‏إظهار الرسائل ذات التسميات العقل النقدي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات العقل النقدي. إظهار كافة الرسائل

30/12/2020

من الاجوبة الى النهايات المفتوحة

 

احاول بين حين وآخر تسجيل ملاحظات القراء على كتاباتي ، على أمل التحقق منها او القراءة حولها ثم مناقشتهم فيها. وتقتضي الصراحة القول بأني لم أوفق الا نادرا. فمراجعة تلك الملاحظات ، أثارت في أغلب الأحيان اسئلة جديدة. وهكذا يتوارى السابق في ظل تاليه. ومع الوقت ، بدأت استمتع بالتركيز على الاسئلة المثارة وتوضيح ما يتفرع عنها ، والاطار الموضوعي او النسقي الذي تدور فيه ، ثم ترك الجواب للقاريء ، يبحث عنه ويتأمل في احتمالاته ، ان كان ممن يستهويه التفكر والنظر والتأمل.


اعلم اني كسبت العديد من القراء ، الذين يحبون امعان النظر في الاشياء وملاحقة شوارد الافكار وشواذها. لكن قراء آخرين اظهروا ضيقا بما اعتبروه هروبا من الاجوبة الصريحة. ولعلهم ارادوا فكرة محددة ، هي موقف او مبرر لموقف تجاه القضايا المثارة في المجتمع. بعبارة اخرى فانهم – ان صح هذا الاحتمال - ارادوا كاتبا يجيب على الاسئلة التي يثيرها هو  أو غيره ، لا كاتبا يزيد الاسئلة او يتركها مفتوحة ويمضي.

تجربة التركيز على الاسئلة بدل الاجتهاد في تقديم اجوبة ، أعادتني الى فكرة "النهايات المفتوحة" التي كنت قد تعرفت عليها حوالي العام 2002 ، لكني لم اقتنع بها يومذاك. وفحوى هذه الفكرة ان التقدم ليس مهمة او مجموعة مهام تنجز في وقت محدد ، بل هو مسار مفتوح النهايات ، تتقدم خطوة فتكتشف عوالم اوسع ، تثير فضولك لمعرفة اعلى او اعمق وحاجة لتحديد علاقتك بهذه العوالم المجهولة. العلم مسار مفتوح النهايات ، والاقتصاد كذلك ، والقوة المادية في مختلف تجلياتها مثلهم ، وتطلعات البشر .. وهكذا.

لم اكن مقتنعا بفكرة "النهايات المفتوحة" حين طرحها احد اساتذتي في سياق نقاش علمي حول المفهوم العميق للشراكة المجتمعية. وكانت حجتي يومها ان منتجي الفكر ومروجيه ، عليهم واجب إرشاد الناس وتوجيههم الى الطريق السليم. في المقابل كان الاستاذ يلح على ان الفكرة لا تتطور اذا نقلت من "عقل أعلى" الى "عقل أدنى". وحسب تعبيره فان المفكر او المثقف او الاستاذ ، ليس شرطي مرور يخبر السيارات في اي اتجاه تذهب. انه اقرب الى مدرب فريق الكرة الذي يخبر اللاعبين عن افضل الممارسات في رايه ، لكنه يتكل بشكل شبه تام على ابداعهم الشخصي وتفاعلهم مع بعضهم ، اي ما يدعى روحية الفريق. لو استطعنا خلق تفاعل بين اهل الفكر والجمهور  ، يستلهم "روحية الفريق" ، فالمؤكد ان الفكرة الجديدة سوف تتطور بسرعة اكبر مما لو اشتغل عليها شخص واحد ، حتى لو كان اعلم الناس.

الطريق الطبيعي لتفاعل العقول هو طرح الاسئلة على الناس جميعا ، ودعوتهم للتأمل بحثا عن الاجوبة المحتملة. سوف نفترض ان منتج الفكرة لديه قدرة اكبر من المتلقي. لكن دوره لن يكون التفكير نيابة عن الناس ، واعطائهم اجوبة جاهزة ، بل اقتراح مسارات التفكير وايضاح الاطار الموضوعي والنسقي الذي يدور فيه السؤال.

اعتقد اننا لن نتوصل الى اجوبة نهائية او قطعية. لكن لو شئت الصراحة فاننا لانحتاج اجوبة كهذه. تكفينا معرفة الطريق الذي نسير فيه ، وتكفينا القناعة بان التناسب بين ما نعلمه وما لا نعلمه يماثل نسبة  القطرة الى البحر. لكننا مع ذلك لن نتهم انفسنا بالجهل ولن نتهم عقولنا بالقصور. نحن نجادل عالمنا ونجادل انفسنا ايضا. وكلما مضينا الى الامام اتضح الطريق أكثر ، واتضح مقدار جهلنا بتضاريسه. وهذه بذاتها مرحلة هامة في المعرفة.

