‏إظهار الرسائل ذات التسميات محمد شحرور. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات محمد شحرور. إظهار كافة الرسائل

11/01/2023

نقاشات بلا فائدة


لا أرى فرصة للنقاش المفيد بين المدافعين عن النسخة التقليدية من الدين وبين دعاة التنوير/الحداثة. ينتمي كل من الفريقين الى نظام معرفي وقيمي ، مختلف تماما عن الآخر. يتمثل دعاة التنوير روح العصر وفلسفته ، وينفتحون على مصادر المعرفة فيه ، بل ربما وضعها بعضهم في مرتبة مساوية لمرتبة الوحي ، لأن العقل عندهم مصدر مستقل للقيم والتشريع. يعتقد هؤلاء ان المهمة الكبرى للاسلام المعاصر ، هي تقديم نموذج ايماني قادر على استيعاب حاجات الزمان وتحدياته ، نموذج قابل للحوار والتفاهم مع التيارات الروحية والايديولوجيات السائدة في عالم اليوم.

خلافا لهذا فان الفريق التقليدي يرفض كليا فكرة المساواة بين العقل والقرآن في التشريع وإنتاج القيم ، ويعطي المكانة الثانية للسنة النبوية. مكان العقل – عندهم - هو خدمة الكتاب والسنة ، ليس موازيا لهما ولا مستقلا عنهما. أما المهمة الكبرى للمجتمع الإسلامي المعاصر ، فهي حماية أبنائه من تأثير الحضارة الغربية الغالبة. هذا المنظور الدفاعي انعكس على شريحة واسعة جدا من النتاج الفكري والفقهي لهذا الفريق ، فبات ميالا بشدة الى التبرير والدفاع ، بدل النقد الذاتي الضروري للتطور.

هذه المنطلقات تعني ان كلا من الفريقين يفكر بطريقة مختلفة ، ويتحدث بلغة لا يمكن للفريق الآخر ان يتقبلها ، لأنها تعارض ما يعتبره بديهيا من بديهيات منهجه. الحقيقة ان الطرفين لا يديران نقاشا معمقا في المباديء الرئيسية والارضية الفلسفية التي يقف عليها كل منهما ، نقاش ربما أثمر عن تعديل في رؤيتهما العامة. تبدأ النقاشات دائما في التفاصيل والفروع ، وقد تصل الى المباديء العامة ، لكنها في الغالب تواصل الدوران حول الفروع.

تجري الأمور عادة على النحو التالي: يطرح التنويريون/الحداثيون فكرة صادمة للعرف السائد ، مثل تشكيك المرحوم د. محمد شحرور في مشروعية تعدد الزوجات وتفسيره الجديد لآيات الإرث. وكلا الفكرتين تعارض حديا الموروث الديني ، بما فيه أحاديث تنسب للنبي ، واجتهادات كبار الفقهاء ، من قدامى ومحدثين.

ردا على هذا ، يقدم المدافعون عن الموروث الديني مرافعات تعيد التذكير بأصول فكرتهم ، وتنفي سلامة الاجتهادات المذكورة ، كما تشكك في أهلية صاحب الفكرة للاستدلال والتوصل الى احكام أو حقائق شرعية.

لا تناقش هذه الردود أدلة التنويريين ، بل تستعين بنفس الأدلة التي سبق استعمالها في دعم الرؤية الموروثة. لكن التنويريين يعرفون هذه الرؤية وقد رفضوها سلفا. وهكذا نجد أنفسنا امام الحالة التي تسمى أحيانا حوار الطرشان: كلا الطرفين يطرح أدلة يرفضها الثاني من حيث المبدأ ، فلا يناقشها. فكان الطرفين يتحدثان في عالمين مختلفين ، لا احد منهما يسمع قول الآخر.

الواقع اننا نتحدث فعلا عن عالمين فكريين متمايزين ، لكل منهما ارضيته ومبرراته الفلسفية ومنطلقاته وفرضياته وأدوات نقده ، وهو مختلف تماما عن العالم الآخر. ولهذا لا توجد قاعدة معيارية واحدة او ميزان علمي مشترك ، يمكن الاعتماد عليه في الموازنة بين الرأيين أو أدلتهما. هذه يشبه المقارنة بين قصيدة عربية وأخرى انجليزية... هل تراه ممكنا؟. بالطبع لا ، لأن القصيدتين تنتميان الى عالمين مختلفين في الصور والتعبيرات والسياق ، بحيث لا نستطيع القول ان هذه افضل من تلك او اجمل او اصح.

