‏إظهار الرسائل ذات التسميات شركات توظيف الاموال. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات شركات توظيف الاموال. إظهار كافة الرسائل

02/02/2024

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024

يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال: هل ساهمت الثقافة السائدة في مجتمعاتنا في إبطاء او اعاقة مشروعات التنمية؟.

مبرر السؤال هو الاعتقاد بأن معظم الأدوات اللازمة لنجاح تلك المشروعات ، توفرت فعليا ، من رؤوس الأموال الى القوى العاملة المدربة والوضع السياسي المستقر نسبيا ، فضلا عن الانفتاح على مصادر المعرفة والتقنية والأسواق في العالم. لكننا مع ذلك لا نشعر ان تلك المشروعات قد حققت نجاحا كالذي عرفته دول اخرى مثل مجموعة النمور الاسيوية.

الثقافة التي نناقشها

في كتابه "النظام الاجتماعي" عرف روبرت بيرستد الثقافة بانها "الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نتملكه كأعضاء في مجتمع"[1]. ونقل عن إدوارد تايلور ، تعريفه للثقافة بانها "الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف ،  اضافة للعادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في مجتمع. الثقافة البدائية -1871". كما نقل عن اثنين من الانثروبولوجيين المعروفين هما ويليام كيلي وكلايد كلوخون (1944) تعريفا يركز على الجانب التأريخي في توليف الثقافة ، فهي بالنسبة لهما "مجموعة القواعد التي تم انتقاؤها عبر الزمن كي توجه أفعال الانسان وردود فعله تجاه المحفزات التي تنبع من داخله او من محيطه الخارجي".[2]

تقديم الورقة في المنتدى. بين د. سعد الزهراني (يمين) ود. عبد الله القويز (يسار)

وبهذا المعنى فان الثقافة توليف للخصائص التي يشترك فيها افراد مجتمع معين. انها لا تنصرف للمواقف او المعارف الفردية ، بل الى التوافقات الجمعية التي تشكل ذهنية كل فرد ، وتنعكس بشكل عفوي على سلوكه اليومي ومواقفه تجاه البشر والاشياء من حوله.

العنصر الجوهري في الثقافة هو صلتها بتوليد معنى الفعل ، الفردي والجمعي ، اي ما يعتبر مقبولا او مرفوضا على مستوى الجماعة ، فيكون مصدرا للتحفيز (الوعد بالثواب) أو التثبيط (التحذير من العقاب).

الثقافة والاقتصاد.. من يؤثر على الآخر؟

تأثير الاقتصاد في الثقافة أمر مسلم في الدراسات الاجتماعية وفي دراسات التنمية والتحديث. بل لا يبعد اعتبار هذا المبدأ واحدا من اعمدة نظرية التحديث.[3] ولدينا تجارب متكررة ، تؤكد ان التحولات الكبرى في مصادر المعيشة ووسائل الانتاج ، اثمرت عن تحولات موازية في ثقافة المجتمع ، لاسيما بين الشرائح التي جنت ثمار الاقتصاد الجديد. قد لا نستطيع الجزم بعلاقة سببية بين الاثنين. لكن اقترانهما لا يدع مجالا للشك ، بأن ما سيأتي لاحقا هو  ذهنية جديدة و تطلعات جديدة ، ونمط مختلف من العلاقات الاجتماعية.

خلافا لما ذكر أعلاه ، فان الاتجاه العكسي ، اي تأثير الثقافة على الحراك الاقتصادي ، ليس موضع اتفاق. وهذا النقاش حديث العهد نسبيا. اما قبل ذلك ، فقد هيمنت نظرية التنمية التقليدية التي تدعي أنه لا يمكن لأي ثقافة أو منظومة قيم ، ان تصمد في مواجهة تيار التحديث الآتي في ركاب التحول الاقتصادي[4].

موضع الجدل في هذه المسألة على النحو الآتي:

-    ثمة ادعاء بان ثقافات بعينها ، او عناصر معينة في تلك الثقافات ، تبرر استغراق المجتمع في التخلف ، وتعطل المحاولات التي ربما يبذلها بعض الأفراد ، للنهوض بالاقتصاد الوطني أو المحلي.

-    ثمة ادعاء بأن المحاولات التي بذلتها حكومات او منظمات تمويل دولية للنهوض باقتصاد البلد ، لم تنجح أحيانا ، لأن الثقافة المحلية كانت قادرة على صرف الزخم المتولد عن الدعم الاقتصادي الى نهايات غير مفيدة او غير منتجة. وبالتالي فالمال ليس مفيدا او فعالا طالما بقيت تلك الثقافة نشطة.

واميل للاعتقاد بان تعثر محاولات التحديث في دول مثل مصر ، ايران ، اندونيسيا ، والبرازيل مثلا ، قد اثار الشك في صلابة المبدأ القائل بالتاثير الحتمي للاقتصاد على الثقافة[5]. هذا يستدعي بطبيعة الحال مراجعة نسخة الحداثة المعروضة علينا ، فضلا عن مراجعة العناصر المعيقة في ثقافتنا ، والتحقق مما اذا كانت تستحق الحماية ، ام هي مجرد تعبير عن التعصب للهوية. علينا ان نستذكر ما قاله يوهانس هيرشماير: الهوية حصان جموح ، ان وضع خلف عربة النمو ، فقد يقلبها بدل ان يدفعها الى الأمام ، وان وضع في المكان الصحيح فقد يجرها بقوة الى اعلى الجبل[6].

التنمية الاقتصادية/الحراك الاقتصادي:

الغرض من تحديد هذا المعنى هو التمييز بين الحراك الاقتصادي العام ، الذي يمكن أن ينشأ لأي سبب من الأسباب ، وبين التنمية الاقتصادية المخططة التي تستهدف الوصول إلى غايات محددة على المستوى الوطني ، في مدى زمني محدد ، أي ما جرى التعارف على تسميته "خطط التنمية الاقتصادية". يمكن للحراك الاقتصادي ان يولد من ظروف عديدة ، بما فيها الحروب والازمات الاقليمية . لكن ماهو مهم هو تحويل هذا الحراك الى دورة مستديمة متنامية ، اي تحويله الى مشروع تنموي ، وذلك باستثمار العناصر المتوفرة ، كرؤوس الأموال في توسيع قاعدة الإنتاج وتنويع مصادر الدخل ، وتطوير القوة العاملة. ان الخيارات الأكثر شيوعا في هذا السياق هي التوسع في الصناعة والزراعة التجارية اذا كانت الظروف الجغرافية مواتية ، إضافة لتوجيه قطاع الخدمات للإنتاج الاقتصادي ، مثل تطوير صناعة السياحة بأنواعها.

