ذكرت في الأسبوع الماضي ، ان المسار
الصحيح لنقاش العلاقة بين النقل والعقل/العلم ، ينبغي ان يبدأ عند السؤال الاشكالي
الخاص بموقع "الانسان في الدين". هذه مسألة لا بد منها لتمهيد الطريق ،
للنقاش في دور العقل او مكانته بالقياس الى النقل. وهي مسألة لم تطرقها مدارس
العلم الشرعي الا لماما أو عابرا. ولهذا اعتبرتها عاملا خفيا ، وزعمت ان اغفالها
ساهم في تعقيد النقاش الخاص بالعلاقة بين العقل والنقل ، او بين العلم والدين. وذكرت
ان "موقع الانسان في الدين" يفهم على ضوء عناصر ثلاثة ، أولها يتعلق بالفطرة
الأولية للإنسان ، هل هي صالحة ام فاسدة ، بمعنى ان الناس لو تركوا وشأنهم ، فهل
سيتقاتلون ويهلكون الحرث والنسل ، أم يجتهدون في تنظيم علاقتهم ببعضهم ، كي يدرأوا
الشرور عن مجموعهم.
لكن ما هي علاقة الفطرة بجدل العقل والنقل؟
جواب هذا السؤال يظهر في الحجج التي
تتكرر من جانب الرافضين لدور العقل. وأحتمل ان كثيرا من القراء الأعزاء ، قد واجهوها
فعلا في النقاشات المتعلقة بالموضوع. ان محور تلك الحجج هو الميول الذاتية/الانانية
التي تتحكم في تصرفات الانسان وفي تفكيره. وهي تظهر من خلال انسياق الانسان وراء الغرائز
والانفعالات. وهذه سمة عامة عند البشر ، لانها جزء من تكوينهم. لابد من الإشارة
طبعا الى ان الميول الانانية درجات ، فقد تجد جماعة يصل بهم الحال الى التقاتل او
حرب الجميع على الجميع ، وفق تصوير توماس هوبز. وقد تجد جماعة اميل الى التسالم ،
لكنهم مع ذلك لا يجتمعون على الصلاح والإصلاح.
وبناء عليه فان الانسان غير مؤهل – وفق
هذه الرؤية – لانشاء احكام قيمية تورث الاطمئنان ، من دون اعتماد مرجع آخر غير
عقله. بعبارة أخرى فان العقل بحاجة الى جدار يستند عليه ، ويستمد منه القيم التي
سوف يطبقها لاحقا على أفعال صاحبه ، وما يراه من أشياء أو حالات في محيطه.
لدينا اذن بعدان.. بعد معرفي خلاصته: ان
عمل العقل مشوب بالنقص الذي هو طبيعة في الانسان ، مهما بلغ من العلم. وبعد أخلاقي
خلاصته ان تأثير العواطف والغرائز ، يعزز الميل الأناني الذي هو اصل في تكوين
الانسان.
وبناء على هذا ، فانه لا يصح تفويض العقل
الإنساني ، صلاحية انشاء حكم شرعي نيابة عن الخالق سبحانه. البديل الصحيح هو
الاستماع للأشخاص المتصلين بمصدر الشريعة ، أي النبي او القرآن ، الذين ينقلون
الينا ما نقله النبي عن ربه. اما عقول البشر فيكفيها الانشغالات الدنيوية.
حسنا.. هل لدى القائلين بهذا الرأي دليل
قطعي ، ينفي تماما أدلة الرأي المقابل؟. الواقع انه لا يوجد. دعنا نساير مؤقتا القائلين
بنقص الانسان وميوله الشريرة. ثم ننظر الى التجربة الفعلية للبشر ، مع انفسهم ومع
ربهم سبحانه. سوف نجد أولا ان البشر الذين تقاتلوا وافسدوا ، هم انفسهم البشر
الذين عمروا الأرض وحولوا العالم المتخلف (المشرك بالله) الى عالم في غاية التقدم (موحد
لله) على المستوى المادي والروحي والمعرفي. دعنا ننظر أيضا الى نداءات الله
المتكررة للإنسان (الاناني) ، وتحفيزه المتكرر لاستعمال العقول (الناقصة).. هل ثمة
خطأ في هذه النداءات ، ام انها تخبرنا ان هذا الانسان ، مع أنانيته ونقص عقله ، هو
المخلوق الطبيعي الذي خوطب بالرسالات السماوية ، وهو أيضا الذي قضى الباري سبحانه ان
يكون خليفته في أرضه ، رغم اعتراض الملائكة.
الحقيقة أني اريد المجادلة بان نقص
العقل (نقص المعرفة) والميل الاناني (الميل للتكاثر) هما مبرر امر الخالق لعباده
بالسعي للكمال ، ولولاه لما كان ثمة مبرر للديانات. لكن دعنا نؤجل هذا لوقت آخر.
الشرق الأوسط الأربعاء - 12 محرم 1444 هـ - 10
أغسطس 2022 مـ رقم العدد
[15961]
https://aawsat.com/node/3807006/