25/04/2024

الطريق السريع الى الثروة

 يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية حول العالم 1,114.22 مليار دولار ، ويتوقع ان تصل في 2030 الى 2,554.76 مليار دولار ، بمتوسط 5.8% سنويا). واذا صحت هذه الفرضية ، فيمكن الاستنتاج بأن هذا القطاع سيكون مصنع الثروات في السنين القليلة القادمة.

هذه فكرة متداولة يعرفها معظم الناس على الارجح. لكني أتساءل دائما: كيف نحول الأفكار الى مصدر للثروة. دعني أضرب مثالا بجان كوم ، وهو مهاجر اوكراني شارك زميله برايان اكتون في تطوير برنامج التراسل الشهير "واتس اب" عام 2009. وفي 2014 دفعت شركة فيسبوك 19 مليار دولار للاستحواذ عليه. لا أتوقع – بطبيعة الحال – ان أرى مثل هذه التجربة كل يوم. لكني استطيع القول دون تحفظ ان الجزء الاعظم من الثروة القومية للولايات المتحدة الامريكية يأتي من هذا المصدر ، اي تحويل الافكار الى أموال.

محمد الشارخ  (1942-2024)

في السنوات الماضية كان يقال ان تجارة الاراضي هي الطريق السريع والآمن لصناعة الثروات. لكننا نعلم انه طريق لعدد محدود جدا من الناس ، لانه يحتاج الى رساميل ضخمة. كما انه يبقى عملا فرديا في الغالب ولا يعود بثمرات مهمة على الاقتصاد الوطني.

أما اليوم فاني ادعي ان اقتصاد المعرفة ، ولاسيما قطاع المعلوماتية والبيانات بكل تفرعاته ، هو الطريق الحقيقي للثروة ، ليس على المستوى الفردي فحسب ، بل على المستوى الوطني أيضا. ثمة ميزات في هذا القطاع تجعل المجتمعات العربية قادرة على  المنافسة على المستوى العالمي ، اذا حولت اهتمامها بصناعة المعلوماتية ، وخصوصا البرامج ، من الاستهلاك او المتاجرة البسيطة ، الى الابتكار والصناعة في كافة المجالات ، بدءا بالعاب الاطفال حتى ادارة المدن الكبرى.

سأركز هنا على ميزتين أراهما واضحتين لكل قاريء:

الأولى: أن هذا الحقل الاقتصادي لا يعمل الا ضمن شبكات. لا يربح الفرد الا اذا ربح كثيرون آخرون. وهذه حقيقة اكتشفها مبكرا عالم الاجتماع الامريكي – الاسباني مانويل كاستلز ، وكتب عنها بالتفصيل في ثلاثيته المسماة "عصر المعلومات - 1996". ومن هنا فان ثمرات العمل لا تنحصر في شخص او عدد محدود ، بل تتسع للمئات والآلاف من الناس. ان برنامج الكمبيوتر يشبه الفكرة التي يبدعها شخص ، ثم يطورها شخص آخر ، ويستثمرها ثالث في استنباط فكرة مختلفة ، وهكذا تتواصل وتتعدد استعمالاتها وعدد المستفيدين منها ، في الانتاج والاستعمال.  تخيل الآن عدد الناس الذي يستعملون واتس اب في اعمالهم ، حجم الارزاق والمعايش التي تمر عبره ، والفوائد المالية التي يجنيها ملايين المستعملين في اصقاع العالم ، والعوائد التي تجنيها الولايات المتحدة الامريكية بسببهم.

الميزة الثانية: لقد تأخرنا في دخول حقل الصناعة ، لا سيما في مستوى  التقنيات العالية. وقد بدأت المجتمعات الاخرى منذ قرن او أكثر ، فاللحاق بهم يتطلب مضاعفة السرعة في التعلم والتطبيق والاستثمار لاختصار الطريق. أما حقل المعلوماتية ، فالعالم كله حديث عهد به. خذ مثلا الصين التي انضمت الى هذا المجال في مطلع القرن الجديد ، وباتت اليوم تنافس الدول الاكثر تقدما في مختلف جوانبه. ومن هنا فان المسافة الزمنية بيننا وبين الاكثر تقدما ، تعد ببضع سنوات وليس اكثر. ما نحتاج اليه في الحقيقة هو الثقة بالذات اضافة الى الاجراءات العملية البعيدة المدى.

يهمني جدا التأكيد على "الثقة بالذات" لأني اشعر ان العرب يفتقرون اليها. ولعل هذا سر تفاخرهم الكثير باشخاصهم وانسابهم. وابسط دليل على افتقارنا لهذا ، هو ان تطوير الحوسبة باللغة العربية جرى في كندا واسرائيل وليس في اي بلد عربي ، خاصة بعد اخفاق التجربة الكويتية الرائدة التي تزعمها المرحوم محمد الشارخ ، صاحب مشروع "صخر" الكمبيوتر العربي الرائد.

اود اختتام هذه الكتابة بالتأكيد على ان اقامة بيئة حاضنة ومحفزة لصناعة المعلوماتية على المستوى الوطني ، في كل بلد عربي ، يحتاج الى مقدمات ، تبدأ من ادراج البرمجة في الصفوف الابتدائية ، ثم جعلها منهجا الزاميا في المرحلة المتوسطة. هذا سينتج جيلا كاملا من رواد الصناعة. وهناك عوامل اخرى ربما نعود اليها في كتابة لاحقة.