الشرق الاوسط الأربعاء - 16 جمادى الأولى 1442 هـ - 30 ديسمبر 2020 مـ رقم العدد [15373]

https://aawsat.com/node/2710756/

مقالات ذات علاقة

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

كتب الطبخ هي الاكثر رواجا في معارض الكتب

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

عودة الى نقاش الدور التشريعي للعقل

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

نقاشات "عصر التحولات"

هكذا خرج العقل من حياتنا

شرع العقلاء

 

02/12/2020

الفلسفة في المدرسة


لفت نظري في الأسبوع المنصرم تصريحات وزير التعليم ، حول اعتزام الوزارة ادراج الفلسفة والتفكير النقدي في التعليم العام.

وكان الدكتور حمد آل الشيخ يتحدث لمركز الحوار الوطني في "اليوم العالمي للتسامح". وقال الوزير ان الخطة تستهدف تعزيز الايمان بحرية التفكير والتسامح ونبذ التعصب ، وتمكين الطلاب من ممارسة التفكير النقدي والفلسفي في حياتهم.

د. حمد ال الشيخ وزير التعليم

بالنظر للظرف الثقافي في المملكة ، فان هذه خطوة واسعة جدا في اتجاه الحداثة ، وهي تتلاءم تماما مع تطلعات المجتمع السعودي ، المعبر عنها في الجزء الخاص بالتعليم والثقافة من برنامج التحول الوطني.

لكن – للحق – فانها دعوة لكافة المجتمعات العربية ومن حولها من المسلمين. لقد كشفت تجربة العقدين الماضيين ، ان معدلات التعصب والتشدد كانت عالية ، وقد تراجعت ثقافة التسالم ، وهيمنت على نواحي الحياة قيم المفاصلة والمنابذة ، فتحولت مجتمعاتنا الى بيئة خصبة للتطرف السياسي والديني ، وبات العنف المنسوب الى العرب والمسلمين ، فقرة ثابتة في يوميات العالم.

لقد اجاد معالي الوزير ، حين ربط بين حرية التعبير والتفكير النقدي من جهة ، وبين التسامح ونبذ التعصب من جهة أخرى. دراسة الفلسفة والتدريب على التفكير النقدي ، تعني – بالضرورة – التعامل مع خيارات ذهنية متعددة ، أي تقبل التنوع والتعدد الثقافي. وهو في اعتقادي ، السلاح الأقوى ضد التشدد والعنف ، بل ضد كل نوع من أنواع الانغلاق والكراهية. كما انها الباب الاوسع للتدريب على التواضع ونبذ الكبرياء الفارغة.

واذا كان العلاج مشروطا بوضع الأصبع على الجرح كما يقال ، فلابد من القول ان ثقافة العرب والمسلمين (بشكل عام ولا اعني التفاصيل الجانبية) لا تحفل بمبدأ التعدد الثقافي ، ولا تقيم اعتبارا لتخالف الافكار ، بل تصنفه مثالا على الجهل او الافتتان. ينبغي القول أيضا ان هذا ليس امتيازا عربيا او اسلاميا ، فقد وسم تاريخ العالم كله ، من اقصاه الى أدناه ، بلا فرق بين أمة واخرى. لكن الله انعم على اوربا في القرون الثلاثة الأخيرة بانحسار الوهم القائل باحادية الحق ، وانتشار مبدأ التنوع واحترام حرية الاعتقاد وحرية التعبير ، وهو تطور قادهم الى نهضة عظيمة ، في العلوم والفنون والآداب ، وفي كل جانب من جوانب الحياة.

أما عندنا فقد سارت الأمور في الاتجاه المعاكس. فقد واجهنا انفتاح الغرب بالانغلاق ، وقابلنا نهضته بالهروب الى التاريخ.

اني عالم بما يحويه النص الديني الاسلامي ، من احترام للراي وحث على التفكر ، وربط للتكليف الديني بالحرية والاختيار. كما اني عالم ايضا بجناية من حبس الدين والنص في قفص الفقه ، وتركه ضيقا حرجا ، مليئا بالمحرمات والمحذورات.

ومن هنا فاني آمل ان تكون اضافة الفلسفة والتفكير النقدي الى التعليم العام ، إشارة تحذير الى دارسي العلوم الشرعية ، بل وعامة الناشطين في المجال الثقافي والتبليغ ، تحذير من غروب الزمن الذي كان الناس يقبلون منهم كل قول يتضمن آية او حديثا نبويا ، او قصة تنسب الى أحد رجال السلف ، او حكاية تحكى بلغة دينية او قريبا منها.

سيكون الجيل القادم اكثر الحاحا على الاساس العقلي للاحكام الشرعية ، واقل اكتراثا بما جرى في الماضي. اختلاف الجيل الجديد هو الامر الطبيعي ، ولا يمكن للتاريخ ان يكون على نحو آخر ، حتى لو تأخر  حدوثه سنة او بضع سنين ، فاعتبروا يا أولى الابصار.