لدينا اذن تصور واضح نسبيا عن الحراك الاقتصادي ، وامكانية تحويله الى نمو مستدام ومنظم. لكن لا بد ايضا من ملاحظة الاحتمال المعاكس ، اي إغفال المجتمع لمتطلبات المشروع التنموي وتحويله الى حراك اقتصادي عادي ، يتمحور حول انفاق المتوفر من المال للاستمتاع بالتملك والاستهلاك. ان تجارب العالم ، تخبرنا بان كلا الاحتمالين قائم وان كلا منهما قد حدث فعلا في مكان ما.

حسنا.. ثمة باحثون يجادلون بان الثقافة العامة السائدة في المجتمع هي التي ترجح احد الخيارين: خيار الانصراف الى الاستملاك والاستهلاك ، او استثمار المؤقت بتحويله الى دائم ، كتحويل راس المال الى مصنع ، او تحويل القوة البشرية الى قوة مبدعة وخلاقة. بل حتى تحويل الفقر الى محرك لاعادة هيكلة علاقات الانتاج ومفاهيمه ، وعلاقة البشر بالطبيعة وثرواتها ، أو تحويل الهزيمة المادية والنفسية الى دافع لاعادة البناء واستجماع القوة[7].

الثقافة المساعدة للنمو الاقتصادي

في تقديمه لكتاب " الثقافات وقيم التقدم" أشار صمويل هنتينجتون ، الى تفاوت الأحوال بين كوريا الجنوبية وغانا ، اللتين كانتا في نفس المستوى الاقتصادي خلال ستينات القرن العشرين. فبعد 30 عاما ، اي في مطلع القرن 21 ، أمست كوريا تملأ أسواق العالم بمصنوعاتها ، بينما بقيت غانا في وهدة الفقر ، حيث لا يقوم أودها بغير المساعدات الدولية. وارتفع دخل المواطن الكوري لما يعادل خمسة اضعاف نظيره الغاني[8]. أراد الكاتب التذكير بما يراه عاملا مؤثرا ، توفر في كوريا وليس في غانا ، أعني به الذهنية/الثقافة المساعدة للتقدم. تميل الثقافة الكورية – وفقا لهنتينجتون – الى اعلاء قيم العمل والانضباط ، وتعلي من شأن التوفير والتعليم ، بينما لا تتمتع هذه القيم بنفس الدرجة من الاهمية في ثقافة المجتمع الغاني.

يمكن أيضا الاشارة الى مصر التي شهدت نهضة صناعية في عهد محمد علي باشا (1805-1848) ثم تراجعت بعد وفاته. ولو قيض لها ان تواصل حركتها ، لباتت اليوم منافسا للدول الصناعية التي كانت في بداياتها يومذاك[9].

لا نقصد هنا التهوين من شأن العوامل الأخرى ، التي تثبط التقدم او ترفع كلفته. بل ابراز اهمية العامل الثقافي ، الذي لم يحظ بالاهتمام المناسب ، رغم عمق تأثيره ووضوح انعكاساته.[10] من ناحية ثانية فان فشل المشروع التنموي يثير التساؤل عن دور النخب الوطنية ، التي في السلطة او في خارجها ، في حماية او افشال المشروع او اعادة اطلاقه بعدما توقف ، ولماذا يصعب عليها تكوين رؤية عن المستقبل الذي تريده ، ولماذا يصعب عليها اثارة نقاش موضوعي حول المشكلات القائمة؟. ذلك السؤال وتفرعاته يشير لحالة ثقافية ، اسماها غابرييل الموند وسيدني فيربا "الثقافة الرعوية/الانفعالية"[11] اي ذهنية مجتمع يدرك ما يجري ، لكنه يعتبر نفسه مجرد رعية للحكومة ، لا دور له غير الطاعة او التغافل ، أو ربما لايرى لدوره قيمة او تأثيرا في مجريات الحياة العامة.

فكرة التقدم

نتحدث هنا عن دور الثقافة في تحفيز أو إعاقة الحراك الاجتماعي ، الذي يستهدف تطوير مصادر الانتاج ووسائله ، الارتقاء بمستوى المعيشة وجودة الحياة لمجموع السكان ، والتوزيع العادل لثمرات النشاط الاقتصادي القومي على افراد المجتمع.

يرجع الفضل في اثارة الاهتمام بهذا المبحث ، الى عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر ، فهو – على الارجح - اول من قدم مقاربة تحليلية موسعة عن دور الثقافة ، وعلى الخصوص الثقافة الدينية ، في تقدم الاقتصاد ، وذلك في كتابه الشهير "الاخلاق البروتستنتية". انصب اهتمام فيبر على مسألتين:[12]

1-ان سلوك الفرد ، لا يفهم بعيدا عن تصوره لمعنى وجوده واغراض هذا الوجود. بالنسبة لمعظم المجتمعات فان الدين يساهم بعمق في توليف هذا التصور.

2- ملاحظته لحقيقة ان التعاليم الدينية تؤثر بشكل مباشر في السلوك الاقتصادي للفرد ، اي تعامله مع مسائل المال والعمل وتكوين الثروة ، والمعايير المادية للنجاح الدنيوي والاخروي ، وأمثالها.

أما الرؤية الرائجة اليوم ، فهي ترجع الى ستينات القرن العشرين. طبقا لعالم الاقتصاد النمساوي غونر ميردال ، فقد توجه اهتمام الباحثين لتصميم اقتصاد سياسي يركز على البشر وليس الثروة. وتبعا لهذا تركز التفكير التنموي على سؤال: هل يمكن صياغة نظرية للراسمال البشري تفسر النمو الاقتصادي في اطار التحسن النوعي للحياة الانسانية؟[13].  

كيف تؤثر الثقافة على السلوك الاقتصادي

سوف اعرض في الصفحات التالية الجوانب التي يتضح فيها بشكل مركز تأثير الثقافة على السلوك الاقتصادي ، وأريد التركيز خصوصا على ما لاحظته ولاحظه باحثون آخرون في المجتمع العربي. وسوف يكون حاضرا على الدوام تأثير الثقافة الموروثة ، والتي يشكل الدين جانبا مهما منها ، سواء كانت القيمة الدينية بذاتها حاضرة ، او كان تفسيرها او تطبيقها الاجتماعي هو الحاضر. واشير في هذا السياق الى رؤية المرحوم محمد عابد الجابري ، الذي يقول انه ما من قضية في الفكر العربي المعاصر ، إلا والماضي حاضر فيها ، حتى ليبدو مستحيلا على العرب المعاصرين ، أن يجدوا طريق المستقبل قبل ان يجدوا طريق الماضي. ومن هنا يؤكد على لزوم مراجعة التراث كتجربة تخضع لأدوات النقد والتقييم التي نعرفها اليوم ، وصولا الى التحكم في نطاق تأثيره على وعينا ، بدل الانخراط فيه من دون وعي[14].

