيم في وسائل الاتصال الجمعي ، ولاسيما في الربع الاخير من هذا القرن ، يؤذن بسقوط الحواجز السياسية التي تفصل بين الدول القومية ، كما يعمل على تفتيت الحدود الثقافية ، التي تشير الى خصائص لمجتمعات تتميز بها عمن سواها .

تعدد تحت سقف واحد
وبالنظر الى هذه التطورات ، فان الرهان القديم على امكانية قيام مجتمع نقي العنصر ، موحد الثقافة ، اصبح جزء من الماضي ، وحل محله قبول يتزايد مع مرور الزمن ، بفكرة المجتمع المتنوع والمتعدد الثقافات ، ضمن الاطار القانوني لسيادة الدولة .
لكن التعدد كان في الماضي ارضية للتنافر الاجتماعي ، ادى في احيان كثيرة الى نزاعات سياسية مكلفة ، ولذلك فان اعتماده قاعدة للعلاقة بين الدولة الحديثة والمجتمع ، بحاجة الى منهج في العمل واجراءات سياسية ، تتيح معالجة الاشكالات التي لابد ان تنتج عن الوضع الجديد .
ان اهم جزء من منهج العمل ، هو الاعتراف بحق كل مجموعة ثقافية في التمتع بخصوصيتها ، وحماية حقها الكامل في التعبير عن توجهاتها الثقافية ، بما لايصل الى الاضرار المادي او المعنوي بالمجموعات الاخرى ، وهي تحصل على هذا الحق في مقابل اقرارها الكامل بسيادة الدولة ، وتعالي القانون الوطني ، ومعالجة اي جزء من ثقافتها الخاصة ، ربما ينطوي على توجهات مخالفة لمصالح مجموع البلاد .

كما ينبغي اتخاذ اجراءات تستهدف تأكيد الهوية الوطنية ، الجامعة لمختلف الافراد والمجموعات الثقافية والاجتماعية في البلد الواحد ، والتاكيد على اعتبار هذه الهوية وتطبيقاتها ، حاكمة على اي مجموعة بمفردها ، بالنظر لكونها تمثل الحد القانوني والمعترف به ، لمفهوم المصلحة العامة الذي يرجع اليه الجميع .

وياتي في طليعة تلك الاجراءات ، مساعدة كل مجموعة على الانفتاح على الاخرى ، ثقافيا واقتصاديا ، حتى يبقى التنوع في حدوده الطبيعة ، كخاصية للجماعة ، فلا يتعداها الى الحدود المبغوضة ، كأن يصبح مبررا للتعالي على الغير او اعتزالهم .

 وفي الولايات المتحدة ومعظم الدول الاوربية ، التي يهاجر اليها مئات الالاف من البشر كل عام ، تتبنى الحكومات سياسة مزدوجة لاستيعاب المهاجرين ، تتضمن ـ من جهة ـ التاكيد على كون وطنهم الجديد هو الوطن النهائي الذي يختص بالولاء والحب ، كما تتضمن ـ من الجهة الاخرى ـ حماية حقهم في التعبير عن هويتهم الثقافية الخاصة ، مع تعديلها لكي تتناسب ونمط الحياة ، ومتطلبات القانون في الوطن الجديد .

ويظهر من دراسة التجربة الامريكية على وجه الخصوص ، ان سياسة الدمج المتوازن تحقق نجاحات كبيرة ، فهذا البلد الذي تشكل اساسا من مهاجرين من مختلف ارجاء العالم استطاع الحفاظ على مكانته كاقوى بلد في العالم ، واكثرها تقدما ، بل انه استثمر ذلك التنوع في تعزيز نفوذه الاقتصادي والثقافي في معظم بلدان العالم الاخرى ، بخلاف التجربة السوفياتية البائدة ، التي قامت على الدمج القسري وسيطرة الاكثرية الروسية ، فانتهت الى النزاعات القومية الدامية ، التي قلّ ان تخلو صحيفة يومية من اخبار جديدة عنها وعن مآسيها .
نشر في (اليوم) 13-ديسمبر- 1994

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

  ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024 توفيق السيف يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال : هل ساهمت ...