-         هل ينبغي ان نأسف لاستحالة اطلاق حوار  يؤدي الى توحيد التيارين ، او تقليل الخلافات بينهما؟.

في رأيي ان الأمر لا يستدعي الأسف. من المفيد ان ننظر للجانب الحسن في الجدالات الساخنة. ان محاولة كل من الطرفين فرض رأيه ، سوف تدفع الطرف الآخر الى تقوية استدلالاته وتعميق الأفكار المطروحة للنقاش. لو سكت الجميع حفظا لوحدة الموقف ، فسوف لن يستفيد أحد. المناقشة هي التي تولد رؤى جديدة ، تعلم الناس وتوسع آفاق المعرفة.

الأربعاء - 18 جمادى الآخرة 1444 هـ - 11 يناير 2023 مـ رقم العدد [16115]

https://aawsat.com/home/article/4091671/

مقالات ذات علاقة

 

 الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

جدالات ما بعد شحرور

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية

 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)

حول الفصل بين الدين والعلم

حول المسافة بين الدين والمؤمنين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دور الراي العام في التشريع

سؤال الى البابا

في ذكرى محمد شحرور- اسئلة اليوم غير اسئلة الامس

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

كيف نتقدم.. سؤال المليون

ما الذي يجعل محمد شحرور مختلفا وبغيضا أيضا

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

المعنوية ، حيث تلتقي جميع الرسالات

المكنسة وما بعدها

من المناكفة الى النهضة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

النقد الأخلاقي للتراث: مجادلة أولى

هكذا تحدث محمد شحرور

هيروهيتو ام عصا موسى؟

الوحدة الاوربية "آية" من آيات الله

 


23/12/2020

في ذكرى محمد شحرور- اسئلة اليوم غير اسئلة الامس

 

مرت علينا هذا الأسبوع الذكرى الاولى لرحيل العلامة محمد شحرور ، المفكر المفسر الذي اطلق موجات ضخمة من النقاش حول مفاهيم استقرت قرونا متمادية.  

غرضي ليس تبجيل المرحوم شحرور ، مع انه جدير به. قد يؤدي تمجيد الاشخاص الى تصنيمهم ، بحيث يمسي عسيرا تجاوز آرائهم. ان قيمة المفكر  رهن بما يفتح من آفاق جديدة ، تمكن المتلقي من تجاوز موقعه في تاريخ المعرفة.

كما لا أنوي تكرار الاراء القيمة للمرحوم ، فهي منشورة ومشهورة. مايهمني حقا هو تفصيح الفكرة التي ربما لم يصرح بها ، لكنها تلوح للمتأمل بين السطور او في النهايات غير الواضحة.

لقد اشرت في مقالات سابقة الى ما ظننته عناصر رئيسية في تفكير المرحوم شحرور ، وبينها باختصار شديد:  أ) ان الحياة تجربة ، و ب) ان الدين يعالج جانبا من قضايا الحياة ، كما ان العلم يعالج جانبا اخر ، والفن يعالج جانبا ثالثا ، وكذا الاخلاق والاسطورة. و ت) ان الانسان – كل انسان – شريك فاعل/متفاعل في تلك التجربة ، في تطوير مساراتها ونتائجها. 

ربما أعود الى هذه المسائل في مقالات لاحقة ان شاء الله. لكني اريد تخصيص ما تبقى من مساحة ، لتوضيح سؤال تكرر كثيرا  في الاشهر التالية لوفاة شحرور ، سؤال: كيف توصل شحرور الى هذه الآراء ، مع ان المئات من مفسري القرآن وعلماء اللغة وغيرهم لم يقل بها قبله. وهذا يستبطن سؤالا خلفيا فحواه: كيف اترك الآراء المتفق عليها ، الى رأي لم يقل به غير شخص واحد؟.

في الجواب على السؤال الخلفي ، ادعو للتمييز بين العقل النظري والعقل العملي. لا ينبغي للإنسان ان يتخلى عما هو مطمئن اليه ، لمجرد انه شك فيه او بدت له رؤية مختلفة. عليه ان يواصل البحث في المستوى النظري ، حتى يوصله الى نتيجة قطعية. عندها سيتوقف كي يقرر: هل يتبع قناعته الجديدة ام يبقى على ما استقر عليه رأي الناس من حوله.  هكذا يتعامل الناس مع أسئلة الدنيا. وفي رايي ان أسئلة الدين لا تختلف عنها.