الشرق الأوسط. الأربعاء - 17 شهر ربيع الثاني 1442 هـ - 02 ديسمبر 2020 مـ رقم العدد [15345]

https://aawsat.com/home/article/2659141

مقالات ذات علاقة

ان تكون مساويا لغيرك: معنى التسامح

اول العلم قصة خرافية
تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم
حول البيئة المحفزة للابتكار

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

حديث الى اصدقائي المعلمين

الحق الواحد والحق المتعدد: هل تراه معقولا؟

حقوق الانسان في المدرسة

سؤال التسامح الساذ: معنى التسامح

فتاة فضولية
المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

14/10/2020

هوية سائلة؟

 واجهت هذا التعبير خلال قراءة سابقة حول التحولات الاجتماعية ، وما يرافقها من تهميش للمفاهيم والقيم المؤثرة في حياة الجماعة. نعلم ان التغير في نفوس الناس يجري بسرعات متفاوتة: فالشباب اسرع تغيرا ، وأبناء الطبقة الوسطى  المدينية أكثر عرضة للتغيير ، كما ان ثبات الهويات الموروثة او انحسارها ، رهن بسعة العوالم التي يطرقها الشباب ، حين يبحرون في فضاء الانترنت.

سالت نفسي عن معنى ان تكون الهوية سائلة؟ فتخيلت هاتفا يقول لي: كيف تصورت عالما كاملا ليس له اي واقع مادي ، اسميته "الواقع الافتراضي" ، ثم تستغرب سيولة الهوية؟. سمها ان شئت بالهوية الافتراضية ، اي ذلك الوجود الذي لا يمكن تحديده في هيئة خاصة ، مع ان آثاره وتمثلاته تؤكد اهميته وامتلاكه لكل ما تتصف به الحقائق المادية.

- ما الذي أثار هذا السؤال؟

- لقد كنت أتأمل في مايقوله الطلبة وآباؤهم عن تجربة التعليم عن بعد ، وكيف أصبح العمل على الانترنت روتينا يوميا لمئات الآلاف من الشبان والشابات. هذه التجربة فرصة نادرة للتامل في تحول ثقافي واجتماعي ، يجري امام اعيننا ، وربما تترتب عليه آثار مدهشة.

المدرسة هي محور التجربة ، لأنها الرمز الابرز للنظام الاجتماعي السائد ، بما فيه من ضوابط وتراتب وتصور عن الذات والحياة. كان يفترض ان تلعب المدرسة دور عامل التغيير للاجيال الجديدة ، لكن لاسباب مختلفة ، تحولت على يد آبائنا الى قناة لتثبيت التقاليد والقيم الموروثة ، أي نقل الثقافة السائدة في الفضاء الاجتماعي الى الاجيال الجديدة ، كي يواصلوا المسار الذي ورثه الآباء عن الاجداد.

نحن نحاول جعل ابنائنا صورا مكررة عنا. ولهذا نشعر بالسخط اذا وجدنا سلوكهم مفارقا لما الفناه. ولعل بعض القراء يتذكر غضب المعلمين من الملابس غير المألوفة وقصات الشعر الغريبة عند الطلبة ، في السنين الماضية. نعلم ان هذه قد انتهت تقريبا ، لكنها لاتزال جديرة بالتحليل.

** لماذا كان بامكان المعلم ان يصرخ في وجه التلميذ اذا رأى شعره طويلا ، ولماذا يشعر الطلبة بالرهبة من المعلم والمدير والنظام المدرسي؟.

** الجواب ان ذلك النظام وما يحيط به من معان وتقديرات ، مصمم لتعزيز مفهوم مركزي واحد ، هو تفاوت القوة بين التلميذ والمعلم. يمكن للمعلم ان يصرخ في وجه الطالب ، لأنه يملك نوعا من السلطة ، ويصمت الطالب مخزيا لان موقعه في هذا الترتيب يحدد له هذا السلوك وليس غيره. ان حضور المعلم وهيئته ، وجدران المدرسة وابوابها المغلقة ، كلها مصممة كي تخدم فكرة "تفاوت القوة" بين التلميذ والمعلم.

اما الغرض من هذا الترتيب ، فهو جعل التلميذ مفتوحا ومهيئا كي تمارس المدرسة دورها في نقل الثقافة السائدة للجيل الجديد.

نحن الآن في واقع مختلف. ابرز ملامحه غياب فارق القوة الصريح  بين المعلم والتلميذ ، وغياب ما يحيط بالعلاقة بين الاثنين من ترتيبات ورموز السلطة. جدران المدرسة تركت مكانها لعالم لامتناه ، يجيد التلميذ الابحار فيه ، ويملك الادوات اللازمة للرحلة ، كل يوم ، بل كل ساعة لو شاء.

لهذا السبب فان المدرسة لم تعد قناة وحيدة لنقل الثقافة ، بل مجرد قناة بين عشرات ، بل مئات من القنوات الاخرى ، الاكثر لينا وربما الاكثر امتاعا وترحيبا. بعبارة اخرى ، فلن تقدر المدرسة على توليف هوية ابنائنا بعد اليوم ، وبالتالي فلن يكونوا على الصورة التي الفناها. ولا اعلم – وهم بالتاكيد لا يعلمون ايضا – ماهي الهوية او الهويات البديلة التي نتوقع ان يحملوها. ربما تكون هوية متحولة ، او حتى سائلة ، تتبدل بين حين وآخر ولا تستقر على حال.

