‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاجتهاد. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاجتهاد. إظهار كافة الرسائل

19/04/2023

الاجتهاد خارج اطار المذهب


القى الشيخ صالح المغامسي ، وهو فقيه سعودي معروف ، صخرة ضخمة في بحيرة هادئة نسبيا ، يوم دعا لفتح الباب امام الاجتهاد المطلق ، بما يؤدي لظهور مذاهب فقهية جديدة.

نعلم ان الجدل الذي اعقب الدعوة راجع للقسم الثاني ، اي المذاهب الجديدة ، مع ان جوهرها في القسم الاول ، اي الاجتهاد المطلق. وقد مهد له بالتأكيد على ان علم الفقه صنعة بشرية ، ولذا تختلف آراء الفقهاء باختلاف الازمان والظروف.

الشيخ صالح المغامسي

ثمة أسباب عديدة تبرر مواقف الداعين لاجتهاد مطلق ، وثمة مثلها أسباب لرفض الدعوة في الجملة او في التفصيل.

اهم المبررات الداعمة هي حاجتنا لعقلنة التفكير الديني واحكام الشريعة. بديهي ان العقلنة المقصودة ليست مقابل الجنون او السفه ، بل العقلنة بالمعنى المعاصر ، أي ربط المقدمات والمعايير بما تفضي اليه من نتائج. وقبل ذلك إقامة البحث على فرضيات علمية قابلة للاثبات المادي او المنطقي. خلفية هذه الفكرة ان العلم الحديث قد تطور وترك آثاره في مختلف جوانب الحياة ، بل أمسى ضرورة للحياة السليمة الكريمة. ومن هنا اعتمد الانسان المعاصر في حياته كلها تقريبا على نتاج العلم ، كما جعل المنهج العلمي أساسا لاتخاذ أي قرار.

ونتيجة لهذا التطور فان بعض الاحكام الفقهية القديمة لم تعد بديهية في نظر الناس ، بل أمست مورد شك ، في مطابقتها لواقع الحياة وحاجاتها ، والنتائج التي تؤدي اليها إذا طبقت ، قياسا بالأخلاقيات والنظم المماثلة التي توصل اليها العلم الحديث. ونضرب على هذه الحجة مثالين ، أولهما يتعلق بالمعاملات التي يعتبرها الفقه التقليدي ربوية ، وهي تشمل كافة المعاملات المصرفية تقريبا ، فضلا عن العقود المستحدثة كالتأمين والبيع بالاجل وبيع البضائع التي لم تنتج بسعر غير محدد ، وأمثالها من المعاملات التي لم تكن معروفة او مقبولة في الأزمنة السابقة ، لكنها باتت اليوم عنصرا أساسيا في الاقتصاد والمعيشة ، بحيث لا يصح القول انها تفضي للفساد او تمحق الرزق ، كما قيل في تبرير منعها. بل على العكس ، نستطيع الجزم بأنه لولا النظام المصرفي الحديث ، لبقيت الثروات العامة والخاصة تدور في محيط ضيق جدا "دولة بين الأغنياء منكم" كما ورد في التنزيل الحكيم. ولولا الدين ، أي تأجير المال ، لما رأينا هذه الاستثمارات الضخمة ، الضرورية لازدهار الحياة وتوليد الوظائف واستئصال الفقر.

المثال الثاني يتناول الاحكام المتعلقة بوضع المرأة ودورها في الحياة العامة. فالتفكير الديني بعمومه ، وكل احكام الفقه تقريبا ، تميل لعزلها واعتبارها جزء من الحياة المنزلية ، لمبررات أهمها انها ليست كفؤا للرجل ، فلا تقوم بعمله ولا تحتل مكانا مماثلا لمكانه. لكننا نرى بأعيننا ان هذه الفرضيات لم تعد صحيحة في زمننا ، وانه لا يمكن البناء عليها في انشاء حكم عادل او صحيح او مفيد.

زبدة القول ان المثالين يوضحان بجلاء ، وفي تجارب متكررة ، ان تلك الاحكام والفرضيات التي بنيت عليها ، لا تؤدي الى مصلحة لعباد الله ولا تصلح بلادهم. رغم هذا فهي موضع إصرار من جانب المدرسة الفقهية التقليدية في مختلف المذاهب.