نتحدث فيما يلي عن اثنين من الموارد التي يتجلى فيها تأثير الخلفية الثقافية للجماعة على السلوك الاقتصادي لأفرادها ، هما الفهم المتشائم لطبيعة البشر وهيمنة التفسير الاسطوري للعالم:

اولا ) صورة الانسان:

في محاضرة القاها سنة 1988 قدم المفكر البريطاني ايزايا برلين ، رؤية ، قال انها خلاصة لتأملاته على مدى ستة عقود.  تتعلق هذه الرؤية بالدوافع الكامنة في اعماق النفس الانسانية ، والتي تجعل البشر يرتكبون أعظم الآثام ، ثم يكررونها مرات عديدة. لكنهم في نهاية المطاف يتمردون على ميلهم الغريزي للاثم والعدوان ، كما يتمردون على نوازع اليأس والاحباط والسخط ، ليتجهوا - من ثم – الى طريق الصلاح والاصلاح[15]. تشكل هذه الفكرة قاعدة للقول بان الانسان كائن عقلاني واخلاقي. وهي مبدأ اساس في العلوم السلوكية الحديثة ونقطة فصل بين العلم/العالم القديم والحديث.

يرجع هذا المبدأ الى أواخر القرن السابع عشر فحسب. اما قبل ذلك ، فان معظم الثقافات القديمة مال الى اعتبار الفساد نزعة طبيعية أولى في البشر. وقال بعضهم ان اجتماع البشر يعزز هذا الميل ، نظرا لدخول عامل الندرة الذي يحكم العلاقة بين الحاجات والموارد فيحرك نزعة الاستئثار[16].

صورة الانسان العاقل الخيّر الحصيف ، تحجبها الصورة الذهنية التي توحي بها صفات مثل: "نسي ، يطغى ، جهول ، قنوط ، يؤوس ، جزوعا ، منوعا ، قتورا ، كفور ، عجول" ، وهذه كلها مفردات وردت في القرآن الكريم في وصف الانسان ، وورد اكثر منها في السنة وفي اخبار الأولين. وتحولت من ثم الى مصدر للثقافة العامة العربية والاسلامية. وسوف اعرض انعكاساتها على السلوك الاقتصادي ، في مثالين اولها يتعلق بقيمة المال والثروة ، والثاني بفكرة المشاركة.

أ‌-         وسخ الدنيا

على قاعدة المبدأ القائل بان الفساد هو الطبع الاولي للانسان اذا ترك وشأنه ، فان التفكير في التربية والتعليم ، والاحكام الشرعية والقانون ، ركز على تقبيح الأدوات التي ربما تعزز قدرة الافساد في الانسان ، وأبرزها المال والسلطة[17] ، التي بات ينظر اليها كوسخ دنيا ، بدل ان تفهم كضرورات للعمران. وورد هذا في اشكال عديدة ، من بينها التأكيد على كونها من اعراض الدنيا ، النقيض الطبيعي للآخرة ، والربط بين امتلاك الثروة ، وبين الاستئثار والتكبر ، والتمرد على أمر الله.

اثمرت النظرة السلبية للمال والدنيا ، عن تبلور نوع من الازدواجية في تقييم صاحب المال والساعي اليه. حيث نلاحظ رغبة عامة الناس في الاقتراب من اصحاب الاموال وكسب رضاهم ، وفي الوقت نفسه كراهيتهم والارتياب في مصادر اموالهم ، بل النزوع الى اعتبارهم سارقين ، ما لم يتأكد العكس. وتشيع روايات تدعم هذا الاتجاه مثل القول المنسوب لعلي بن ابي طالب "ماجاع فقير الا بما متع به غني"[18].

 الموقف التراثي من المال واصحابه يكشف احد الالتباسات المؤثرة في الثقافة العربية ، والتي موضوعها هنا التفسير الايديولوجي للصلاح والفساد ، من جهة ، والميول الغريزية عند البشر ، من جهة ثانية.

ومما يثير العجب ان كثيرا مما ورد في القرآن في ذم المال ، مربوط بالدنيا عموما وبالبنين خصوصا ، نظير قوله "إنما أموالكم وأولادكم فتنةٌ - التغابن: 15" ، لكن لسبب ما ركزت الثقافة الموروثة على سلب قيمة المال ، بينما اتخذت اتجاها معاكسا حين يتعلق الامر بالابناء ، الذين اصبحوا مصدر اعتزاز وتفاخر. وتبعا لهذا جرى ابراز الروايات التي تدعو لاكثار النسل[19].

هذا في ظني احد العوامل الكامنة في الذهنية العميقة للجمهور العربي والمسلم ، والتي تجعله ينظر بارتياب الى الاثرياء ، بل أي رمز للمال. ولعلي لا أبالغ لو قلت ان حوادث مصادرة الاموال التي تكررت في تاريخ العرب الحديث ، ربما تشير الى التأثير القوي لتلك الذهنية ، وان تلبست مبررات وصورا مختلفة.

ب‌-   غياب ثقافة المشاركة

تتسم الاقتصادات الحديثة بالميل الشديد الى التشاركية في الأموال والاعمال ، خلافا للاقتصادات القديمة التي كانت في الغالب فردية او عائلية. ان رسوخ قيم المجتمع السياسي الحديث ، ولا سيما احترام الملكية الخاصة وسيادة القانون ، مهد الاساس الضروري لتبلور اعراف عامة تدعم الثقة في النظام والايمان بالضمان القانوني للتعاقدات. يطلق على هذه الاعراف اسم "راس المال الاجتماعي = social capital".

وفقا لفوكوياما فان الغرض المحوري لتلك الاعراف ، هو اقامة ما يوصف بدائرة الثقة Radius of Trust. ومن هنا فان الفضائل التي تسهم في تكوين راس المال الاجتماعي ، هي – على وجه التحديد – تلك التي تمهد لتشكيل عرف عام ، يعيد احياء الفضائل التقليدية كالأمانة ، والوفاء بالالتزامات ، والأداء الموثوق به للواجبات ، والمعاملة بالمثل ، وأمثالها[20]. ثمة علاقة قوية بين هذا العرف وانماط التشارك والتمويل المعاصرة ، مثل الشركات المساهمة وسندات التمويل والتمويل الجماعي والتمويل السابق للانتاج والعرض Future  Market وأمثالها. ان ضعف هذه الانماط يرجع في جانب مهم منه الى ضعف الاعراف المساندة التي ذكرناها.

البروفسور فرانسيس فوكوياما

غياب الميل للتشارك امر مشهود في المجتمعات العربية ، حيث تشكل الاعمال والمؤسسات الفردية والعائلية النسبة العليا من السوق العربية. ويظهر هذا الميل ايضا في الاعمال الخيرية. ففي مصر التي تعتبر مثالا جيدا على المستوى العربي ، هناك جمعية واحدة غير ربحية لكل 2000 مواطن[21] ، مقارنة بجمعية واحدة لكل 216 من سكان الولايات المتحدة الامريكية[22]. بديهي ان الرغبة في التكافل الاجتماعي ومساعدة الضعفاء ، فضيلة رائجة بين العرب. لكن يبدو ان غالبيتهم يفضلون القيام بها بشكل فردي ، وليس عبر مشروعات مشتركة مع الآخرين[23].