بالنسبة للسؤال الأصلي ، فالمعلوم ان الزمن شريك رئيس في تكوين السؤال. فالذين بحثوا عن أجوبة في كلام السابقين وجدوا أجوبة تناسب تلك الازمان. وقد لا تكون صائبة في هذا الزمان. من ذلك مثلا: لو كنت في العام 50 للهجرة ، وسألت فقيها او صحابيا: هل بيع وشراء البشر واستعبادهم امر معقول ومناسب؟. سيكون الجواب يومذاك: نعم. لأنه أمر رائج ولم يمنعه الشرع. حسنا.. ماذا لو وجهت نفس السؤال في هذا اليوم لواحد من عامة المسلمين او نخبتهم ، فكيف سيجيبونك؟. هل يخبرونك ان استعباد البشر امر معقول ومناسب؟.

نعلم ان الموضوع لم يتغير ، والاحاديث الحاوية لاحكامه باقية كما هي. الذي تغير هو الاطار التاريخي للسؤال. ولذا بات يشير الى حقيقة غير التي أشار اليها سؤال الامس ، مع ان كليهما صيغ بنفس الالفاظ ووجه الى اشخاص متماثلين في العقيدة.

آمن شحرور ان أسئلة اليوم غير أسئلة الامس ، وكذلك اجوبته. فبحث عن أجوبة القرآن عن أسئلة اليوم ، بعدما غض الطرف عن أجوبة السابقين ، كما غض الطرف عما نقله المعاصرون من أجوبة السابقين. من  هنا جاءت آراؤه وتفسيراته غريبة نوعا ما ، لأنها غير مألوفة بالنسبة لأمثالنا الذين اعتادوا على إسلام الكتب والمدارس. هذا كل ما في الأمر.

الشرق الاوسط الأربعاء - 9 جمادى الأولى 1442 هـ - 23 ديسمبر 2020 مـ رقم العدد [15366]

https://aawsat.com/node/ 2698201/

مقالات ذات صلة

اصلاح المجال الديني

انقاذ النزعة الانسانية في الدين

تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

التدين الجديد

التشريع بين المحلي والكوني

جدالات ما بعد شحرور

سؤال الى البابا

ما الذي يجعل محمد شحرور مختلفا وبغيضا أيضا

ما ينبغي للتيار الديني ان يخشاه

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

المعنوية ، حيث تلتقي جميع الرسالات

المعنى الدنيوي لتجديد الدين

من اللغة الى الرؤية الكونية

من المناكفة الى النهضة

نسبية المعرفة الدينية

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

هكذا تحدث محمد شحرور

 