والذي أرى ان المشكلة لا تتعلق بالاجتهاد في الفروع او الاجتهاد داخل المذهب ، ولا حل لها بتجديد أدوات تحرير او تحقيق المناط وفهم موضوع المشكلة ، كما ذكر العلامة الشيخ قيس المبارك مثلا. المشكلة تتعلق بالاجتهاد في الأصول ، أي منح العقل وعلم الانسان في كل زمن ، مكانا موازيا لمكانة الكتاب والسنة ، في تحديد ما هو مسألة شرعية وما ليس كذلك ، ثم تحديد المعايير العقلائية العادلة التي ينبغي ان يأتي الحكم مطابقا لمقتضياتها.

الاجتهاد في الأصول ضرورة لتمكين الدين من استيعاب حاجات العصر وأهله والرد على تحدياته. لكن هذا مستحيل ان بقينا في إطار المذاهب والطوائف واعتبرناها نهاية العلم.

الشرق الاوسط الأربعاء - 29 رَمضان 1444 هـ - 19 أبريل 2023 م

https://aawsat.com/node/4281891/

ان تكون مساويا لغيرك: معنى التسامح

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في علاقة الزمن بالفكرة

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

نقد التجربة الدينية

نموذج مجتمع النحل

06/07/2022

الرزية العظمى


سؤالان ، الأول: لماذا لا يستطيع عامة الناس مناقشة احكام الدين والمشاركة في استنباطها. الثاني: لماذا لا يسمح باخضاع الأحكام والقيم الدينية للنقد ، بناء على مستخلصات العلم وأحكام العقل؟.

لكلا السؤالين جواب واحد ، خلاصته ان فقهاء المسلمين لا يرون العقل أهلا لتشخيص المصالح والمفاسد ، او الانفراد بتحديد الحسن والقبيح من الأفعال ، وتبعا تحديد ما يترتب على الفعل من ثواب او عقاب.

وهذا نقاش قديم في الفكر الإسلامي ، تناول مصدر القيم ، والمرجع في تحديد ما هو حق وما هو خير ، وما يعاكس ذلك. وبسببه انقسم العلماء بين أقلية تدعي أن العقل مؤهل لادراك الحق وتحديد الحسن والقبح ، وأكثرية ترى أن تبني هذا الرأي سيقود للتساهل في الالتزام بأحكام الشريعة ، سيما تلك التي تنطوي على كلفة. كما قالوا ان اتباع أحكام العقل في العقائد ، سيفتح بابا لنفوذ افكار أجنبية غريبة عن روح الإسلام ومقاصده.

هل تفكر ثم تصدق ، ام العكس؟

ربما يظن القاريء أن إحياء النقاش في هذا الأمر قليل الجدوى. واقع الأمر اننا نواجه اليوم النتائج المريرة لتراجع الاتجاه العقلي (وتبعا قيمة العلم) في الثقافة الإسلامية ، حتى صرنا نقرأ لفقيه او استاذ جامعي او محام بارع او طبيب مشهور ، كلاما من قبيل (ان ابليس كان ملكا يعبد الله ، ثم انحرف عن الجادة حين استخدم عقله ، فقاس خلقه على خلق آدم) او تقرأ كتابة لفقيه يتبعه آلاف الناس ، ينقل فيها رواية فحواها (لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما). ومثل هذه الأقوال تعامل اليوم معاملة المسلمات ، بل البديهيات ،  ثم تتخذ حجة على قضية في غاية الأهمية والخطر ، أعني مكانة العقل والعلم ودوره في تحديد قيم الأفعال ، وهي اهم قضايا القيم في حياة الانسان كلها.

انني اتفهم تماما بواعث القلق الذي يعبر عنه المعارضون لدور العقل. لكني أود أيضا ان يتأملوا معي في سؤال بسيط: كيف فهموا ذلك الباعث ، وكيف فهموا بالتحديد الربط بين الباعث والمخاطر التي اثارت قلقهم؟. هل استعملوا عقولهم في التوصل الى هذا الرأي ، وهل يثقون في هذا النتاج العقلي؟. خذ ايضا مبرر التساهل في الالتزام بالشريعة.. هل يرونه لازما من لوازم القبول بنتائج العلم وحكم العقل ، أي هل الاخذ بحكم العقل علة للتساهل ، بحيث لا يمكن الفصل بين الاثنين. وهل نستطيع القول بلا تحفظ ان التساهل يعني التفريط ، ام انه ينصرف غالبا الى معنى الاخذ بأيسر الخيارين اذا تراوح الامر بين اليسر والعسر ، كما هو الحال في موارد اختلاف الفقهاء؟.