يتسم المجتمع العربي بالتماسك وشيوع الثقة المتبادلة على مستوى الوحدات الصغيرة ، اي العائلة والقبيلة والطائفة والقرية. وهذه مفيد في المشروعات التي تقام على مستوى الجماعة الصغيرة او داخلها. لكن دورها معاكس حين يتعلق بمشروع قائم على التفاهم بين الافراد وتقارب المصالح ، ويذكر في هذا السياق دراسة روبرت بوتنام لجنوب ايطاليا ، حيث ان الروابط الداخلية القوية جدا ، انعكست على شكل ثقة ضعيفة بين الاشخاص المنتمين لجماعات مختلفة ، الامر الذي ساهم في ابطاء التقدم الاقتصادي للمنطقة ككل[24].

ثانيا) هيمنة التفسير الاسطوري / السحري لحركة الناس والعالم

عرفت مصر الظاهرة المعروفة باسم "شركات توظيف الاموال" في منتصف ثمانينات القرن العشرين ، حين بدأ بعض التجار يعرضون على الناس استثمار اموالهم بارباح توزع شهريا ، وتتراوح بين 15 الى 20 بالمئة من راس المال ، على اساس سنوي. ومنذ البداية حذر خبراء المالية من خطورة التعويل على وعود من هذا النوع ، اذ يستحيل في الواقع ضمان ارباح بهذا القدر وبصورة مستمرة. لكن رنين الذهب - كما يقال - اقوى اثرا من اي استدلال ، خاصة وان اصحاب تلك الشركات استعانوا بعدد من الوعاظ والصحفيين ، وحتى رجال السياسة ، لاقناع الناس بان ما يفعلونه هو "البديل الاسلامي" عن البنوك الربوية وشركات القطاع العام الفاشلة. وتقول بيانات رسمية ان أحمد الريان الذي اطلق هذه الظاهرة قد حول 550 مليون دولار الى بنوك سويسرية[25]. هذا يعني ان عشرات الالاف من الناس قد استأمنوه على أموالهم. وتقول احصاءات اصدرتها وزارة الداخلية المصرية ان حصيلة ما جمعه 25 من اصحاب تلك الشركات ، خلال بضعة اعوام يصل الى 5 مليارات جنيه مصري[26].

تكررت هذه الظاهرة بتفاصيل مماثلة تقريبا في المملكة العربية السعودية ، في وقت مقارب. وكما حصل في مصر ، جرى التركيز هنا ايضا على حرمة التعامل مع البنوك ، وامكانية ان يحقق الانسان ارباحا طائلة من دون جهد ، حينما يضع ماله بيد "الاشخاص الموثوقين". وفي كل الحالات ، في مصر والسعودية على الاقل بحسب ما أعلم ، خسر المودعون ما لا يقل عن نصف اموالهم ، وبعضهم خرج خالي الوفاض ، بعدما اهلك "تحويشة العمر" كما يقال[27].

ثمة ظاهرة مماثلة في جذورها ، وفي الانتماءات الاجتماعية للأشخاص الذين يشاركون فيها ، وهي الاستشفاء من الامراض بكل انواعها على يد قراء القرآن والسحرة ، وامثالهم ممن يدعون الاتصال بقوى وراء مادية. هذه الظاهرة شائعة جدا ، وقد شهدتها في السعودية وسوريا والعراق وايران وسمعت عنها من مصادر جيدة الاطلاع في مصر والسودان واليمن وعمان. ويبدو انها تراجعت في السنوات الاخيرة ، في السعودية بقدر ما أعلم ، لكنها لازالت قائمة في بلدان اخرى. وتوجد 20 قناة فضائية على الاقل باللغة العربية ، مكرسة لهذا النوع من الاعمال او تخصص لها مساحة واسعة من البث اليومي[28].

انتشار اللجوء للسحر والرقية لعلاج الامراض وحل المشكلات ، مثل ظاهرة توظيف الأموال ، مرجعها نفوذ الفهم الاسطوري / السحري لحركة العالم ، حيث يشعر الافراد باليأس من الحلول العلمية والعقلائية ، فيلجأون الى ما لا يعقلونه ولا يمكن تفسيره. ولا اشك ان "التلبيس بالدين" عامل مؤثر في دفع الناس الى هذا الطريق وطرد الشكوك المحتملة في لا عقلانيته ، بسرد قصص قصص العلماء والاسلاف التي تؤكد ان ما يقال لهم حقيقة تتجاوز قدرة العقل البشري ، لماذا؟.. لانه من عند الله وليس من عند البشر!!.

غني عن القول ان هذه الظواهر منتشرة بين الفقراء وغير المتعلمين ، كما بين المتعلمين والاثرياء ، لأنهم في الاساس يحملون ذات الفهم الاسطوري.

الثقافة كمتغير تابع

لا بد من الاشارة الى اننا نتعامل مع الثقافة في مرحلتين متمايزتين ، وقد تحدثنا حتى الآن عنها كمتغير مستقل او تفسيري. وفقا لهذا المعنى ، فاننا ندعي ان العوامل الثقافية تؤثر فعليا في التقدم البشري او تعيقه في اوقات معينة ، وربما تلعب الدور المعاكس ، اي تحفيزه واعادة اطلاقه. انها تؤسس سلوكا من ذلك النوع او من هذا.

لكننا ايضا معنيون بالثقافة كمتغير تابع dependent variable ، بمعنى كونها انعكاسا لتحولات ذات طبيعة مختلفة ، تحدث في المحيط الاجتماعي أو حوله. إن اعتبارها متغيرا تابعا هو الذي يسمح بالحديث عن إمكانية تغييرها او تعديلها. ولولا هذه الامكانية لكان الكلام عن العلاقة بين الثقافة والاقتصاد ، نوعا من الدوران في حلقة مفرغة.

وقد رأينا هذا المسار في أعقاب الكوارث الطبيعية والحروب والتحولات الاقتصادية الواسعة النطاق. ورأينا تحولات ثقافية ناتجة عن خطط سياسية. وليس بعيدا عنا انعكاس القرارات التي اتخذتها الحكومة السعودية خلال السنوات العشر الأخيرة ، لإلغاء القيود المفروضة على عمل النساء ومشاركتهن في الحياة العامة ، والتي أدت الى تحول واسع النطاق في سوق العمل ، وفي موقع المرأة ومكانتها في نظام العلاقات الاجتماعية ، الامر الذي يشير الى تغيير جوهري في منظومات القيم الداخلية ، بما فيها تلك القيم التي تنسب للدين او تبرر على أساس ديني. واعتقد ان المجتمع السعودي شهد اهم التحولات على مستوى الثقافة والقيم في مرحلتين على وجه التحديد: في مطلع سبعينات القرن العشرين ، مع اعلان خطط التنمية الاقتصادية ، ثم منذ الغاء الحظر المفروض على قيادة النساء للسيارات ، في سبتمبر 2017.

