في
مقاله "الحيوية الفقهية والمستجدات الدنيوية" (الشرق الاوسط 14 يونيو2018)
تعرض الاستاذ فهد الشقيران لمسألة طالما بقيت في هامش اهتمام المتحدثين في الفكر
والفقه الاسلامي وتجديده ، اعني بها التمييز بين الاحكام ذات الطبيعة الكونية ، ونظيرتها
التي تعالج قضايا محلية أو مؤقتة فحسب. وقد أجاد الكاتب في التنبيه لهذه المسألة
الهامة.
توشيهيكو إيزوتسو |
من حيث المبدأ يتفق علماء الاسلام على ان أحكام الشريعة نوعان: ما يتعلق بحادثة أو ظرف خاص ، فلا يسري على غيرها ، وما هو حكم عام في كل القضايا التي موضوعها واحد. ويتعلق بالموضوع ايضا مسألة الثوابت والمتغيرات. وفحواها ان بعض الاحكام ثابتة في كل زمان ومكان ، وبعضها متحول ، لان الظرف الزماني والمكاني جزء اساسي في تشكيل موضوع الحكم. وهذا ايضا من موارد الاتفاق قديما وحديثا.
تقترح هذه المقالة معنيين للمتغيرات ، يقوم أولها على التمييز بين المحلي والكوني ، وهو ما أشار اليه الاستاذ الشقيران. ويقوم الثاني على التمييز بين المراحل المختلفة للحكم ، من حيث ارتباطه بتطور المجتمع. وهو يرتبط مع الاول من بعض الوجوه. لكني سأتركه لوقت آخر.
لا
شك ان استيعاب المجتمع المتلقي للرسالة السماوية ، وقابليته لاعادة انتاجها على
شكل دعوة لغير المؤمنين ، هو غرض مقصود بذاته. لو لم يستوعب عرب الجزيرة معنى
ومقاصد الرسالة ، لما تحولت من تيار صغير الى كيان قوي ومن ثم امة كبيرة ، خلال
فترة قصيرة نسبيا. نعلم ان سرعة الاستيعاب والتفاعل ، كان ثمرة لنزول الخطاب بلغة
مألوفة ، ومخاطبته للعقول والعواطف بصورة متوائمة. وأحيل من اراد التعمق في هذه
المسألة الى كتاب المستعرب الياباني توشيهيكو إيزوتسو "الله والانسان في القرآن" الذي ركز على الجوانب الدلالية للغة القرآن ، وكيفية ربطه بين السائد
والمحلي ، وبين الرسالة الداخلية للنص. هذه اللغة - الشفافة حسب وصف ايزوتسو -
مكنت العربي القديم من النفاذ الى مقاصد الخطاب ، عبر مفاهيم سائدة ومألوفة.
الاحكام
التي ذكرت في القرآن والسنة ، التي تنظم العلاقة بين الناس وسلوكياتهم ، ليست
استثناء من هذه القاعدة. وأشير هنا الى رأي الفقيه الهندي شاه ولي الله الدهلوي
(1703-1762م) في كتابه "حجة الله البالغة" وفحواه ان العديد من الاحكام
الشرعية ، بما فيها بعض العقوبات ، ليست من انشاء الشريعة ، فقد كانت معروفة سابقا
، فتبناها الاسلام بعدما ادخل عليها تعديلات.
بعبارة
اخرى فقد عمد الشارع الى ما تعرفه المجتمعات المحلية ، وما تعارفت عليه – يومئذ - كنظام
معقول وعادل ، فتبناه بذاته او بعد تعديله. ولو جاء بمنظومة احكام جديدة تماما ،
فلربما وجدها الناس غريبة او متعارضة مع طبائعهم ونمط حياتهم ، ولربما انكرتها
انفسهم.
يميز
هذا التحليل بين الحامل (اللغة القومية والعرف المحلي) والمحمول (الدين/الشريعة).
يمكن للدين وشريعته ان يخاطب اقواما ومجتمعات مختلفة في ثقافتها وتجربتها
التاريخية وهمومها. يمكن ان نضرب مثالا بمجتمع اوربا او اليابان او افريقيا. لكنه
حينئذ سيحتاج لطريقة خطاب مختلفة ، في اللغة والمفاهيم الحاملة للفكرة وكذلك
منظومات الاحكام.
زبدة
القول ان الدين جزءان: اولهما الحقائق الكبرى وهي جوهره ، والوسيط بين كل انسان
وبين الخالق سبحانه ، وثانيهما القوانين الناظمة للحياة الاجتماعية ، وما فيها من
تعاملات وعلائق. الأول كوني وهو الثابت ، اما الثاني فمتغير بحسب طبائع المجتمعات
وهمومها وتاريخها الثقافي.
الشرق
الاوسط الأربعاء - 6 شوال 1439 هـ - 20 يونيو 2018 مـ رقم العدد [14449]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق