‏إظهار الرسائل ذات التسميات فلسفة المعرفة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فلسفة المعرفة. إظهار كافة الرسائل

15/12/2021

"أحدث من سقراط"

 

كثيرا ما واجهني سؤال التفاضل بين ما ورثناه من اسلافنا ، وما عرفناه من أهل عصرنا. في الاسبوعين الماضيين كتبت عن فكرة الشرعية السياسية ومصادرها ، فواجهت سؤال: لماذا نستعير مفاهيم ابتكرت في الغرب مع وجود نظائر لها في تراث الأسلاف؟. وقبل ذلك قال احد القراء ساخرا: انت تدعو للقطيعة مع التراث ، ثم تستشهد بآراء سقراط الذي مات قبل 2400 عام. اليس فلاسفة المسلمين (احدث) من سقراط؟.

مركز الطب الاسلامي - الكويت

هذا النوع من الاسئلة لا يعتمد معايير النقد العلمي ، فالعلم لا يعترف بالهويات والجغرافيا. أهل العلم يبحثون عن أدلته حيثما كانت ، في الماضي او الحاضر ، عند سقراط او ابن سينا ، بلا فرق على الاطلاق. لكن صاحب السؤال  والكثير ممن يقرأونه لا ينظرون لهذه الزاوية او لا يقبلونها ، لاسيما لو  ظنوا ان الفكرة المطروحة ذات صلة بالدين او أن لها ظلالا دينية.

وفي سنوات سابقة حظيت هذه المسألة باهتمام كبير ، حين اتسعت الدعوة لما أسموه "أسلمة العلوم" ، واقام بعض الأدباء رابطة للأدب الاسلامي واخرى للقصة الاسلامية ، وعقد غيرهم نقاشات لتمييز العلوم الفاسدة ، وقرروا على سبيل المثال ، ان علم الاجتماع الحديث فاسد ، لأنه قام على أسس معادية للدين الحنيف ، وان كبار منظريه ملحدون. كما سمعنا متحدثين عن طب اسلامي ، بمعنى احياء أساليب علاج تطورت في العصور الاسلامية القديمة ، وسمعنا أحاديث عن عسكرية اسلامية ، وسياسة إسلامية الخ.

بدأت هذه الدعوة بغرض محدد هو تحييد البحوث العلمية المخالفة لقيم الدين واخلاقياته ، نظير أبحاث الهندسة الجينية والجرثومية. لكنها أثارت حماسة بعض الناشطين البعيدين – من حيث التخصص – عن حقل العلوم البحتة. هؤلاء بدأوا يتحدثون عن منظور ايديولوجي ، محوره "سبق" المسلمين في مجال العلوم ، وعدم حاجتنا للغرب فيها.

اظن ان المحرك الاقوى لانتشار الفكرة ، هو الفرضية التبسيطية القائلة بانه "اذا كان لدينا منتج ، فلماذا نستورده من الخارج؟". ويزداد تأثير هذه الفرضية حين يشار – كما يحصل دائما – الى ان تلك العلوم قد تطورت في ظرف ديني.

لكن اعتبارها يتلاشى اذا بان سقم مقولاتها وانعدام جدواها. خذ مثلا "الاقتصاد الاسلامي" الذي لم يستطع دعاته تطوير نموذج تنموي قادرة على مجادلة النظريات السائدة في عالم اليوم ، ومثله "المصرفية الاسلامية" التي اكتفى أصحابها بتغيير مسمى المعاملات ، واضافة اجراءات شكلية ، ادعوا انها كافية للخروج من اشكال الربا  ، ولم ينجحوا أبدا في تطوير نموذج للوساطة المالية خارج اطار المصرفية المعروفة في عالم اليوم.   

لم تعمر هذه الدعوة الا يسيرا ، لأنها فشلت في الاختبار. وظهر سريعا انها مبنية على أرضية هزيلة ، حولت الدين الى عباءة او صبغة ، بدل ان يكون مضمونا لرؤية كونية ، تنظم علاقة الانسان مع البشر الآخرين ومع الكون الذي يعيش فيه.

حقيقة الامر ان علينا التحلي بشجاعة الاقرار ، بان القرآن ليس كتاب طب او هندسة او اقتصاد ، وان الله اعطى لعباده عقولا كي يتفكروا ويتفاكروا ، وكي يتعاونوا مع بعضم لتدبير حياتهم على النحو الامثل. لا ينبغي ان نشعر بالقلق لو تركنا علوم الأسلاف ، الى ما هو خير منها عند غيرهم. ما يحدد افضلية هذا على ذاك هو التجربة الفعلية ، وليس اخبار الأولين او الآخرين ، ولا كونها ولدت في بلدنا ، ضمن اطارنا الثقافي ، او في بلدان الآخرين وضمن اطارهم. ان اعقل الناس – كما ورد في الاثر – من جمع عقول الناس الى عقله وليس من احتفى بأسلافه وكتبهم.