26/02/2020

من المناكفة الى النهضة


تلفت نظري أحيانا ردود الفعل على  الطروحات والأفكار الجديدة . وجدت مثلا من  ينسب التوجه الاصلاحي عند محمد شحرور الى عقد نفسية. وثمة من قال ان تركيز محمد عابد الجابري على نقد التراث ، راجع الى حرمانه من وظيفة كان يتطلع اليها في الديوان. وقيل مثل ذلك عن علماء آخرين في الماضي والحاضر. وبشكل عام فان غالبية الناس يودون ان يروا علة في القائل (حسنة او سيئة) قبل النظر في قوله او تحليل مراميه.
نتيجة بحث الصور عن خارج القطيع
من نافل القول ان كل نهضة في تاريخ البشرية بدأت بمناكفة من نوع ما ، مناكفة بين أشخاص أو قوى حديثة الظهور في الساحة الاجتماعية ، وأخرى مستقرة ذات نفوذ. في أول الأمر تبدو أشبه بنزاع محدود حول افكار او مصالح ، تعود لأشخاص بعينهم. في واقع الامر فانه يصعب - في المراحل المبكرة خصوصا - فصل الافكار عن أشخاص الداعين اليها. وليس من الممكن ايضا حمايتها من التصنيف القسري ، اي تحديد من يستفيد من نجاحها ومن يتضرر.
مع مرور الوقت يتبين للجميع ، ان الاشخاص القليلين الذين تمردوا وناكفوا ، لم يكونوا نبتا في صحراء ، بل تعبيرا عن بواكير تحول يجري تحت السطح الخارجي للمجتمع. ومع مرور الزمن ، تتحول تلك القلة الى أمثولة ومصدر إلهام ، فكانها تقول لكافة الناس: انظروا .. لقد فعلنا ما ظنه الجميع مستحيلا ، وتبين لكم ولنا انه ممكن وان كلفته محتملة.
تتحول المناكفة الى نهضة ، حين تدخل فكرته العامة دائرة الجدل العلني ويجاهر عدد متزايد من الناس ، من شرائح اجتماعية مختلفة بتبنيهم للافكار الجديدة ، ويتحدثون عنها كنمط حياة ضروري ، يريدون الانتقال اليه. ونعلم  ان وصول المجتمع الى هذه المرحلة يعني – بالضرورة - قيام نوع من توازن القوى في المجتمع ، بين القوى الداعية للتغيير وتلك المتمسكة بالمحافظة على الاجماع القديم ، اي من يسمون في عالم السياسة بالاصلاحيين ، ومن يسمون بالمحافظين.
مسار تقدم الانسان في مجمله ، يشبه هذا المسار. تجاذب وتدافع بين عوامل الاستمرار وعوامل التغيير ، تقود عادة الى غلبة الثانية واستقرارها ، ولو بعد حين. ان التغيير لا يتوقف أبدا ، انما تختلف المجتمعات عن بعضها في سرعة الاستجابة والتكيف مع الجديد او العكس.
قد يبدأ التغيير في مكان محدد ، مثل الشمس التي تشرق في مكان ، فيراها الناس في أبعد النقاط ، فتولد فيهم الأمل وتبعث الحماس ، ويتحول الناس بالتدريج الى شركاء في النهضة ومساهمين في تيارها. قد تبدأ المناكفة بين التجار ثم تنتقل الى المثقفين والساسة وغيرهم ، أو تبدأ بين رجال الدين ثم تنتقل الى غيرهم ، وقد تبدأ وسط شريحة محددة كالنساء او الشباب ثم تظهر ارتداداتها في شرائح أخرى ، وهكذا.
الانتشار جزء من طبيعة الحراك الانساني. ولذا لايستطيع أحد أن يدعي اختصاصه بالنهضة أو يحجب ثمارها عن الآخرين. بواكير النهضة الاوروبية ، تمثلت في نزعات جديدة في الأدب والفنون ، وظهر تأثيرها في تصميم المدن ، سيما المباني والجسور والقصور ، وفي الفنون التشكيلية والمسرح والموسيقى. ثم انعكست على العالم الديني ، فتمثلت في حركة الاصلاح الديني وما تلاها من تبلور البروتستنتية ، كضد تاريخي للكاثوليكية وحليف للتغيير ، حتى جاء عهد الاختراعات ، وهيمنت التكنولوجيا على حياة العالم ، فتحولت التقنيات الرقمية الى محور لهذه الحركة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 2 رجب 1441 هـ - 26 فبراير 2020 مـ رقم العدد [15065]
مقالات ذات علاقة