لكن هذا ليس جوهر المشكلة. جوهرها هو ادعاء إمكانية الاعتماد التام على النقل ، وتهميش دور العقل.  أقول ان هذا جوهر المشكل ، لأنه ينتهي (دائما) بولادة واجبات ومحرمات اصطناعية ، لا أصل لها سوى الميل للاحتياط الشديد. ونعرف هذا بوضوح في احكام السفر والعلاقة مع غير المسلم ومكانة المرأة والتشريعات الاقتصادية والمسافة بين الاخلاقيات والشرعيات.. والكثير من القضايا التي حولت الدين الحنيف الى موضع للجدل والسخرية ، كما ساعدت في انحساره يوما بعد يوم في المجال العام.

لهذه الأسباب ، لا أراني مجازفا لو زعمت أن تهميش مكانة العلم ودور العقل ، وأعني به العقل العام او ما يعرف ببناء العقلاء ، كان من اكبر الرزايا في تاريخ الإسلام وفي حاضره ، واننا في أمس الحاجة للعودة الى جوهر ديننا ، الذي جعل العقل في مرتبة واحدة مع نص القرآن وكلام الرسول ، في التشريع وفي إدارة الحياة وفي صناعة القيم أيضا.

الشرق الأوسط الأربعاء - 6 ذو الحجة 1443 هـ - 06 يوليو 2022 مـ رقم العدد [15926]

https://aawsat.com/node/3742416

مقالات ذات صلة

 

الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حول الفصل بين الدين والعلم

حول المسافة بين الدين والمؤمنين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

كي لايكون النص ضدا للعقل

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم

نسبية المعرفة الدينية

نقاشات "عصر التحولات"

هكذا خرج العقل من حياتنا

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

 

05/01/2022

مسار التمايز بين الدين والمعرفة الدينية


ثمة بين الناس من يظن بأن أحكام الشرع ثابتة ، لا تختلف بين زمن وآخر. وان ما يقوله فقهاء اليوم هو عين ما جرى على لسان الرسول والصحابة. اما عموم المسلمين فيعرفون بان الأحكام الشرعية والقوانين والقيم والأعراف والتقاليد والآراء ، تتغير بمرور الزمن واختلاف الظروف المعيشية وحاجات الناس.

هناك تفسيرات عديدة تدعم هذه الفكرة ، أبسطها في ظني هو التمييز بين الدين والمعرفة الدينية ، بين النص المقدس وما يفهمه الناس من ذلك النص.

نعلم ان فهم الخطاب الشرعي عملية تفاعلية ، تتأثر بالمجال الحيوي والظرف الاجتماعي الذي يعيشه المكلف ، فضلا عن ذهنية المكلف نفسه. هذه المؤثرات تتغير بين زمن وآخر ، كما تختلف بحسب عوامل البيئة الطبيعية والاجتماعية ، ولاسيما علاقة الانسان بالطبيعة ومدى فهمه لها وتحكمه فيها.

ومنذ البدايات المبكرة لتفكير الانسان في الدين ، كان ثمة تجاذب بين طرفين: طرف يدعو لقبول المعنى المتولد من ظاهر النص المقدس ، سيما النص الصريح المحدد ، وطرف يدعو لتجاوز الظاهر والعبور من اللفظ الى الرسالة المخزونة فيه.

والذي لاحظته خلال سنوات طويلة من البحث والمتابعة ، ان غالبية المهتمين بعلوم الشريعة (بل وحتى عامة الناس) مقتنعون بالرأي الثاني ، أي عبور اللفظ الى ما وراءه. لكنهم عند التطبيق وفي الاستشهاد والمحاججة ، يذهبون الى الرأي الأول. فتراهم يبحثون عن نص صريح ، آية قرآنية أو حديث نبوي ، يقول على وجه الدقة ما يريدون الاحتجاج له او الاستشهاد عليه.

والحق ان هذه معضلة ، أبرز ما يترتب عليها هو إبقاء البحث في النص المقدس سطحيا ، ومحصورا في المجال اللغوي ضمن المنهج القديم.   

قدم العديد من المفكرين المعاصرين محاججات قوية ، على ان الوعاء اللفظي للنص لاينبغي ان يحدد معناه النهائي. وذلك لأن اللغة منتج بشري ، يتأثر – مثل سائر منتجات البشر – بالظرف الموضوعي لصانعه ومستعمله ، أي ما أسماه الفلاسفة التأويليون "الأفق التاريخي" للمتلقي.