يمكن أيضا الإشارة الى تجارب الأمم التي شهدت تحولات عميقة في ثقافتها بعد هزائم عسكرية ، ولدينا امثلة موثقة عن الارجنتين وألمانيا واليابان[29]. ويشار أيضا الى تجربة سنغافورة التي تكشف عن تأثير سياسة الدولة في تغيير ثقافة المجتمع ومن ثم أدائه الاقتصادي[30].

زبدة القول اذن ان الثقافة المعاكسة للتقدم الاقتصادي قابلة للتغيير والتعديل ، اما بطرق غير مقصودة كالحروب والكوارث والتحولات العميقة في العالم اوفي المحيط الاقليمي ، او بطريقة مقصودة ومخططة نظير السياسات الحكومية.

قضايا للعلاج

أبرز القضايا التي لها أساس ثقافي ويجب علاجها ، هي:

1- الرؤية التشاؤمية لطبيعة الانسان ،  المبنية على ان الفساد هو طبعه الأولي. هذه الرؤية سبب جوهري – في اعتقادي - لسوء الظن في الآخرين ، وتبعا ، الاعراض عن التشارك في الأموال والاعمال. كما انها عامل مؤثر في توجيه القانون نحو الردع وليس المساعدة ، وتسميم العلاقة بين النخب السياسية وعامة الجمهور. ان جانبا هاما من التنوير الاوروبي يرتبط بهجر ذلك المنظور العتيق ، وتبني مبدأ ان الانسان فاعل عاقل واخلاقي.

2- التفسير الغيبي (بل والسحري والخرافي) لحركة العالم والناس ، لصالح التفسير العلمي والعقلاني. العالم الحديث واقتصاده قائم على أرضية فلسفية تعلي من قيمة العلم والخيارات العقلائية. والتحاقنا بالعالم رهن بتفهمنا لهذه الحقيقة. ومن هنا فاننا بحاجة لتأكيد الثقة في نتاج العقل الانساني وانه حجة الله على الانسان ومصدر الخير في الدنيا والآخرة. وان الكون يتحرك بنظام ثابت ، وليس في وسع أحد ان يخرق النظام الطبيعي باسم السحر واستدعاء الجن وامثال هذه من الأوهام.

3-ويرتبط بالبند السابق ، ضرورة الانتقال من العقل المنفعل الى العقل المتسائل المتفاعل ، العقل الذي ينطلق من اعتبار الكون نظاما عقلائيا مفتوحا للانسان ، ويبني أحكامه على ان ما يفعله الانسان هو الذي يقرر احتمال الفشل والنجاح في السوق ، وأن الاقتصاد فعل البشر وليس حراكا تقوده كائنات مجهولة تسيطر على مصائر البشر ومآلات افعالهم.

4-كما يرتبط بالبند السابق (رقم 2) ايضا ضرورة تصحيح الفهم الديني للحياة الدنيوية ، وأهم تمثيلات هذه الفكرة ، هو التحول من الانشغال بما بعد الموت ، الى الانشغال بالعالم والطبيعة وكشفها واستثمارها. ان حقيقة الدين لا تتجسد في المجتمع الخائب التعيس الجاهل الضعيف ، بل في الدنيا المزدهرة والمجتمع الرفيع المعرفة والاخلاق والقوة.

5- التخلص من سيكولوجية الضحية. أرى ان المجتمع العربي يميل للاعتقاد بأنه يقع على الدوام في الجانب الضعيف والمظلوم من اي معادلة سياسية او اقتصادية. حتى لو تعلق الأمر بأشخاص أضعف منا ، مثل العمال الوافدين ، الذين نعتمد عليهم في تنظيم مختلف جوانب الحياة في بلادنا ، لكننا – بدلا من الشعور بالامتنان لهم – نصنفهم كمذنبين في شح الوظائف او اخفاق ابنائنا في الحصول على الوظيفة التي يحلمون بها.

ويؤسفني القول ان التيار الديني – بشقيه التقليدي والحركي – لعب دورا مؤثرا في تعزيز "سيكولوجية الضحية" من خلال التركيز الشديد على ما يعتبره مؤامرة غربية. ادبيات التيار تتضمن توجيها شبه ثابت ، فحواه اننا نتعرض لغزو ثقافي ، وان كل ما نفعله كي نتقدم هو تأكيد على نجاح الغرب في تمرير اجنداته.

سيكولوجية الضحية تسببت في قدر من العزلة عن التجربة العلمية والاقتصادية الكاملة ، حتى بالنسبة للذين درسوا في الدول الغربية او اقاموا فيها او تعاملوا مع شركاتها ، فقد بقيت علاقة هؤلاء بالمجتمع الذي اقاموا فيه او تعاملوا معه ، سلبية وخالية من التفاعل الانساني ، مقصورة على الشراء والبيع او نيل الشهادة الجامعية ، دون الانخراط في المجتمع العلمي او الاقتصادي كي يستوعب تجربته. هذا الانكفاء ، حول العلاقة بالغرب الى علاقة زبون - بائع ، بدل علاقة متعلم - معلم ، على النحو الذي شرحه المرحوم مالك بن نبي[31]. ان اقتصاد العالم اليوم محكوم بالعلم والنظام الذي تطور في الاطار المعرفي الغربي. ولا يمكن ان نتعلم تجربته طالما بقينا منعزلين عنه.

6 – تصحيح نظرتنا للمال: للمال موقع غريب في الذهنية العربية. فهو عزيز على الفرد العربي ، لكنه - من جهة أخرى - عبء او عيب. حين تسأل عربيا من عامة الناس عن املاكه ، فلن يتحدث عنها كعلامة على نجاحه. بل سيميل للتستر بكلمات مثل "مستورة" "الحمد لله رب العالمين" الخ. بعض الناس يبرر هذا الموقف بالخوف من العين والحسد. وهذا يظهر حضور الخرافة في تفكير الانسان. لكني اميل للاعتقاد بأن الثقافة العامة الموروثة تنظر للمال كسبب للفساد او كناتج للفساد ، فالأصل ان عامة الناس لا يملكون الا القليل. ويذكرنا هذا بالتعاليم المشابهة في الكاثوليكية ، وفق ما ذكر ماكس فيبر ، وهي تطابق هذا المعنى الى حد كبير[32].