08/01/2020

من اللغة الى الرؤية الكونية



يستهدف هذا المقال التعريف بـ "توشيهيكو إيزوتسو" ، المفكر الياباني الذي كرس حياته لدراسة النص القرآني ، ونشر عنه تسعة كتب ، فضلا عن ترجمة كاملة للقرآن الكريم. وغرضي من هذا التعريف الموجز هو لفت الانظار الى اعمال هذا المفكر البارع ، التي أراها في غاية الأهمية والفائدة للباحثين والدعاة على السواء.
ولد ايزوتسو في طوكيو سنة 1914 وتوفي في 1993. ترجمت ثلاثة من كتبه الى العربية على يد الدكتور عيسى العاكوب ، كما نشرت ترجمة ثانية لكتابه "الله والانسان في القرآن" على يد الدكتور هلال الجهاد. وهذا اكثر اعمال ايزوتسو شهرة ، ربما لأن الموضوع الذي طرقه مبتكر وفريد في بابه.
وكتب الدكتور الجهاد في تقديمه للكتاب: ان دراسة ايزوتسو تعين على استيعاب أعمق لمرامي النص القرآني   ، حتى ليشعر المرء انه كمن يقرأه للمرة الأولى. ويقول ايضا ان بوسعنا ادراك مستويات المعنى العديدة في النص القرآني ، شرط أن نتجرد مؤقتا عن تأثير القداسة ، أي ان ننفصل عنه كي نراه من زاوية علمية بحتة. نعلم طبعا انه ليس يسيرا على المسلم ان ينظر في القرآن متجردا من تأثير القداسة الخاصة به. مع ذلك فان القران لايحتاج للتقديس كي يكشف عن كنوزه المعرفية. انه يحتاج فقط الى التامل العميق والصبر . تعدد مستويات المعنى أمر معروف عن القرآن. وحسب تعبير الامام جعفر الصادق ، فلو قلت انه سبعة ابحر او سبعون بحرا ، لما عدوت الصواب. المستويات الأعمق لا تنكشف في قراءة واحدة او زمن ثقافي واحد.
اراد ايزوتسو من كتابه "الله والانسان في القرآن" استكشاف الرؤية الكونية التي يدعو اليها القرآن. الرؤية الكونية هي الارضية الفلسفية التي تبنى عليها المنظورات الدينية الناظمة للعلاقة بين البشر ، وعلاقة البشر بالطبيعة ، والنظم التي تحدد كيفية تطبيق تلك المنظورات ، اي ما نسميه العقيدة او علم الكلام ، وما نسميه الشريعة او الفقه. كلا الامرين ، العقيدة والشريعة ينبغي ان يبنى على رؤية عقلانية وموحدة للعالم ، كي يكون منسجم الاجزاء ومعقولا.
اما منهج البحث الذي اتبعه ، فهو دراسة المعجم اللغوي للقران. اي التعابير التي صنفها كمفاتيح لفهم الحقل الدلالي الذي يؤدي في مجموعه ، وظيفة تفسيرية او توجيهية ، ترتبط بالمنظور الديني الاوسع. وفقا لايزوتسو فان الحقل الدلالي يتشكل من منظومة مفاهيم مفتاحية ، تتحول معه الكلمات والعبارات لتؤدي معاني جديدة ، مغايرة – بقدر او بآخر – لمعانيها الاساسية. كلمة "الساعة" مثلا لها معنى اساسي هو المدة الزمنية المعروفة. لكن حين تمر بآية "بل الساعة موعدهم والساعة ادهى وامر" فانك ستقرأها في اطار الحقل الدلالي المرتبط بيوم الحساب. أي ان المعنى الجديد للكلمة مستمد من السياق الذي وردت فيه.
وفقا لايزوتسو فان اللغة ليست اداة للتعبير عن معنى بسيط ، بل هي شريك في تكوين معاني الاشياء. ولذا فان دورها يتجاوز حدود التعبير عن الاشياء ، الى المساهمة في تشكيل الثقافة وتحديد حدودها ايضا. 
اراد ايزوتسو اذن تحليل لغة القرآن ، كي يصل الى منظور فلسفي تأسيسي. دعنا نقارن هذا بعمل محمد شحرور ، الذي تبنى منظورا فلسفيا واتخذه منطلقا لقراءة لغة القرآن. لقد عمل الرجلان على نفس الموضوع (نص القرآن) لكن اغراضهما كانت مختلفة. هذا وحده يكشف جانبا من المخزون المعرفي للنص القرآني ، الذي يستحيل ان يستوفيه نهج تفسيري بعينه أو زمن ثقافي بعينه.
الشرق الاوسط الأربعاء - 12 جمادى الأولى 1441 هـ - 08 يناير 2020 مـ رقم العدد [15016]
مقالات ذات علاقة