الشرق الاوسط الأربعاء - 27 صفر 1442 هـ - 14 أكتوبر 2020 مـ رقم العدد [15296]

https://aawsat.com/node/2563231/

مقالات ذات صلة

أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج
 اول العلم قصة خرافية
تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع
التعليم كما لم نعرفه في الماضي
التمكين من خلال التعليم
حول البيئة المحفزة للابتكار
سلطة المدير
فتاة فضولية
المدرسة وصناعة العقل
معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

التخلي عن التلقين ليس سهلا

هوية سائلة؟

07/10/2020

سجن الارواح

غرض هذه المقالة هو توضيح المقصود بالتفكير الاخلاقي. أي كيف يضبط الناس علاقاتهم كي لا يتحول الاختلاف الى عداوة او طغيان.

والمتوقع في الغالب ان يلتزم الناس بشكل طوعي بالاحسان في تعاملهم مع بعضهم. لكن هذا لا يحصل دائما. لهذا تقوم المجتمعات بتحويل بعض القواعد الاخلاقية الى انظمة ملزمة (ومن الامثلة عليها تحريم الكلام العلني عن الفواحش ، ومنع الاساءة اللفظية والتهديد ، ومنع الاهمال المؤدي الى الضرر ، وغير ذلك) فهذه في الأصل قواعد اخلاقية ، كان المفروض ان يلتزم الافراد بها طوعا ، أي دون خوف العقاب او الطمع في الثواب. لكن الأمور لا تجري دائما على هذا النحو ، لهذا تحولت الى قانون.

رغم ذلك ، فان غالبية القواعد الاخلاقية بقيت اعرافا عاما ، يلتزم الناس بها عن طيب خاطر. وينبغي القول للمناسبة ان اسوأ المجتمعات حالا ، هي تلك التي تركت الالتزام الطوعي بالمعروف ، وحولت معظم اعرافها وقواعدها الاخلاقية الى قوانين ملزمة ، فباتت حياة الافراد مقيدة ومحدودة ، لا يتحركون الا بامر ولا يتوقفون الا بأمر ، وبات الخوف من العقاب والغرامة والسجن ، هاجسا يسيطر على نفوس الناس طوال يومهم. وأذكر لهذه المناسبة حادثا شهدته في منتصف ثمانينات القرن العشرين ، حين لقيت استاذا جامعيا في ديار بكر ، جنوب تركيا ، فتحدثنا في مسائل شتى ، وحين سألته عن تاثير الحكم العسكري – الذي كان قائما وقتها – على الجامعات ، التفت يمينا وشمالا ، ثم نهض وودعني من دون كلام. وفي اليوم التالي ابلغني صديق مشترك ان الرجل يأسف ، لأنه شعر بخوف شديد لمجرد وصول الكلام الى الوضع السياسي القائم.

لا يوجد مجتمع من دون اخطاء او مشكلات ، صغيرة أو كبيرة. المجتمع الذي يعاقب افراده  على كل خطأ ، والمجتمع الذي يمتنع أفراده اختيارا عن ارتكاب "أي" خطأ ، سيتحول الى سجن للروح ، سيكون اقرب الى حظيرة دواجن ضخمة وليس مجتمعا للناس. لا اعلم ان كان احد القراء قد زار حظائر الدواجن الحديثة ، فالدجاج الذي فيها يقضي معظم وقته ذليلا ناعسا صامتا ، يأكل ثم يتراجع ، ليبقى من دون حركة طوال ساعات. هذا هو المثال الاقرب الى المجتمع الشديد الانضباط.

 اما المجتمع الاعتيادي فهو مجال حيوي مفتوح للخطأ والصواب ، يتصارع الناس فيه من اجل مساحة او مكانة او مال او فكرة ، او غير ذلك. التكاثر غريزة طبيعية في البشر ، وهي – في اعتقادي – من اسرار تقدم الانسان. الاختلاف ثم الصراع نتيجة طبيعية لنشاط تلك الغريزة. وهذا هو الذي حمل البشر على تطوير المثل والقواعد الاخلاقية ، التي تساعدهم على تقليل الاحتكاكات الضارة فيما بينهم ، وحل المشكلات اذا وقعت.

التفكير في الاخلاق إذن ، هو الفحص المنتظم للعلائق التي تربط البشر الى بعضهم ، والقواعد التي يتبعونها في فهم الاشياء وادراكها ، واختبار المصالح والمثل التي تشكلت على ضوئها أساليب العيش والتعاملات العامة ، وانظمة القيم التي تحدد اغراض حياتهم. منظومات القيم هذه عبارة عن اعتقادات حول الكيفية التي ينبغي للحياة ان تعاش ، كيف ينبغي للرجال والنساء ان يكونوا ، وماذا ينبغي لهم ان يفعلوا.

نحن بحاجة الى الاخلاق لاننا بشر خطاؤون ، ولو لم يكن ارتكاب الخطأ طبعا لازما لحياتنا ، لما كان ثمة حاجة لأي من القيم الاخلاقية او آداب السلوك.

