كان
وزير العمل د. غازي القصيبي ضيفا ثابتا على الصفحات الاولى في الصحافة المحلية
خلال الايام الاخيرة . وهو ما يظهر مدى النفوذ الذي يتمتع به شخص الوزير فضلا عن
الاهمية الاستثنائية لمشكلة البطالة التي وعد بعلاجها خلال عام كما ذكر في حديثه
لرجال الاعمال الاربعاء الماضي.
والصحافة
تتغذى على الكلام كما هو معروف . وفي بلدنا فان مثل كلام القصيبي يوزن بالذهب لانه يتحدث بطلاقة
عما سيفعل ، خلافا للطريقة الشائعة عندنا ، اي الكلام العمومي الذي يعد بكل شيء
ولا يلزم نفسه بشيء. فالوزير اذن يوفر فرصة للمراقبين لمناقشة سياساته ثم اختبار
نتائجها على ضوء ما وعد . وهذه هي الطريقة السليمة للتعامل بين الراي العام
والهيئات الرسمية .
المشكلة
على اي حال ليست هنا بل في الوعود التي لا يمكن الوفاء بها ، والتي هي بذاتها
مشكلة ربما لا تقل حرجا – ضمن مجالها الخاص – عن مشكلة البطالة التي يريد الوزير
علاجها . من ذلك مثلا وعد معاليه بان سيتكفل شخصيا بالتوقيع على اصدار التاشيرات
وسيمنع اجهزة الوزارة الاخرى من اصدارها دون موافقته . هذا الوعد يغري السامعين
بما يشير اليه من شدة اهتمام الوزير باعمال وزارته ، لكنه وعد يستحيل تحقيقه .
وحتى لو افترضنا امكانيته ، فانه سيقصم ظهر النظام الاداري للوزارة الوليدة التي
يأمل كثيرون ان تكون مثالا يحتذى في تطبيق فنون الادارة الحديثة.
وعد
لا يمكن تحقيقه : سوف نجري حسبة بسيطة لبيان ان وعد الوزير بالتوقيع بنفسه على
طلبات التاشيرات مستحيل التحقيق. فطبقا لتصريحات معاليه فانه سيخفض عدد التاشيرات
الصادرة عن وزارة العمل الى نصف مليون ، وان هذا التخفيض سيتواصل في السنوات
اللاحقة . لو افترضنا ان الوزير سينشغل بجزء من هذه المعاملات ، ولنفترض انه سيطلع
ويوقع على عشرة الاف معاملة من اصل مجموع النصف مليون طلب الذي يقدم اليه طوال
السنة . لدينا هنا احتمالان ، فاما انه سيوقع على الملف المقدم اليه دون فتحه ،
وهذا لا يغير شيئا مما اراد تغييره ، فهو هنا سيعمل مثل ماكينة توقيع لا اكثر . او
انه سوف يقرأ بعض محتويات الملف ، ولنفترض انه سيصرف في كل ملف عشر دقائق . في هذه
الحالة سيحتاج معاليه الى 208 يوم عمل . اذا طرحنا العطلات الاسبوعية والسنوية فان
ما يتبقى من سنة العمل المتاحة للوزير يقل عن 200 يوم ، اي ان السنة بكاملها لن
تكفي لتوقيع المعاملات فقط ، هذا اذا لم ينشغل الوزير باي عمل اخر سواها .
وهو
من ناحية اخرى وعد خاطيء حتى لو امكن تحقيقه : من مباديء الادارة الحديثة تفويض
الصلاحيات الى الاجهزة وتفرغ القادة الاداريين للتخطيط الاستراتيجي ومتابعة الخطط
الكبرى وتذليل الصعوبات الناشئة عن تداخل عمل الوزارة مع الوزارات او الجهات
الاخرى. يفترض ان الوزير او الوكيل هو ارفع الموظفين كفاءة وسلطة في الجهاز .
ولهذا توكل اليه اكثر الاعمل اهمية ، اي تلك التي لا يمكن لغيره القيام بها لما
تحتاجه من سلطة وكفاءة .
لكي يؤدي تفويض الصلاحيات اغراضه فان الجهاز الاداري
يحتاج الى قوانين عمل واضحة واهداف محددة واليات مناسبة للمتابعة وقياس الاداء
بالمقارنة مع الاهداف . وفي هذه الحالة فان اي موظف في المراتب الوسطى يمكن ان
يتخذ القرار المناسب ، اي يوقع على المعاملة – حسب التعبير الدارج - . وفي المقابل
فان من العيوب الكبرى في جهازنا الاداري هو تركيز الصلاحيات في ايدي كبار
الاداريين والاستغناء عن القوانين واليات العمل . ولهذا السبب فان كل مراجع يستطيع
في حقيقة الامر الحصول على ما يريد من اي وزارة – ضمن نطاق القانون او بالالتفاف
عليه - اذا حصل على خيط يوصله الى احد الكبار. ومن هنا ايضا شاعت الواسطة
والمحسوبيات . ان اصدار مئات التاشيرات
التي شكا وزير العمل من المتاجرة فيها ليس عمل صغار الموظفين ، فهم اساسا يفتقرون
الى مثل هذه الصلاحيات.
الحل
اذن ليس في ايكال التوقيع على المعاملات الى الوزير ، لان هذا سيكرس نموذج الهرم
المقلوب في الادارة ، او ما يسمونه في الفن : مسرح الممثل الواحد . اي الجهاز الذي
يعتمد بصورة مطلقة على رئيسه ، بدل الاعتماد على الوحدة المنظومية للعمل التي تقوم
باداء جميع الوظائف سواء حضر الرئيس او كان غائبا .
لا
ادري ان كانت الارقام المذكورة اعلاه دقيقة ام لا ، لكن وعد الوزير بالاطلاع شخصيا
والتوقيع على كل معاملة ، حتى لو كان يعني بها المعاملات الكبرى ، يثير القلق من
اننا لا نزال نعالج مشكلاتنا بالطريقة القديمة ، حتى لو تولى العمل رجل في مثل
كفاءة الوزير القصيبي . ليس خفيا ان الجهاز الاداري في بلدنا يعاني من امراض مزمنة
، ربما كان اهمها هيمنة الجانب الشخصي وغياب روح العمل المؤسسي . والاعتقاد السائد
ان نسيم الحداثة سيعيد الروح الى هذا الجهاز اذا تولى قياده من يؤمن بالمؤسسة والقانون
كاداة لا غنى عنها للتطوير ، ولهذا نامل ان يعيد وزير العمل النظر في وعوده
تلك وان يخبرنا عن شيء يمكن القيام به ،
ويحسن القيام به.
http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/5/1/Art_100750.XML
( السبت
- 12/3/1425هـ ) الموافق 1 / مايو/
2004 - العدد 1049
مقالات ذات صلة