بعض القراء الاعزاء الذين جادلوا مقال الاسبوع
الماضي ، استغربوا ما ظنوه انكارا لاهتمام الاسلام بالحياة الدنيا ، مع كثرة
التعاليم الدينية التي تؤكد على الموازنة بين الدنيا والاخرة ، وبين المادي
والروحي في حياة البشر.
والحق ان هذا لم يكن محل اهتمام
المقال ، بل كان غرضه التأكيد على المصلحة العقلائية كمعيار لاختبار سلامة الخطاب
الديني ، بكل مافيه من أحكام فقهية او تفسير للنص او توجيه عام.
يهمني هنا ايضاح الفارق بين مانسميه
"الدين" أي ما اراده الله لعباده ، وما نسميه "المعرفة الدينية"
، اي فهم الناس لمراد الخالق. ان حديثنا يتناول فهم الناس وليس مراد الخالق
سبحانه. وهذا يشمل – للمناسبة – الآيات والروايات التي يعرضها بعض المحتجين كدليل
على رأيهم. لأن الفكرة التي تتضمنها الآية او الرواية ، قد تطابق المعنى الذي يحتجون
له ، وربما تختلف عنه. ان تماثل الالفاظ لايدل دائما على اتحاد المعنى. ودلالة
اللفظ وحدودها وقيودها ، موضوع لبحث عميق ومطول ، يشكل الجزء الاكبر من جدالات أصول
الفقه ، وهي اكثرها تعقيدا.
اود الاشارة ايضا الى ان موقف كل طرف
في هذا النقاش ، مسبوق بموقف فلسفي اجمالي ، يتلخص في السؤال الآتي: هل جاء أمر
الله لاصلاح الدنيا ام الآخرة؟. فمن يرى ان غرض الدين هو اصلاح الدنيا ، يعتبر النجاح
الاخروي بديهيا لمن أحسن العمل في دنياه ، حتى لو لم يكن الفوز الاخروي غرضه
الوحيد او الرئيس.
وبعكس هؤلاء ، فان الذين اعتبروا
غاية الدين هي الفوز الاخروي ، قرروا أيضا ان الدنيا ممر مؤقت. فنسبتها الى الاخرة
نسبة الوسيلة الى الغاية ، او نسبة الظل الى الأصل. وحسب تعبير الامام
ابو حامد الغزالي (ت - 1111م) فان " أكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا
وصرف الخلق عنها ، ودعوتهم إلى الآخرة. بل هو مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
، ولم يبعثوا إلا لذلك". (الغزالي: احياء علوم الدين 3/202)
الفرضية المسبقة لهذه المقالة هي
الموقف الأول ، اي القول بان غاية الشريعة صلاح الدنيا ، وان النجاح الأخروي تابع
لها ، وهو – كما يتضح - نقيض رأي الغزالي رضوان الله عليه.
سوف استعرض في مقالة قادمة أمثلة
توضح انعكاس كل من الرأيين. لكني اكتفي هنا بالاشارة الى تاثير كل منهما على منهج
البحث والنظر. وامامي مثال الجدل حول التبرع بالاعضاء وزرعها. وهو نقاش مضى عليه
عقدان ولازال قائما. فقد لاحظت ان الداعين لتجويزه ، استخدموا أدلة عقلائية بسيطة ،
هي مصالح دنيوية ، كالقول بان العضو الذي تهديه في حياتك او بعد مماتك ، سيمنح
حياة جديدة لمريض مهدد بالموت ، وان الانسان يملك جسده ، فله حق التبرع ببعضه.
أما الفريق الثاني فقد بنى موقفه
الرافض او المتردد ، على أحاديث نبوية ، يدل مضمونها على حرمة التبرع بالاعضاء (لأن
المتبرع لا يملك جسده)، او حرمة مقدماتها (مثل التقطيع الذي يعتبرونه مصداقا
للمثلة المحرمة).
بعبارة اخرى فان الفقهاء لا يجادلون
ادلة الفريق الاول ، بل يعرضون أدلة تنتمي الى عالم مفهومي وقيمي مختلف (غير
دنيوي). وبالمثل فان الفريق الاول لا يرتاح لأدلة الفقهاء ، رغم انها مدعومة
بروايات منسوبة للنبي (ص). هذا يكشف عن الفجوة الفاصلة بين الخطاب الديني التقليدي
وحاجات زمنه. ولنا عودة الى الموضوع في مقال قادم بعون الله.
الشرق الاوسط الأربعاء - 27 ذو الحجة 1440 هـ - 28 أغسطس
2019 مـ رقم العدد [14883]