الشرق الاوسط   الأربعاء - 20 صفر 1442 هـ - 07 أكتوبر 2020 مـ رقم العدد [15289]

https://aawsat.com/home/article/2550031

مقالات ذات علاقة

اساطير قديمة

ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق الآيديولوجي والثقافي؟

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها الق...

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي...

الحرية والانفلات

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

كلمة السر: كن مثلي والا..!

مجتمع الخاطئين

مجتمع العبيد

مدينة الفضائل

نافذة على مفهوم "البراغماتية"


16/09/2020

العلم والحيرة


تتعلق الافكار التالية بحالة مغفلة وربما غير مستساغة ، مع انها تشكل – في رايي – جوهر مفهوم التعليم وسر المعرفة. ولذا سأغامر بالادعاء بان قبولها او رفضها يحدد طبيعة العلاقة المفترضة بين المعلم والمتعلم. دعني اسمي هذه الحالة ب "الاطمئنان او الحيرة".

التعريف المبسط للاطمئنان ينسبه للشعور المتولد في نفس الانسان ، حين ينجح في حل مشكلة ، أو يجيب على سؤال يشغل ذهنه. أما الحيرة ، فهي حالة الانسان الذي يقف امام المشكلة عاجزا عن حلها ، وغير عارف بالطريق الذي يوصله الى الجواب. عندئذ يسيطر السؤال على ذهنه فيشغله عن كل شيء. ولعلك سمعت يوما من يقول بان انشغاله الذهني قد سبب له الارق. وربما ترى شخصا ساهما ، منشغلا عن كل ما يدور حوله ، فهو معك بجسده ، لكن عقله وقلبه في مكان بعيد. فهذه امثلة عن الحيرة.

مادمنا بدأنا بالحديث عن التعليم ، فالمؤكد ان اذهانكم مشغولة الان بسؤال: هل يستهدف التعليم توفير الاطمئنان في نفس التلميذ ام اثارة حيرته؟.

قبل الجواب ، يهمني استبعاد التقنيات البسيطة ، التي يقع الناس في خلط بينها وبين العلم. حين تشتري ثلاجة مثلا ، يطلب منك صانعها ان تقرأ دليل الاستعمال ، الذي يحوي معلومات تقنية ابتدائية ، لكن هذا الدليل لايخبرك عن هندسة التبريد او المفاهيم العلمية التي بنيت على ضوئها الثلاجة. ولو اخبرك بهذه التفاصيل لاوقعك في حيرة شديدة. ولهذا ينصحون عادة بجعل دليل الاستعمال مصورا ، يحوي الكثير من الاشكال والالوان والقليل من الكلام ، وان يكون بسيطا "كي لايشوش ذهن المستعمل".

أما الطالب الذي يدرس هندسة التبريد في الجامعة ، فانه لايقرأ دليل استعمال الثلاجة ، بل يبحث عن مصادر مليئة بالتفاصيل والشروح الفنية الدقيقة والمعادلات.. الخ. بعبارة اخرى فان المهندس يبحث عن العلم ، مع انه كثير التفاصيل ، وقد يؤدي الى تشويش ، بخلاف مستعمل الثلاجة الذي لم يكن بصدد البحث عن العلم اصلا. المقصود اذن ليس "دليل الاستعمال" او التقنيات الابتدائية.

العلم لايؤدي للاطمئنان ولا اليقين. يتولد العلم من السؤال والشك ، وكلما ازداد العلم ، ازداد معه التشويش والشك الذي يثيره. ثم ان العلم لايعطيك جوابا نهائيا ، بل يقودك من سؤال اولي الى سؤال متقدم او شك مضاعف. من يبحث عن الاطمئنان واليقين ، فلن يجده في العلم. والمقصود هنا هو البحث العلمي الذي غرضه التوصل الى اجوبة او حقائق جديدة ، او نقد اجوبة قائمة.

*** هل ينبغي لنا ان نجعل هذا عمود الخيمة في تعليم الاطفال والشباب؟

*** الجواب نعم.

أعلم ان كثيرا من الناس يريدون بابا مواربا. فيقولون مثلا: دعنا نشحن عقول اطفال الابتدائية والمتوسطة بالمعلومات الجاهزة ، فاذا انضموا للثانوية والجامعة ، نقلناهم الى مرحلة البحث والتفكير ، لانهم اذ ذاك ناضجون يحتملون الشك والحيرة.

 لكن هذا وعد مستحيل. اذا بدأ تلميذ الابتدائية بالركض وراء الاسئلة ، فسوف يواصل وينضج في المراحل التالية. واذا بدأ بنظام "تكديس البيانات في الخزنة" اي التلقين ، فلن يستريح لأي طريقة بديلة. لقد جربت شخصيا الطريقة المعتادة في حلقات العلم الشرعي ، وهي تدمج بين الطريقتين: السعي لتوليد الاطمئنان + البحث عن فكرة جديدة ، لكني وجدت ان الطريقة الاولى هي التي ستهيمن في كافة الاحوال ، الا القليل النادر. ولهذا فلن يفيدنا التفكير في ابواب مواربة او طرق مشتركة او حلول وسط.