طريق العلاج المتفق عليه: التعليم

يتفق دارسو التنمية مع السياسيين في الدول الفقيرة ، على محورية التعليم في سياسات التنمية[33]. الحاجة للتعليم من الامور البديهية ، ويمكن تلمس آثاره في أي بلد[34]. لكن القناعة الراسخة بمحورية التعليم الحديث ، تثير سؤالا محرجا للسياسيين والباحثين في الدول النامية ، حول الفجوة الواسعة بين الدور المفترض للتعليم من جانب ، وناتجه الفعلي في الجانب الاخر. بدأ التعليم في مصر مثلا في اوائل القرن التاسع عشر. وتأسست نواة كلية الهندسة في 1866. وفي العراق كان عدد المدارس الابتدائية والمتوسطة قبيل نهاية القرن التاسع عشر نحو 100 مدرسة.[35]. وفي السعودية انشئت اول ادارة للمعارف في مكة المكرمة ، عام 1927 وتخرج اول فوج من الطلبة المبتعثين الى الجامعات المصرية في 1935.

نتحدث اذن عن تعليم يتراوح عمره بين قرن وقرنين ، هذا اذا غضضنا النظر عن نظم التعليم التقليدي التي عرفتها بعض المجتمعات العربية ، قبل التواريخ السابقة بكثير. فلماذا لم تتقدم المجتمعات العربية ، في مجال العلوم والتقنية والاختراع؟. ولماذا ما تزال متكلة على التقنيات المستوردة ، حتى في مجال الزراعة وتربية الحيوان وبناء المساكن والسدود والطرق ، وهي من المهن التي عرفتها هذه البلدان منذ مئات السنين. بل لماذا أخفقنا في مواصلة الطريق الذي بدأه علماء العرب والمسلمين في القرون الماضية ، والذي أثمر عن العديد من الكشوف العلمية والاختراعات والمعارف؟.

هل فشل النظام التعليمي العربي بكامله؟

في دراسته عن الاقتصاد والمجتمع في جنوب آسيا ، في منتصف القرن العشرين ، لاحظ غونر ميردال ، وهو عالم سويدي حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد ، ان جميع السياسيين كانوا مهتمين بالتعليم الاساسي للشباب ، من اجل تحسين أدائهم في السوق والاعمال المختلفة الضرورية لتنمية الاقتصاد. لكن التلاميذ وعائلاتهم نظروا اليه كوسيلة للحصول على عمل مكتبي ، بدل الاعمال اليدوية المرهقة. هذا التهرب من العمل اليدوي يعاكس تماما الفرضيات التنموية[36].

البروفسور غونر ميردال (1987-1898)

اعتقد ان الوصف السابق ينطبق أيضا على معظم المجتمعات العربية. كان الحصول على شهادة مدرسية ، يعني الحصول على وظيفة قليلة الجهد عالية المردود. ولا استبعد ان مختلف المجتمعات في كل بلاد العالم ، كانت تنظر للتعليم بنفس الطريقة. اي ان التعليم طريق للوظيفة وليس بابا للانضمام الى دائرة العلماء والباحثين.

المهم في المسألة ان التعليم في الوطن العربي ، لم يحقق أعلى غاياته ، أي الارتقاء بالمستوى العلمي للبلد والاستغناء عن الخبرات الاجنبية في اي مجال. أعطانا هذا التعليم جيوشا من المستهلكين الجيدين لمنتجات الخارج ، معرفة او تجهيزات ، وليس منتجين مستقلين او مبدعين.

أين تكمن المشكلة اذن؟

حين نتحدث عن تاثير عميق للثقافة على سلوك الافراد الاقتصادي ، فاننا نقول – ضمنيا – ان الاقتصاد لا يتحرك في فراغ ، بل في إطار اجتماعي له محركات ومحددات. دور الثقافة هو تشكيل ذهنية البشر الذين يلعبون دور الفاعل في مجال الاقتصاد ، كمنتج او كمستهلك او كوسيط بين الطرفين. وفي هذه النقطة بالذات ، يقوم النظام التعليمي بتوفير الثقافة لكل فرد على نحو منظم ومتواصل ، حتى تتشكل ذهنيته وتتقوم شخصيته.

دور التعليم كان محل اهتمام العديد من المفكرين. ولا أجد حاجة لتكرار القول فيه. لكني اشير فقط للمقترحات التي ذكرها د. عبد العزيز الجلال كاستراتيجية لتطوير التعليم في منطقة الخليج العربي. كما لا أنسى الاشارة الى المقترحات الهامة التي تبنتها "لجنة الجنوب" ، التي تضم مجموعة بارزة من السياسيين والمفكرين ، سعت لوضع مباديء استراتيجية لتنمية العالم الثالث[37]. كل مانحتاجه في حقيقة الامر هو التطبيق الأمين لما جرى تبنيه فعليا من جانب الحكومات والنخب السياسية ، بدل إنفاق الوقت في ابداع أفكار جديدة ، ثم وضعها على الرف ، والاستمرار في الطرق القديمة.

مما يؤسف له أن التعليم العام تحول من أداة لدعم التنمية في العالم الثالث ، الى أداة لتعطيلها ، وذلك بتحويل الملايين من الشباب المتعلم الى مستهلكين يبحثون عن حياة مريحة ، بدل ان يكونوا منتجين يشعرون بالمسؤولية عن مستقبل اوطانهم.

خلال السنوات العشرين الاخيرة ، بدأنا نسمع عن ظاهرة رواد الأعمال entrepreneurs في البلدان الصناعية وشبه الصناعية ، ويقصد بها في الغالب الشباب الذين حولوا افكارهم المبدعة الى مصادر للثروة. ان جانبا عظيما من تجارة المعلوماتية التي تمثل سمة العصر الحاضر ، تأتي من هذا النوع من المشروعات. وهنا يأتي السؤال: لماذا افلحت الجامعات في اوروبا وامريكا والصين وكوريا وامثالها في تخريج عشرات الآلاف من رواد الاعمال الذين اضافوا قيمة الى انتاج بلدانهم ، بينما تعج البلدان العربية بملايين الخريجين الذين لا يجدون وظائف ، ولا يستطيعون انشاء اعمالهم الخاصة. لماذا نجحت تلك الجامعات واخفقت هذه؟.

الاقتصاد وسيلة والانسان غاية

اظن ان الجواب يكمن في المقاربة التي اقترحها أمارتيا سن ، المفكر الهندي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد ، وهي تركز على الحرية كغاية نهائية للتنمية الاقتصادية. كما يعرف الحرية في معنى تعدد الخيارات الحياتية ، اي قدرة الانسان على العيش بالطريقة التي تجسد مفهومه الخاص للحياة والسعادة. ويطلق على هذه اسم "نظرية القدرة Capability Approach"[38].

لكن الفرد لا يعيش في عزلة عن محيطه ، بل هو - بشكل أو بآخر - محكوم بالمنظومات الاجتماعية institutions التي يتشكل منها محيطه الحيوي: الدولة ، السوق ، الدين ، الوحدات الاجتماعية ، التقاليد والاعراف.. الخ. ان نوعية هذه المنظومات وكيفية عملها ، تؤثر بشكل عميق على رؤية الانسان لنفسه وقابلياته وقدرته على تطوير تلك القابليات واستثمارها في تحسين معيشته ، وكذلك استثمار الفرص المتاحة في المجال العام[39]. تشكل الثقافة العامة الحبل الذي يربط جميع هذه المنظومات الى بعضها ويوحدها ويجعلها تعمل في تناسق وانسجام. تمظهرات هذه الثقافة في مختلف جوانب المجتمع وعند مختلف اعضائه هو الذي يشير لما ندعوه "العقل الجمعي".