الشرق الاوسط الأربعاء - 11 جمادى الأولى 1443 هـ - 15 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15723]

https://aawsat.com/home/article/3359441/

مقالات ذات علاقة

اجماع العلماء ... الا ينشيء علما؟

تأملات في حدود الديني والعرفي

تشكيل الوعي.. بين الجامع والجامعة.. دعوة مستحيلة

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

كي لايكون النص ضدا للعقل

نسبية المعرفة الدينية

نقد التجربة الدينية

24/07/2004

تأملات في حدود الديني والعرفي/العلماني

ربما يكون كتاب "الاسلام واصول الحكم" للمرحوم علي عبد الرازق هو اكثر الكتب التي تذكر في الجدل حول ‏العلاقة بين الاسلام والسياسة ، رغم انه لم يكن اول من عالج المسالة. ولعل المجابهة الحادة التي ووجه بها ‏الكتاب ومؤلفه تعود الى ظهوره في ظرف ازمة ، الامر الذي جعله بالضرورة محشورا في وسط تجاذبات تلك ‏الازمة. وبالتالي فان قيمته العلمية لم يجر اختبارها ضمن اطاره الخاص كعمل علمي. ومن المؤسف ان ابرز ‏الاراء المتعلقة بدور الدين في الحياة العامة قد ظهرت - كما لاحظ رضوان السيد ايضا - في ظروف ازمة ، وكانت ‏بصورة او باخرى اقرب الى التساؤل عما اذا كان لمعرفتنا الدينية دور سببي او نسبة من نوع ما الى تلك الازمة.

الشيخ علي عبد الرازق

كون الازمات مولدة للاسئلة هو امر طبيعي تماما ، فهي تدل على وجود قدرة نفسية وثقافية لممارسة النقد ‏الذاتي ، لكني عبرت عن الاسف لان الوضع الطبيعي هو ان لا يقتصر التفكير في مكونات الثقافة وادوات توليد ‏المفاهيم والنطاقات المرجعية لقيم العمل ، على اوقات محددة سواء كانت اوقات رخاء او اوقات شدة. الثقافة ‏مثل الخبز ، اذا توقف انتاجه فلا بد ان يصاب المجتمع بالهزال الذهني كما يضعف الجسد اذا حرم الغذاء.‏

قبل عبد الرازق عالج الموضوع الفيلسوف الاندلسي ابن رشد في كتابه المعروف "فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال". ويتشابه العملان ‏في تحديد الاشكالية ، فكلاهما حاول تشخيص المساحة التي تخضع لتكييف الاحكام الدينية بالضرورة ، وتلك التي ‏تخضع لتكييف العرف بالضرورة

كلا العالمين اذن كان يهتم بتحديد المعايير ، أي الاجابة على سؤال : ماذا يصح وماذا لا يصح. ومن هذه الزاوية ‏فهما يختلفان جوهريا عن معالجة العلامة ابن خلدون الذي حاول في كتابه ''المقدمة'' وضع توصيف سلوكي ‏لكل من البعد الديني والبعد العرفي في الظاهرة الاجتماعية الواحدة ، لا سيما في صعود وسقوط القوى السياسية.‏

لم يهتم ابن خلدون كثيرا بتقييم صحة او سقم المقولات التي تجادل حول دور الدين او العرف. بل حاول من ‏خلال وصف الحراك الاجتماعي والسياسي ان يقدم تفسيرا عقليا لحدود فاعلية الدين من ناحية والعرف من ‏ناحية اخرى في تكوين الظاهرة وتطورها. وقد التفت بصورة خاصة الى الفارق الدقيق بين الحراك الذي طبيعته ‏دينية وذلك الذي طبيعته عرفية تلبس لباس الدين. واظن ان ابن خلدون قد سبق جان جاك روسو في الاشارة ‏الى تحولات الفكرة الدينية لدى ارتدائها ثياب الحركة الاجتماعية ولا سيما ظهور ما سماه الاخير بالدين المدني.‏

يبدو اذن ان المفكرين الثلاثة كانوا مهمومين بتحديد الخط المائز بين الدائرة الدينية والدائرة العرفية او - على ‏سبيل الاجمال - غير الدينية. لكن مقاربة الاولين كانت مقاربة تقييم بينما اتخذ الثالث مقاربة تحليلية وتفسيرية.‏

ويظهر لي ان التفكير في هذا الموضوع لا زال ابتدائيا ، فعلى خلاف ما يظن كثيرون فان الاعمال العلمية التي كتبها ‏مسلمون في هذه المسالة لا زالت قليلة ، وهي مهمومة الى حد كبير بالتوصل الى احكام اكثر من اهتمامها بوصف ‏حركة التفارق والتلاقي بين الديني والعرفي في داخل الظاهرة الاجتماعية الواحدة ، كما فعل ابن خلدون في الماضي. ‏بطبيعة الحال فالادوات الجديدة التي توفرت في نطاق العلوم الانسانية تقدم امكانات مراقبة وتفسير للظواهر ‏ادق مما توفر لابن خلدون في عصره.‏