من المفهوم ان القرآن قد اوجد حقولا دلالية جديدة للكلمات ، صرفتها الى معان جديدة ، تخدم الرؤية الكونية التي يريد الدين إقرارها كمضمون للعلاقة بين بني آدم والكون الذي يعيشون فيه (تقارب هذه العملية ما يسميه طلبة الشريعة تحويل الحقيقة اللغوية الى حقيقة شرعية). لكن هذا لا يغير شيئا من حقيقة ان لغة الخطاب محدودة بالفضاء الثقافي/الاجتماعي للناطقين بها. وهذا يؤدي – بالضرورة – الى تقييد وتحديد الخطاب والفضاء الذي يتوجه اليه ، كي يمسي مفهوما للمخاطبين به ، والذين يتوقع ان يحملوه الى غيرهم ، اي يعيدوا انتاجه في قالب كلام بشري متوسط المستوى.

الحاجة لتحديد وتقييد الخطاب ، هي التي جعلت نقاط التركيز وطريقة التعبير والأمثلة الشارحة ، مستمدة من البيئة الاجتماعية ، ومتصلة مباشرة بنمط العيش ومصادر الإنتاج والثقافة السائدة في غرب الجزيرة العربية ، في ذلك الزمن على وجه الخصوص.

العوامل المؤثرة على تفاعل المتلقي مع الخطاب الشرعي المذكورة أعلاه ، لا تبقى على حال واحدة. فهي تتحول مع مرور الزمن واتساع الثقافة ، وتوسع الدولة وتزايد الثروة والاختلاط مع أمم جديدة.

تؤثر هذه التحولات في فهم الاشياء والرؤى وفي عملية توليد الأفكار ، وبالتالي في فهم الخطاب الشرعي والموقف من أوامره ونواهيه.

هذا كما أسلفت أحد التفسيرات المطروحة لتحول المعرفة الدينية ، والذي يستوجب تمييزها عما نسميه بالدين او النص المقدس. واظن غالبية الناس يرون هذا التفسير معقولا وطبيعيا ، سواء تعلق الأمر بالدين او بأي جانب من جوانب الحياة.

الشرق الأوسط الأربعاء - 2 جمادى الآخرة 1443 هـ - 05 يناير 2022 مـ رقم العدد [15744]

https://aawsat.com/node/3395821/

مقالات ذات صلة:

 تأملات في حدود الديني والعرفي/العلماني

التدين الجديد

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حلم العودة الى منبع النهر

حول اشكالية الثابت والمتغير

حول القراءة الايديولوجية للدين

داخل الدين.. خارج الدين

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

 الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

طريق التجديد: الحوار النقدي مع النص

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في علاقة الزمن بالفكرة

 في معنى الوصف الديني

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

المعنى الدنيوي لتجديد الدين

نسبية المعرفة الدينية

نقد التجربة الدينية

 

29/12/2021

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

 

ذكرت في مقال سابق ان فقهاء الشريعة ، تختلف آراؤهم في الموضوع الواحد ، كما تختلف احكام القضاة في القضية الواحدة. وهكذا الأمر عند مفسري القرآن وعلماء الطبيعيات والهندسة ، بل كل علم يعرفه الانسان.

لولا الخلاف في المواقف لسادت الأحادية ، وتحول المجتمع البشري الى ما يشبه مجتمع النحل. ولولا تقبل العقلاء للاختلاف في الرأي والاجتهاد ، لانجبر الناس في طريق واحد ، ومات العلم. الخلاف والاختلاف هو الماء الذي تحيا به شجرة العلم.

حلقات الدرس في المسجد الهندي-النجف

هل ينطبق هذا المبدأ على علوم الدين أيضا؟.

نعم بطبيعة الحال. لكن لماذا هذا السؤال؟.

السبب الأول للسؤال هو الاختلاط المشهود بين ما هو علمي بحت وما هو مقدس ، الأمر الذي يجعل البحث العلمي المحايد في غاية العسر. ولهذا يواجه دعاة الاصلاح والتفكير الديني الجديد عنتا شديدا ، حين يحاولون استعمال المناهج الجديدة في البحث العلمي ، وهي مناهج تتعامل مع قضايا العلم وأدلتها من زاوية تقنية او وظيفية بحتة ، ولا تعبأ بالجانب المقدس في موضوع البحث. من عوامل التأخر في علوم الشريعة ، الخوف من خرق المقدسات. وهو قد يكون خوفا صحيحا ، او ربما مجرد وهم.