01/01/2020

جدالات ما بعد شحرور


فكرة هذا المقال معروفة لجميع القراء. واظنها مقبولة عند معظمهم . وخلاصتها ان اكثر المفاهيم مرهون بزمن محدد ، قد يمتد بضعة اعوام او عدة أجيال. 
نعلم طبعا ان بعض الأفكار قيم مجردة لا ترتبط بظرف زمني او مكاني. ومع ذلك فان مفاهيمها وتطبيقاتها تتغير مع الزمن. خذ مثلا قيمة العدالة التي عرفها الانسان منذ اقدم الأزمنة ، كقيمة سامية لا يجادل فيها أحد. لكنها فهمت وطبقت في تلك الأزمنة ، على صور نعتبرها اليوم نقضا للعدالة. 
من ذلك مثلا العقوبات القاسية كالصلب والحرق ، التي اعتبرها الانسان القديم عقوبات عادلة وعقلانية ، لكن انسان اليوم يرفضها ويستنكرها ويعتبرها هدرا للانسانية ونقضا لكافة القيم.
ومثلها الرق وتجارة البشر التي قبلها سابقا جميع أهل الأديان في مختلف البلدان ، ولم يروا فيها مخالفة لمقتضيات العدالة. لكنها اليوم مرذولة ومرفوضة عندهم جميعا. فهذه الأمثلة وغيرها تكشف ان الظرف الزمني-المكاني للفكرة جزء من حقيقتها أو جزء من مفهومها.
زبدة القول ان الارتباط بين الفكرة والزمن (او المكان) مما لا يختلف فيه اثنان. في هذه النقطة سيسألني أحد القراء: اذا كان الامر كذلك ، فما الجدوى من تكرار الكلام فيه؟
الداعي لتجديد الكلام ، هو كثرة ما لاحظته من تعليقات في الأيام العشرة الماضية ، تدل على ان الفكرة ، رغم اتفاق الجميع عليها ، لازالت منفصلة عن التفكير الفعلي ، سيما في الأمور المرتبطة – ولو من طرف بعيد – بقضايا الهوية والدين. أما مناسبة تلك التعليقات فهي رحيل المفكر المعروف محمد شحرور ، وما صاحبه من جدل بين من يتفهم اراءه ومن يعارضها. في هذا الجدل وجدت كثيرا من الناس يقولون: هل نترك آراء مفسري القرآن ونأخذ برأي شحرور؟. وثمة من قال: هل يعقل ان شحرور ومن يسانده ، قد فهموا ما عجز الصحابة والتابعون عن فهمه؟. بل ان بعض الدعاة اخذ المسألة لمنحى آخر بالقول: هل يصح ان نأخذ تفسير القرآن من مهندس معماري؟.
هذه التعليقات تنصرف الى معنيين في الغالب:
اولهما: ان القران (وبقية النصوص الدينية) لها معنى واحد يمكن لكل عالم باللغة ان يصيبه. ومن هنا فان التفسيرات الجديدة التي يقترحها محمد شحرور ، تتعارض مع الاحادية المفترضة للتفسير.
اما المعنى الثاني فهو ان قدامى المفسرين ، ومن نقلوا عنه من الصحابة والتابعين ، هم الجهة الوحيدة المؤهلة لتفسير القرآن او استنباط الاحكام الشرعية من النصوص ، ومن يعرض رأيه اليوم فهو متطفل.
لو قدمت هذا الشرح الى مئات الاشخاص الذين يشاركون في الجدالات الدينية ، فالمرجح ان اكثر من نصفهم سيوافق على واحد من المعنيين ، مع التعارض الواضح بينهما وبين المفهوم الأول الذي قلت انه من المسلمات وفحواه ان الزمن جزء من تشكيل الفكرة.
لا يمكن لشخص يفهم الفكرة الاولى بدقة ، ان يوافق على اي من المعنيين اللذين ذكرتهما للتو.  بعبارة اخرى فان الانسان الواعي يجب ان يختار بين القول بوحدانية الفهم والتفسير في كل الظروف ، او تعدد الفهم والتفسير مع تعدد الازمنة والظروف.
أظن انه قد حان الوقت كي تسأل نفسك عزيزي القاريء: هل ترى ان للنص القرآني او النبوي معنى واحدا ، يخبرنا عنه اقرب الناس الى عصر الرسالة ، ام ان لكل جيل مسلم الحق في تبني فهمه الخاص للنص ، بغض النظر عن افهام السابقين؟.
الشرق الاوسط : الأربعاء - 6 جمادى الأولى 1441 هـ - 01 يناير 2020 مـ رقم العدد [15009]
https://aawsat.com/node/2060551