وكما اشرنا في صفحة سابقة ، فان التعليم هو الوسيلة الاكثر فاعلية في تصحيح الثقافة العامة واعادة توجيهها على النحو الذي يخدم الاهداف الكبرى للمجتمع. ويمكن ان نجد اهمية التعليم في موقعين:

أ- التعليم يساعد الفرد على التحرر من الاحادية الثقافية ، اي اكتشاف ان قناعاته التي تشكلت بتاثير التربية والاحتكاك ضمن المحيط العائلي والاجتماعي الضيق ، لا تمثل حقيقة وحيدة. يساعد التعليم الحديث على توسيع أفق الفرد ، وربطه بالمحيط الواسع للثقافة والآراء في العالم. ان تحرر الفرد ثقافيا/ ذهنيا يجعله اكثر فهما لذاته ومحيطه والحقوق المتبادلة بينهما ، وصولا الى التخلص من القيود النفسية او الثقافية التي تثبط عزيمته ، او تحدد له موقعه او دوره الاجتماعي والاقتصادي. الفرد المتحرر اكثر استعدادا للمغامرة والمشاركة ، وبالتالي فهو اكثر استعدادا للاسهام في التغيير.

ب-التعليم يساعد الفرد على اكتشاف الفرص المتاحة في المجال العام وفي الطبيعة. في أبسط التجليات يمكن للتعليم ان يساعد الفرد على معرفة ما له من حقوق وما عليه من واجبات ، وعلى الفرص المادية والوظائف والامكانات التي تتيحها الدولة او يتيحها الاقتصاد ، والتنافس عليها مع  الآخرين. ان جانبا مهما من مهمة الارتقاء بمستوى  المعيشة تقع على الافراد انفسهم ، شرط ان يفتح لهم الطريق للسعي وراء ما يرغبون فيه وما يحقق سعادتهم.

ملاحظة ختامية

لا بد من القول ان برامج تطوير التعليم التي تم تبنيها في معظم الدول العربية خلال نصف القرن المنصرم ، لم تقم على ارضية فلسفية حداثية (قيم الحداثة) بل ربما اتبعت ايديولوجيا مضادة للحداثة في بعض الاحيان. وكان مقصودا ان يكون التعليم العام قناة لتلقين الايديولوجيا الرسمية وغرسها في ذهن الاجيال الجديدة ، باعتبارها صور العالم الصحيحة. وفي هذا المجال لم تختلف المجتمعات التقليدية عن نظيرتها التي تدعي التمرد على التقاليد.

فيما يخص العلاقة بين التعليم وسوق العمل ، فقد كانت الفكرة السائدة حتى منتصف سبعينات القرن العشرين ، هي ان التعليم أداة لتحسين كفاءة العاملين من اجل زيادة الانتاج ( الثروة ). لكن مع تطور فكرة التنمية ذاتها ولا سيما دخول مفهوم التنمية البشرية ، فقد بات مفهوم الثروة يتركز حول الانسان نفسه ، وبدأنا نسمع تعبيرات نظير ان المواطن هو ثروة البلد الحقيقية ، وأمثال هذه العبارة.  وبالتالي فان التعليم بات مرتبطا بقيمة مستقلة ، هي المساعدة في تكوين الانسان الافضل. من المهم في هذا السياق ان نخفف من تركيزنا على مبدأ "التعليم لخدمة حاجات السوق" الى الاتجاه العكسي "تطوير دور التعليم كي يعيد انتاج السوق".

هذه تعتبر خطوة مهمة الى الأمام. لكن لازلنا بحاجة للتأكيد على نفس أهداف التعليم التي أكد عليها "تقرير الجنوب" الذي ذكرناه في الصفحات السابقة ، وهي نفس الأهداف التي أكد عليها معظم دارسي التنمية المعاصرين في العالم الثالث وخارجه ، وأبرزها ان يكون التعليم وسيلة لانشاء مجتمع المعرفة ، المجتمع الذي اعتاد التفكير العقلاني الناقد ورفض الخرافة ، المجتمع الذي يؤمن بالحريات الفردية ويحمي حريات الأفراد ، ويحترم العلم ويتداوله كجزء من حياته اليومية العادية.

اذا استطعنا الوصول الى هذه المرحلة او حتى اقتربنا منها ، فسوف نجد ان سياسات التنمية الاقتصادية تنتقل بيسر وليونة من مرحلة الى المراحل الأعلى ، وسوف نجد قنوات سالكة من الفهم والتفاهم بين مجتمعاتنا والمجتمعات التي سبقتنا في دروب العلم والاقتصاد.



[1] Robert Bierstedt, The Social Order, Tata McGraw Hill, (New Delhi 1970), p. 106  

[2] Bierstedt, ibid, p. 105

[3] See in this regard Gunnar Myrdal, Asian Drama: An Inquiry into the Poverty of Nations, V.3, New York, Pantheon Books; 1972, v. 3, p. 1544.

For a discussion on the topic, see Eric L. Jones, ‘Culture and its Relationship to Economic Change’ Journal of Institutional and Theoretical Economics (JITE) 151/2 (1995). PP.269-285

 www.jstor.org/stable/40751800

[4] Leonard Binder, Islamic Liberalism, (University of Chicago press 1988), p. 78

[5] See for example: James A. Bill, “Modernization and Reform from Above: The Case of Iran”, The Journal of politics vol 32, issue 1 (Feb. 1970) pp19- 40, P. 19 https://www.jstor.org/stable/2128863

[6] Johannes Hirschmeier, The Origins of Entrepreneurship in Meiji Japan, Harvard University Press 2nd ed. 1968, p. 207

[7] ميشيل تومبسون ، ريتشارد اليس ، وارون فيلدافسكي: نظرية الثقافة ، ترجمة علي الصاوي. عالم المعرفة 223  (الكويت 1997) ص 326

[8] لورانس هاريزون وصمويل هنتيغتون (محرران): الثقافات وقيم التقدم ، ترجمة شوقي جلال ، المركز القومي للترجمة ط2 (القاهرة 2009) ص 19

[9] للمزيد انظر نبراس خليل ابراهيم: النهضة الصناعية في عهد محمد علي باشا ، مجلة دراسات في التاريخ والآثار ، العدد 73 ، يناير 2020 ، صص 122-150 https://search.emarefa.net/ar/detail/BIM-1237261

[10] انظر بهذا الصدد إشارة مترجم الكتاب ، المرحوم شوقي جلال ، حين ورد المثال الكوري ، الى تأثير العامل الخارجي الذي لعب دورا مساعدا للجنوب ومعيقا للشمال. لورانس هاريزون وصمويل هنتيغتون ، المصدر السابق.