أما السبب الثاني  فهو اعتقاد كثير من عامة الناس ، بأن ما يسمعونه من الخطيب او الفقيه ، وما يقرأونه في كتب الفقه ، هو نفس ما قاله النبي او صحابته الذين سمعوا منه. وإذا كان ثمة اختلاف ، فهو قصر على الشرح والتوضيح ، ولا يخالف الأصل في كثير ولا قليل. وهذا غير صحيح طبعا.

ما يقوله الخطيب او الفقيه هو اجتهاده الخاص ، او اجتهاد من يرجع اليه. بديهي انه ليس كل حافظ للقرآن والحديث ، قادر على الاستدلال واستخراج الحكم الشرعي. ولو كان الاستدلال بهذا اليسر لما احتجنا الى متخصصين في علوم الشريعة ، ولاكتفينا بكتب النصوص المعتمدة والتي تتوفر لكل من يطلبها ، مع شروحها وتفاسيرها.

لكنا نعلم ان الاستدلال عملية مغايرة لقراءة النص وشروحه. الفرق هنا يماثل الفرق بين عالم الميكانيكا ، وبين شخص قرأ دليل الاستعمال او ربما اخذ دورة في صيانة المحركات. فالأول محيط بالقواعد العلمية التي تحكم عمل المحرك والتقنيات المستخدمة فيه ، وبالتالي فهو مؤهل لتعديل المحرك ان اقتضى الأمر. أما الثاني فحده الأقصى هو تنظيف المحرك او ربما إصلاح بعض اعطاله ، بمعنى المحافظة عليه كما هو.

حسنا.. لماذا لا يتكل طلبة العلم الشرعي على اجتهادات من سبقوهم ، بدل ان يعيدوا النظر فيها ويطرحوا آراء جديدة ، غير التي اعتاد عليها الناس؟.

الجواب بسيط: تخيل لو بقي الناس على الرأي القديم القائل بحرمة التصوير ، او حرمة المطبعة أو السفر الى البلاد الاجنبية او تعلم الجغرافيا والفلسفة واللغات الاجنبية وحرمة التعامل مع البنوك.. الخ .. كيف سيكون حال الناس وحال دينهم؟.

لولا الاجتهادات الجديدة ، لكان الناس في حرج شديد ، بل ربما تخلوا عن دينهم من اجل ضرورات الحياة. هذه امثلة بسيطة تظهر ان الاجتهاد ، اي نقد الآراء السائدة والبحث عن بدائل ، هو الطريق الوحيد لتمكين الناس من الجمع بين متطلبات دينهم وضرورات دنياهم.

أظن ان هذا يوضح بما يكفي الحقيقة التي يعرفها كل العقلاء ، وهي ضرورة المراجعة المستمرة للخطاب الشرعي ، من اجل تكييفه مع ضرورات الحياة الجديدة ، كي لا يقع الناس في الحرج. هذه الضرورة هي التي تملي علينا قبول الاختلاف والمخالفة ، حتى لو تعلقت بما نعتقد انه من الاساسيات والثوابت.

الشرق الأوسط الأربعاء - 25 جمادى الأولى 1443 هـ - 29 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15737]

https://aawsat.com/node/3383581

مقالات ذات صلة

 "أحدث من سقراط"

الاسلام في ساحة السياسة: متطلبات العرض والتطبيق

تأملات في حدود الديني والعرفي

التراث الاسلامي بين البحث العلمي والخطاب

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في علاقة الزمن بالفكرة

نقد التجربة الدينية

نموذج مجتمع النحل

الوحدة الاوربية "آية" من آيات الله

15/12/2021

"أحدث من سقراط"

 

كثيرا ما واجهني سؤال التفاضل بين ما ورثناه من اسلافنا ، وما عرفناه من أهل عصرنا. في الاسبوعين الماضيين كتبت عن فكرة الشرعية السياسية ومصادرها ، فواجهت سؤال: لماذا نستعير مفاهيم ابتكرت في الغرب مع وجود نظائر لها في تراث الأسلاف؟. وقبل ذلك قال احد القراء ساخرا: انت تدعو للقطيعة مع التراث ، ثم تستشهد بآراء سقراط الذي مات قبل 2400 عام. اليس فلاسفة المسلمين (احدث) من سقراط؟.