الأربعاء - 29 محرم 1442 هـ - 16 سبتمبر 2020 مـ رقم العدد [15268]

https://aawsat.com/NODE/2510041/

 مقالات ذات علاقة

02/09/2020

التخلي عن التلقين ليس سهلا

 


لا أغالي لو قلت ان جميع من دعوا لتطوير التعليم المدرسي ، متفقون على نقطة واحدة في الحد الأدنى ، وهي التخلي عن اسلوب "التلقين" واعتماد التعليم التفاعلي ، حيث يمسي الطالب شريكا في تشكيل موضوع الدرس. لكني ايضا ازعم ان غالبية المعلمين المؤمنين بهذه الفكرة لايطبقونها أبدا.

فكرة التخلي عن "التلقين" ترجع الى 30 عاما على الأقل. وقد كتب عنها عدد من وزراء التربية ووكلائهم ، قبل تولي مناصبهم او بعد تقاعدهم ، مما يؤكد قناعتهم بالفكرة. لكننا رغم مرور تلك المدة الطويلة ، لانزال مشغولين بمناقشة الموضوع ، ونشعر انه لم ينضج بعد.  اليست هذه مفارقة محيرة؟.

أعلم ان نظام التعليم العام قد تطور بشكل ملموس خلال العقد الجاري. كما اعلم ان المعلمين باتوا أكثر كفاءة واستيعابا لمناهج التعليم الحديث وما تنطوي عليه من تحديات.

لكن دعنا نطرق زاوية ، ربما لم يلتفت اليها اكثر الناس ، او لم يرغبوا في نقاشها. وهي تشكل التحدي الأهم في التعليم التفاعلي ، اعني بها ما ينتج عنه من بروز لفردانية الطالب واستقلاله.

بيان ذلك: لو سالني معلم عن محور التعليم التفاعلي وجوهره ، لقلت انه استثارة ذهن الطالب وتشجيعه على ان يفكر ، اي ان يرتكب الأخطاء دون خوف. وهذا بدوره يعزز فردانية الطالب واستقلاله. سوف اعود في مقال لاحق لشرح العلاقة بين التعليم وارتكاب الاخطاء ، لكن دعنا نركز الآن على نقطة الاستقلال والفردانية:

تبرز فردانية الشاب حين يعتاد على البحث والتجريب بنفسه. سيقوده البحث الى عوالم وآراء جديدة ، وسيتصل بمحيط اجتماعي/ثقافي ، وراء المحيط المحمي باعراف الجماعة ، اي انه سيعيد تكوين هويته واكتشاف ذاته المستقلة والمختلفة عن ابيه ومعلمه ، بل عموم الجيل الذي يتوقع من الابناء ان يكونوا "مطيعين" وملتزمين بالاداب والاعراف المتوارثة.

التعامل مع هذا التحدي أمر مقلق حقا للآباء والمعلمين ، ومن يوازيهم في المرتبة او الدور. نحن ننظر الى نظام التعليم المدرسي كامتداد للتنشئة العائلية. ونفكر في ابنائنا كامتداد مادي وثقافي لاشخاصنا ، وننزعج أشد الانزعاج اذا سمعنا انهم تباعدوا عنا ، في تفكيرهم او سلوكياتهم او التزامهم باعراف الجماعة وتقاليدها ، بل حتى لو لبسوا أزياء غير ما اعتدنا لبسه.

في المقابل ، فان الغرض الأول للتعليم المدرسي ، هو اعداد الجيل الجديد لزمن مختلف وتحديات مختلفة. ولهذا احتاج الى معلمين محترفين. نحن نرى هذا كل يوم في حديث الناس ، عن عدم التواؤم بين مايسمونه "مخرجات التعليم" وحاجات سوق العمل. اني اخالف هذه الفكرة. لكن تكرارها على السن الناس ، يؤكد قناعتهم بان على المدرسة ان تؤدي دورا مختلفا عن ذلك الذي يؤديه الابوان في المنزل.

نحن إذن امام تعارض جدي بين إرادتين تنشطان في اتجاهين متعاكسين: ارادة تريد أن يكون الابناء استمرارا للآباء وتاريخهم ، وارادة تريد قطع الحبل السري الذي يشدهم الى هذا التاريخ ، كي يكونوا جزء من مستقبل مختلف.

السؤال الذي يجب طرحه هنا: الى اي درجة يود المعلم ان يرى طلابه مستقلين عنه ومتحررين من توجيهه؟. والى اي حد يسمح الآباء لابنائهم بالاستقلال ، في ثقافتهم وسلوكهم وما يتبنونه من قيم؟. وأخيرا ، وهذا هو الاكثر جدية في نظري: هل تريد الادارة الرسمية القائمة على التعليم بلوغ هذه النقطة ، ام ان حديثها عن "التعليم التفاعلي" ينصرف الى  المعنى التقني فحسب؟.