[11] Gabriel Almond & Sidney Verba, The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations, 1972, Princeton University Press, p. 19

[12] إبراهيم أيت إزي: قراءة في كتاب الاخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ، الحوار المتمدن ، العدد 3143 ، )3 أكتوبر 2010(. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=230855

[13] Gunnar Myrdal, v3, p. 1543

[14] محمد عابد الجابري : وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر  ، مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت 1992) صص 172-174

[15] جوشوا شيرنيس و هنري هاردي: ايزايا برلين ... حياته وفكره ،  ترجمة توفيق السيف ، (مدونة قلم 2020) https://talsaif.blogspot.com/2020/10/blog-post.html

[16] انظر مثلا تفسير الطباطبائي لآية الاستخلاف في محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الاعلمي ، بيروت ،  1/116

[17] نظير قوله تعالى "المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك - الكهف 46" وقوله "واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل – البقرة 205"

[18] نهج البلاغة – تحقيق الشيخ محمد عبده ، خطب الإمام علي (ع) 4/78  https://bit.ly/45YVoPJ

[19] انظر مثلا: شهاب الدين الحسيني: التلقيح الصناعي بين العلم والشريعة ، فقه أهل البيت ،  العدد 22-23 السنة 6 (2001) صص 139-174 ، ص 142. https://library-alnajaf.com/book/download/1136

[20]  Francis Fukuyama, Social Capital and Civil Society, (International Monetary Fund 2000) https://www.imf.org/external/pubs/ft/seminar/1999/reforms/fukuyama.htm

[21] طبقا لبيانات رسمية، بلغ عدد الجمعيات المسجلة في 2020 نحو 52,500 ، مقارنة بعدد سكان مصر البالغ 109 مليون. اليوم السابع (25 ابريل 2020). http://www.youm7.com/4743273

[22] Number of non-profit organizations in the U.S. from 1998 to 2016’, Statista (2023) https://bit.ly/40H6asQ

[23] يهمني لفت نظر القاريء الى ما سبق الاشارة اليه من اعتبارنا العامل الثقافي عاملا مؤثرا ، وليس وحيدا. لمعلومات اضافية انظر:

Sarah Ben Nefissa: NGOs, Governance and Development in the Arab World, MOST Programme, Unesco 2000.

[24]  Guido de Blasio & Giorgio Nuzzo, ‘Putnam's Social Capital and the Italian Regions: An Empirical Investigation, Research Gate, (December 2013) https://bit.ly/3QZGaFV

[25] القصة الكاملة لأحمد الريان.. الرجل الذى تحكم فى المليارات وعندما دارت الأيام لم يجد 700 ألف جنيه ثمناً لحريته –  اليوم السابع  17 اغسطس 2010  -  http://www.youm7.com/267215

[26] عطية نبيل: ما هي ظاهرة "المستريح" ولماذا تنتشر في مصر؟ بي بي سي نيوز عربي- (18 مايو 2022)  https://www.bbc.com/arabic/middleeast-61487103

[27] طبقا لتقارير صحفية فان عدد شركات توظيف الاموال التي صنفت متعثرة (يطلق عليها في السعودية اسم المساهمات) بلغ 656 في مطلع 2019. تم تصفية 275 منها حتى تاريخه. وتخص هذه البيانات المساهمات العقارية فقط. أرقام (8 يناير 2019) https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/588688

للاطلاع على قصة "مساهمة سوا" وهي شركة توظيف اموال في غير العقارات ، انظر محمد حضاض: الجهني.. أعترف بالنصب والاحتيال، عكاظ (11 فبراير 2009) https://www.okaz.com.sa/article/244269

[28] للمزيد حول الموضوع ، انظر عادل قنيبو: "ظاهرة الرقية الشرعية بين مطلب العلاج والجدل الاجتماعي والديني" ، مؤمنون بلا حدود (12 سبتمبر 2022)    ww.mominoun.com/pdf1/2022-09/631fa1734c4dd1346721095.pdf

وحول انتشار قنوات الرقية والسحر في مصر وغيرها ، انظر ايناس الشيخ ورضوى الشاذلي: النصب باسم القرآن الكريم ، اليوم السابع (17 ابريل 2015) http://www.youm7.com/2144499

[29]  لورانس هاريزون وصمويل هنتيغتون ، المصدر السابق ، ص 22

[30] انظر ساره كيتينج: تجربة سنغافورة في "تغيير سلوك الشعب" بي بي سي (27-فبراير-2018) https://www.bbc.com/arabic/vert-fut-43204892

[31] مالك بن نبي: بين الرشاد والتيه ، دار الفكر (دمشق 2002) ص 121

[32] ماكس فيبر: الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ، ترجمة محمد علي مقلد ، مركز الانماء القومي (بيروت د. ت.) ص 145

[33]  عبد العزيز الجلال: تربية اليسر وتخلف التنمية ،  عالم المعرفة (الكويت 1985) ص 14. انظر ايضا:

Najamul Saqib Khan, ‘Non-economic Factors in Development’, The Pakistan Development Review, 39: 4 Part II (Winter 2000) pp. 715–725, p. 720.  http://www.pide.org.pk/pdf/PDR/2000/Volume4/715-725.pdf

[34]  حول تاثير التعليم في النمو الاقتصادي ، انظر على سبيل المثال تجربة كوريا الجنوبية:

Jae Won Kim, ‘The Role of Education in Economic Development—The Korean Experience’. In: Klenner, W. (eds) Trends of Economic Development in East Asia. Springer, Berlin, (Heidelberg 1989). https://doi.org/10.1007/978-3-642-73907-1_37

[35]  سالم هاشم ابو دله: التعليم والمعارف في العراق خلال الحقبة الزمنية (1534-1933م) ، مجلة اهل البيت ، ع 22 (مارس 2018) ص 277.  https://abu.edu.iq/research/articles/13867

[36] Gunnar Myrdal, Asian Drama: An Inquiry into the Poverty of Nations, V.3, New York, Pantheon Books; 1972, p. 1538

[37] للاطلاع على بعض المباديء الهامة التي جرى تبنيها في "ندوة التنمية لأقطار الجزيرة العربية المنتجة لـلـنـفـط" عام 1980 ، انظر عبد العزيز الجلال ، المصدر السابق ، ص 109.

انظر أيضا مقترحات لجنة الجنوب في يوليوس نيريري (محرر): التحدي امام الجنوب ، تقرير لجنة الجنوب ، ترجمة عطا عبد الوهاب ، مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت 1990) ص 160

[38]  امارتيا سن: التنمية حرية ، ترجمة شوقي جلال. المركز القومي للترجمة (القاهرة 2010) ص 17

[39] امارتيا سن: المصدر نفسه ، ص 211

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...