مركز الطب الاسلامي - الكويت

هذا النوع من الاسئلة لا يعتمد معايير النقد العلمي ، فالعلم لا يعترف بالهويات والجغرافيا. أهل العلم يبحثون عن أدلته حيثما كانت ، في الماضي او الحاضر ، عند سقراط او ابن سينا ، بلا فرق على الاطلاق. لكن صاحب السؤال  والكثير ممن يقرأونه لا ينظرون لهذه الزاوية او لا يقبلونها ، لاسيما لو  ظنوا ان الفكرة المطروحة ذات صلة بالدين او أن لها ظلالا دينية.

وفي سنوات سابقة حظيت هذه المسألة باهتمام كبير ، حين اتسعت الدعوة لما أسموه "أسلمة العلوم" ، واقام بعض الأدباء رابطة للأدب الاسلامي واخرى للقصة الاسلامية ، وعقد غيرهم نقاشات لتمييز العلوم الفاسدة ، وقرروا على سبيل المثال ، ان علم الاجتماع الحديث فاسد ، لأنه قام على أسس معادية للدين الحنيف ، وان كبار منظريه ملحدون. كما سمعنا متحدثين عن طب اسلامي ، بمعنى احياء أساليب علاج تطورت في العصور الاسلامية القديمة ، وسمعنا أحاديث عن عسكرية اسلامية ، وسياسة إسلامية الخ.

بدأت هذه الدعوة بغرض محدد هو تحييد البحوث العلمية المخالفة لقيم الدين واخلاقياته ، نظير أبحاث الهندسة الجينية والجرثومية. لكنها أثارت حماسة بعض الناشطين البعيدين – من حيث التخصص – عن حقل العلوم البحتة. هؤلاء بدأوا يتحدثون عن منظور ايديولوجي ، محوره "سبق" المسلمين في مجال العلوم ، وعدم حاجتنا للغرب فيها.

اظن ان المحرك الاقوى لانتشار الفكرة ، هو الفرضية التبسيطية القائلة بانه "اذا كان لدينا منتج ، فلماذا نستورده من الخارج؟". ويزداد تأثير هذه الفرضية حين يشار – كما يحصل دائما – الى ان تلك العلوم قد تطورت في ظرف ديني.

لكن اعتبارها يتلاشى اذا بان سقم مقولاتها وانعدام جدواها. خذ مثلا "الاقتصاد الاسلامي" الذي لم يستطع دعاته تطوير نموذج تنموي قادرة على مجادلة النظريات السائدة في عالم اليوم ، ومثله "المصرفية الاسلامية" التي اكتفى أصحابها بتغيير مسمى المعاملات ، واضافة اجراءات شكلية ، ادعوا انها كافية للخروج من اشكال الربا  ، ولم ينجحوا أبدا في تطوير نموذج للوساطة المالية خارج اطار المصرفية المعروفة في عالم اليوم.   

لم تعمر هذه الدعوة الا يسيرا ، لأنها فشلت في الاختبار. وظهر سريعا انها مبنية على أرضية هزيلة ، حولت الدين الى عباءة او صبغة ، بدل ان يكون مضمونا لرؤية كونية ، تنظم علاقة الانسان مع البشر الآخرين ومع الكون الذي يعيش فيه.

حقيقة الامر ان علينا التحلي بشجاعة الاقرار ، بان القرآن ليس كتاب طب او هندسة او اقتصاد ، وان الله اعطى لعباده عقولا كي يتفكروا ويتفاكروا ، وكي يتعاونوا مع بعضم لتدبير حياتهم على النحو الامثل. لا ينبغي ان نشعر بالقلق لو تركنا علوم الأسلاف ، الى ما هو خير منها عند غيرهم. ما يحدد افضلية هذا على ذاك هو التجربة الفعلية ، وليس اخبار الأولين او الآخرين ، ولا كونها ولدت في بلدنا ، ضمن اطارنا الثقافي ، او في بلدان الآخرين وضمن اطارهم. ان اعقل الناس – كما ورد في الاثر – من جمع عقول الناس الى عقله وليس من احتفى بأسلافه وكتبهم.

الشرق الاوسط الأربعاء - 11 جمادى الأولى 1443 هـ - 15 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15723]

https://aawsat.com/home/article/3359441/

مقالات ذات علاقة

اجماع العلماء ... الا ينشيء علما؟

تأملات في حدود الديني والعرفي

تشكيل الوعي.. بين الجامع والجامعة.. دعوة مستحيلة

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

كي لايكون النص ضدا للعقل

نسبية المعرفة الدينية

نقد التجربة الدينية

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...