الأربعاء - 15 محرم 1442 هـ - 02 سبتمبر 2020 مـ رقم العدد [15254]

https://aawsat.com/node/2482806/

مقالات ذات علاقة

12/06/2019

اجماع العلماء ... الا ينشيء علما؟




||لا نأخذ براي الفيلسوف في أمور الدين. لكننا نستمع اليه لتوسيع معارفنا الدينية وغير الدينية. كما اننا لا نأخذ الراي الفلسفي من الداعية او القائد ، فدوره هو تعزيز التقليد ، اي تاكيد ما هو مستقر||
لطالما لفتت نظري الأفكار القيمة التي قدمها علماء الطبيعة ، حينما كتبوا في الفلسفة ، أو قدموا آراء تندرج بطبيعتها في اطار الفلسفة. ان اطلاعي في هذا الحقل محدود. لكن عددا ملحوظا من الفلاسفة الذين قرأت لهم ، جاؤوا الى الفلسفة من الفيزياء على سبيل المثال. هكذا كان اينشتاين وكارل بوبر وتوماس كون. وكثير غيرهم. يشغل ذهني سؤال العلاقة بين الفلسفة وعلم الطبيعة ، ويؤلمني انني فقير في هذا الجانب وعاجز عن تفصيح الاسئلة ، فضلا عن تقديم اجوبة.
ستيفن هيل
ستيفن هيل
ما دعاني لاستذكار هذا الموضوع اليوم ، مقال لعالمة الكيمياء السعودية د. غادة المطيري ، عنوانه "إجماع الآراء لا يصنع علما". استعرض المقال بعضا من معاناة ستيفان هيل ، وهو عالم روماني – الماني ، برهن بما يقطع الشك ، على ان اتفاق مئات العلماء على رأي بعينه ، لا يحول هذا الرأي الى حقيقة.
كان هيل اول من أثبت امكانية تجاوز الحدود التي رسمتها "معادلة آبي" اي مجموعة الحسابات التي وضعها المخترع الالماني ارنست كارل آبي في 1873 حول الحدود النهائية لقدرة الميكروسكوب. واعتبرت منذئذ ، حقيقة موضوعية لا يمكن مخالفتها.
قضى هيل سنوات طويلة ، يواجه السخرية والتهميش في المجتمع العلمي ، لأن ادعاءاته "تخالف المنطق السائد ، أي الرأي الذي اجمع عليه العلماء طيلة قرن ونصف". لكنه في نهاية المطاف نال التقدير الذي يستحقه ، ، ومنح جائزة نوبل للكيمياء في 2014.
حسنا.. ما الذي يدعونا لهذا الحديث اليوم؟ يواجهني دائما سؤال: هل يصح الأخذ برأي لباحث أو مفكر معاصر ، وترك آراء اجمع عليها المئات من مفسري القرآن والفقهاء طيلة قرون؟ 
تنطوي في هذا السؤال ثلاثة موضوعات مختلفة تماما. لذا سنحتاج الى استيضاح ما الذي يشغل بال السائل قبل مواصلة النقاش. أ) فلعل السؤال متعلق بالمنهج ، يمكننا قوله بصيغة اخرى: اتفاق العلماء على رأي بعينه ، الا يعطيه صفة العلم القطعي أو الموضوعي؟. ب) وقد يكون السؤال متعلقا بالحكم (التكليف الشرعي) ، اي: اذا احتجت لاستبيان تكليفي الشرعي ، فهل آخذ برأي يتبناه شخص واحد او عدد قليل ، ام أختار الرأي الذي  يتفق عليه اكثر العلماء؟.
ت) اما الموضوع الثالث فيتعلق بالاطمئنان او الانعكاس النفسي للعلم. وهو يتضح في سؤال: لو قبلنا بتعدد الاراء في امور الدين وتغيرها بين حين وآخر ، الا يؤدي هذا الى اضعاف حالة الاطمئنان الضروري للتدين؟. 
اعتقد ان كل من يريد التفكير في أمور الدين ، يحتاج لفهم الفارق بين الموضوعين الأول والثاني: العلم والحكم. فالحكم لا تأخذه من عشرات العلماء ، بل من عالم واحد تطمئن إليه. وقد يكون أقل تمرسا وخبرة من سواه.  مثلما تختار الذهاب الى طبيب أقل شهرة أو خبرة من غيره ، لأنك ترتاح الى طريقته في العمل او مقاربته للمشكلات.
الاجماع على رأي يزيد قيمته العلمية ، ويجعله مطمئنا اكثر. لكنه لا يلغي احتمالات وجود رأي أصوب منه أو أكثر تقدما. ان تثبيت الاطمئنان هو دور الداعية والقائد. اما العالم فدوره تفكيك الاطمئنان وإثارة الاسئلة ، أي توسيع دوائر الشك. نحن لا نتبع العالم في أمور الدين. لكننا نستمع اليه لتوسيع معارفنا الدينية وغير الدينية. كما اننا لا نأخذ العلم من الداعية او القائد ، فدوره هو تعزيز التقليد ، اي اتباع ما هو مستقر ، وليس الابداع او الابتداع. العالم دليل الى المستقبل بقدر ما الداعية او القائد تاكيد لحضور التاريخ.
مقالات ذات علاقة


الشرق الاوسط الأربعاء - 8 شوال 1440 هـ - 12 يونيو 2019 مـ رقم العدد [14806]


23/03/2016

أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج



حسنا فعل د. حمد العيسى وزير التعليم بعرض رؤيته العامة لاتجاهات الاصلاح في النظام التعليمي وأبرز الصعوبات التي تواجه مهمته (الحياة 20-3-2016). هذه مسألة يعتبرها السعوديون اهم قضاياهم على الاطلاق.