الشرق الاوسط الخميس - 16 شوّال 1445 هـ - 25 أبريل 2024 م https://aawsat.news/47t9h

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

صناعة الشخصية الملتبسة

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

 

04/04/2024

جندية تحمل طفلا

في ابريل من العام الماضي 2023 نشرت قناة سي ان ان الاخبارية الامريكية ، صورة الجندية السعودية "أمل العوفي" وهي تحتضن طفلا وصل للتو الى ميناء جدة ، مع امه التي فرت به من الحرب الاهلية المشتعلة في السودان. اختارت القناة للمادة العنوان التالي: "أمن وأمان وحنان.. مجندة سعودية تخطف القلوب". هذه الصورة جابت العالم شرقا وغربا ، نشرها العديد من الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي ، وأثارت تعاطف الملايين من القراء ، لما تظهره من حنان ورحمة ، يتمنى كل البشر ان تكون السائدة في علاقتهم ببعضهم.

تخيل انك مررت بهذا المشهد ، فهل سترى فعل الجندية حسنا ام قبيحا؟. ماذا لو مر بها شخص مسيحي او بوذي او هندوسي او وثني او ملحد ، هل سيحبها ام يبغضها؟.

لننظر الآن في الوجه المعاكس.. تخيل ان هذا الطفل كان غريبا جائعا تائها عن أهله ، ومر به الناس فلم يعبأوا به ولا سألوا عن مصابه ، فكيف سيكون رد فعلك ، كيف سيكون رد فعل أصحاب الاديان الاخرى والذين لا دين لهم ، هل تظنهم سيفرحون بحال الطفل التائه الجائع ، ام سيشعرون بالأسى ويلومون من رآه فلم يأخذ بيده.

اضف الى هذا.. هل سألت انت عن دين الطفل الذي حملته الجندية أمل ، هل سأل الذين شاهدوا صورته في اي صحيفة أخرى عن هذا ، ام فرحوا بفعلها لانه تعبير عن المعاملة التي يستحقها الانسان كانسان ، أيا كان دينه وعرقه وموطنه.

ماذا عن الطفل الآخر ، هل ستسأل عن دينه قبل ان تعطيه شربة ماء ، هل سيسأل اتباع الاديان الاخرى عن ذلك؟.

لقد اخترت هذين المثالين ، كي تتضح بساطة الموضوع الذي ناقشته في الاسبوع الماضي ، اي فعل الخير كجزء من علاقة البشر ببعضهم ، لا باعتباره جزء من اي شريعة او قانون.

-         لكن لماذا نتحدث في هذا الموضوع ونلح عليه... ألا تأمر كافة الاديان بعمل الخير؟.

الواقع ان الاديان – في عمومها – تأمر بفعل الخير لكل انسان ، وتعتبره صفة ملازمة للايمان. لكن حين نأتي للتفاصيل والتطبيقات التي تنظم سلوك الأفراد ، سنواجه تشريعات معاكسة. لدينا قصص كثيرة التداول عن عواقب الاحسان للضعفاء ، وثمة أحاديث نبوية عن امرأة دخلت الجنة لأنها احسنت الى كلب ، واخرى دخلت النار لانها حبست قطة حتى ماتت جوعا. هذا في التوجيه العام. فماذا عن الاحكام الفقهية التي يعتمدها الناس في حياتهم اليومية؟

سترى آراء لفقهاء يأمرون عامة الناس بمنع الصدقة عمن يتبع مذهبا او دينا مخالفا ، ويصنف عندهم كافرا او مبتدعا او غير مؤمن. بل ثمة من يفتي بعدم رد السلام عليهم ، او الاكل من طعامهم او التبسم في وجوههم او افساح الطريق لهم او مشاركتهم في الاعمال.. الخ.

 لا ينبغي الظن ان هذا يقتصر على مذهب دون آخر ، فهي موجودة بهذه التفاصيل وما هو أكثر في جميع المذاهب الاسلامية. وموجود مثلها واكثر في المسيحية واليهودية وبقية الأديان ، على مستوى التنظير او التوجيه. خذ مثلا تبرير المفكر الفرنسي المعروف مونتسكيو (1689-1755) للرق ، حيث يقول:

"لا يلقى في الذهن كون ﷲ البالغ الحكمة قد وضع روحا طيبة في جسم تام السواد.... محال أن نفترض هؤلاء الآدميين من الناس ، وذلك لأننا إذا ما افترضناهم أناسا ، أخذنا نعتقد أننا غير نصارى". مع العلم بان تعاليم السيد المسيح تعتبر بني آدم كافة اخوة في الله.

الاحظ دائما ان الناس يذكرون المباديء العامة حين يجادلون غيرهم. لكنهم عند التطبيق اليومي يعتمدون فتوى الفقيه. ونعلم ان المبدأ العام يعبر عن الايمان وينسب الى الله ، أما الفتوى فتعبر عن هوية الجماعة/المذهب وتنسب الى الفقهاء او الائمة. لهذا اقول ان الخير العام المفصول عن الدين يلتقي مع الايمان بالله ، بينما الخير المخصص (واحيانا الممنوع) يلتقي مع هوية الجماعة/المذهب.

الشرق الاوسط الخميس - 25 رَمضان 1445 هـ - 4 أبريل 2024 م     https://aawsat.news/w24dd

 مقالات ذات صلة

الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

الحكم اعتمادا على العقول الناقصة

حول الفصل بين الدين والعلم

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دين الانسان

الـدين والمعـرفة الدينـية

الرزية العظمى

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

عودة الى نقاش الدور التشريعي للعقل

كي لايكون النص ضدا للعقل

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

نسبية المعرفة الدينية

هكذا خرج العقل من حياتنا

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

 

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...