25/12/2019

هكذا تحدث محمد شحرور


ينتمي الدكتور محمد شحرور لطائفة من المفكرين ، الذين لايرون انفسهم مدينين لأعراف المؤسسة الدينية التقليدية أو قيمها. وهو لا يرى نفسه مدينا لرواة الحديث ولا للفقهاء والمفسرين ، ولا لمنهجهم في قراءة النص الديني واستنباط الشرائع. بل انه لا يكتم انكاره للقيم والقواعد التي يجلونها ايما اجلال.
يعمل شحرور على أرضية فلسفية ومنطق استدلال مختلف. ولهذا فليس ممكنا ان يبلغ ذات النتائح المتعارفة في المدرسة الدينية التقليدية. في السطور التالية بعض أبرز العناصر التي تميز منهجه عن نظيره المتعارف في هذه المدرسة:
أولا: يتعامل شحرور مع الدين كبرنامج بحث مفتوح لكل الاجيال. يفهم الخطاب القرآني على ضوء توسع الانسان في فهم "كلمات الله" اي قانون الطبيعة. ولذا سيكون لكل جيل تفسيره الخاص المرتبط بما يستجد من معارف. ان تفسير القرآن في زمن ، يعكس بالضرورة المعارف المتوفرة في ذلك الزمن. لا يتعلق الأمر بالمحتوى اللغوي ، بل باستيعاب الرابطة العميقة بين الخطاب الرباني وقانون الطبيعة.
يتعارض هذا التأسيس مع المنطق الداخلي للمدرسة التقليدية في جانبين مهمين: أ) اعتبار رأي الاسلاف مرجعيا مقدما على رأي المعاصرين ، لانهم أقرب لزمن الوحي.  ب) التعامل مع تفسير القرآن كمعالجة للتركيب اللغوي والفني في النص.
ثانيا: ماسبق يعني ايضا ان جانبا من المنظومة الدينية اجتهاد بشري بحت. فهي ليست بكاملها سماوية (وفق ما يصوره الخطباء والمتحدثون). وقد صدم شحرور قراءه حين قال ان المحرمات 14 فقط. لانه يرى ان التحريم حكم خاص بالله ، وقد بينه القرآن بوضوح. اما بقية ما اشتهر في الفقه كمحرمات ، فهي ممنوعات عرفية ، وان حملت صبغة دينية باعتبارها ضرورة للنظام العام. وفقا لراي شحرور فانه ليس للرسول ولا الامام ولا الفقيه ان يحرم شيئا ، لكنهم جميعا مخولون بالنهي عن اي فعل يؤدي لمفسدة عامة.
ثالثا: تصحيح الاحكام الشرعية: حسب العرف الجاري  للفقهاء ، فان الحكم الشرعي يعتبر صحيحا ، اذا تم الاستدلال عليه وفق القواعد المعروفة في أصول الفقه ، وثبت ارتباطه بالنص (القرآن او السنة). اما شحرور فرأى ان الواقع ، هو المختبر الذي يثبت سلامة الحكم الشرعي او خطله. يجب ان يحقق الحكم مصلحة عقلائية ظاهرة او يرفع مفسدة ظاهرة ، ولا يصح الاحتجاج بما يسمونه مصالح خفية ، كما لا يكفي استناد الحكم الى نص قطعي الصدور أو صريح الدلالة ، لأنه قد يكون ناظرا لظرف تاريخي خاص.
رابعا: يعتقد شحرور ان الهوية الدينية (بالمعنى السوسيولوجي) ليست من لوازم الدين. المجتمع الديني بكل شعائره ونظم حياته واخلاقياته ، يجسد هوية ونظام حياة يختارها اتباع الدين. لكن هذه ليست دينا بالمعنى الدقيق. بل قد تتجلى روح الدين  في مجتمعات لا تحمل اي اعلان عن ديانتها.  وحسب تعبيره فان "لسان حال المجتمعات التعددية يقول ان الله واحد وغيره متعدد" وان "لسان حال المجتمعات المتطورة يقول ان الله ثابت وكل شيء عداه سبحانه متغير". بعبارة اخرى فاننا قد نرى تجسيدا للقيم الدينية الكبرى في مجتمعات تتبع سنن الله وان لم تظهر عليها سمات دين بعينه.
هذه جولة سريعة جدا تكشف ان فكر المرحوم شحرور ، يخالف الفكر التقليدي في المنطلقات والفلسفة العامة ، ولذا فهو يضرب في مسارات بعيدة جدا عن تلك المتعارفة في المدرسة التقليدية. هذا يجعل تاثيره محدودا ، لكنه يصنع – ولو ببطء – مستقبلا مختلفا جدا.
الشرق الاوسط الأربعاء - 28 شهر ربيع الثاني 1441 هـ - 25 ديسمبر 2019 مـ رقم العدد [15002]
 https://aawsat.com/node/2050906 

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

  ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024 توفيق السيف يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال : هل ساهمت ...