دار معظم النقاشات المحلية في السنوات الاخيرة حول المحتوى العلمي للمناهج وكفاءتها في الاستجابة لحاجات سوق العمل. ويهمني هنا الاشارة الى جانب آخر ، هو فلسفة العمل داخل النظام التعليمي نفسه وانعكاسه على نظيره في السوق.

خلال الثلاثين عاما الماضية زاد عدد السعوديين الذين تخرجوا من جامعات غربية او درسوا تخصصات علمية بحتة داخل المملكة عن نصف مليون. لكن مازلنا نستعين بخبراء وشركات استشارية اجنبية ومقاولين اجانب في تنفيذ معظم المشروعات الكبرى.

هذا لا يدل على ان طلابنا غير مؤهلين ، بل يؤكد ان "بيئة العمل" سلبية في التعامل معهم. نجاح الاستشاري والمقاول الاجنبي لا يرجع لكفاءة موظفيه بل كفاءة منظومة العمل. تعرفت في السنوات الاخيرة على عشرات من الشبان السعوديين ، كانوا مغمورين في وظائف ثانوية  في القطاع الحكومي او في شركات محلية ، فلما انتقلوا الى شركات اجنبية ، اصبحوا "بيضة القبان". ظهرت كفاءاتهم وقدراتهم ، وباتوا العصب الرئيس لهذه الشركات.

لطالما سألت – مازحا – اصدقائي العاملين في البنوك: متى ستملك بنكك الخاص؟. هؤلاء الشبان يديرون اعمال البنك اعلاها وادناها ، فلماذا نشعر بالحاجة الى "مشرف" امريكي او بريطاني او هولندي او فرنسي؟. هذا الكلام بعينه ينطبق على معظم مقاولي ارامكو مثلا. فالمهندس السعودي يشارك في وضع المخططات ويدير تنفيذها. فمتى سنثق بقدرته على استلام العمل كاملا؟.

في "بيئة العمل السلبية" يقتصر دور الموظف على اتباع قائمة تعليمات وضعها آخرون. هذا يساوي غالبا ان يضع عقله في الدرج حتى نهاية الدوام.

اول الطريق لتصحيح بيئة العمل ، هو تطبيق مفهوم "الشورى" ، اي النظر لمجموعة العمل كفريق مسؤول عن منظومة ، يتشارك في النقاش حول اهدافها ووسائلها وحقوق اعضائها وواجباتهم ومعايير النقد والمحاسبة على تلك الاعمال.

-         هل للمدرسة او الجامعة دور في هذا؟

اشار الوزير العيسى في مقاله الى "التلقين" كمحور لعلاقة المدرسة بالطالب. وهذا في ظني جوهر مشكلة التعليم في العالم العربي ككل. يقوم التلقين على فرضية ان الطالب عنصر سلبي منفعل ، كأس فارغ يملأه الكبار.

نحن نحتاج لتعزيز الروح الجمعية في الجيل الجديد ، لكنا نواجه حقيقة مزعجة فحواها ان قيمة الفرد غفل في ثقافتنا العامة ، نعتبر الشاب مجرد "برغي" في مكينة المجتمع ، يزرعه ويديره اخرون ، ويبقى فعله ودوره مشروطا بارادة الاخرين. هذا الفهم الاعوج سائد في علاقة المعلم بالطالب وفي علاقة المعلمين بالادارة وعلاقة المدرسة بمدير التعليم والوكيل والوزير. انها سلسلة كاملة قائمة على علاقة سلبية من الادنى للاعلى.

حين ينتقل الطالب الى العمل ، فسوف يطبق ما تربى عليه ، ما ألفه وعرفه. بعبارة اخرى فان بيئة العمل السلبية هي نتاج لفلسفة سلبية بدأت في المجتمع والمدرسة.

زبدة القول ان للتعليم العام دورا مؤثرا في تصحيح بيئة العمل ، بما يؤدي الى تمكين الشباب من الامساك بمفاصل الاقتصاد الوطني ونظام الخدمات العامة. لكن هذا مشروط بتصحيح بيئة التعليم والعمل في المدرسة وفي وزارة التعليم نفسها. لا يمكن للوزارة ان تعالج مرضا في المجتمع ما لم تبدأ باكتشافه وعلاجه في جسدها الخاص. اذا اصبحت بيئة العمل في المدرسة ايجابية تفاعلية ، فسنرى انعكاسها في السوق ، والعكس بالعكس.

الشرق الاوسط 23 مارس 2016 http://aawsat.com/node/598476

مقالات ذات صلة


أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج

 اول العلم قصة خرافية

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

سلطة المدير

فتاة فضولية

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

التخلي عن التلقين ليس سهلا

هوية سائلة؟

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

  ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024 توفيق السيف يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال : هل ساهمت ...