يمكن فهم حركة التلاقي او التفارق بين الديني والعرفي ضمن سياقين : الاول هو التمايز بين الديني - او العرفي - ‏كايديولوجيا وفلسفة من جهة. أو كمسار تحول من المطلق الى المحدد. نحن نفهم مثلا ان تحويل الاحكام ‏الشرعية الى قانون رسمي يؤدي بالضرورة الى نقلها - فلسفيا ومفهوميا - من دائرة الدين الى دائرة العرف

‏اما السياق الثاني فهو سياق التفارق الناتج عن ظهور استقلالية كل واحد من النطاقات التي جرت العادة على ‏اعتبارها مختلطة او مشتركة ، مثل نطاق الدين ، نطاق الفلسفة ، نطاق الفن والادب ، نطاق السياسة ، نطاق العلم. ‏الخ. كل من هذه النطاقات مستقلة موضوعيا ، لكنها - ضمن بعض الظروف على الاقل - تبدو متشابكة مع ‏الدين. ان اكتشاف استقلالها لا بد ان ينعكس على تصنيفها ضمن الدائرة الدينية او تحويلها نحو الدائرة العرفية. ‏

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/7/24/Art_128685.XML

عكاظ  24/7/2004 م العـدد : 1133          

مقالات  ذات علاقة

-------------------

 تأملات في حدود الديني والعرفي


 

            

03/07/2004

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التأصيل

فكرة التأصيل هي احدى علل الفكر الديني المعاصر. وقد ظهرت في سياق الرد على الحداثة ، لا سيما في ميدان العلوم الانسانية. ويبدو انها تحولت - عن قصد او عن غفلة - الى نوع من المساومة مع الحداثة ، يؤدي في نهاية المطاف الى ابقاء العلم ميدانا خاصة للنخبة. ومن هذه الزاوية ، فهي تستوحي فكرة قديمة – وراسخة الجذور الى حد ما في التراث الديني – تقول بان من الافضل ابعاد عامة الناس عن الفلسفة والعلوم العقلية ، لان عقولهم اضعف من احتمال اشكالاتها ، ولهذا يخشى على دينهم ان يتزعزع اذا انفتح عليهم موج الاسئلة.

مارتن هايدغر

 في سياق الجدل حول الحداثة ، تبلور في العالم الاسلامي ثلاثة اتجاهات :

يدعو الأول الى رفض العلوم الحديثة كليا او جزئيا ، لان ما ورثه المسلمون من علوم ابائهم ، فيه خير وزيادة.

ويدعو الثاني الى الاخذ بالعلوم الحديثة وما تقوم عليه من اسس فلسفية ، لان العلم هو ميراث الانسان في كل الازمان والامكنة ، وان الاخذ بهذه العلوم سيؤدي بالتدريج الى توطينها واغنائها بالقيم الخاصة بالمجتمعات المستقبلة.

اما الثالث الذي يبدو انه حل محل الاتجاه الاول ، فيدعو الى الاخذ بالجوانب التقنية في العلم الحديث ، وترك القواعد الفلسفية والمعيارية. ثم تأصيل تلك الجوانب ، اي اعادة بنائها على اساس المعايير الخاصة بالاسلام.

حتى هذه النقطة يبدو اقتراح التأصيل حلا مريحا ، خاصة لأولئك المهمومين بقلق الغزو الفكري والهجمة العالمية على الاسلام ، وبقية مفردات نظرية المؤامرة. لكن هذا الحل الذي يبدو مريحا ، غير صحيح من الناحية المعيارية ، وغير ممكن من الناحية العلمية. يقوم هذا الحل على فرضية خاطئة اساسا ، تخلط بين الدور الوصفي - التفسيري للعلم والدور التوجيهي للعالم. الممارسة العلمية بالمعنى الفني ، عملية وصف وتحليل وتفسير. اما توجيه النتائج ووضعها في سياق دعوة او استخدامها لتعزيز دعوة ، فهي خارج نطاق العلم ، ويمكن ان يقوم بها اي انسان ، عالما او غير عالم.. ولهذا تميز المجامع العلمية بين الابحاث التي تستهدف العلم بذاته ، وتلك التي تستهدف وضع سياسات عمل. الاولى تقوم – او ينبغي ان تقوم - على معايير علمية بحتة ، بينما تهتم الثانية بوضع خيارات ملائمة لأهداف محددة مسبقا ،  ولهذا فان اعتبارها العلمي ادنى من الاولى. 

لكي يقوم الباحث او المفكر بممارسة علمية صحيحة من الناحية التقنية ، فانه يحتاج الى التحرر الكامل من قيود الاستهداف المسبق. يجب ان يكون الغرض الوحيد للبحث ، هو التوصل الى معرفة جديدة ، حتى لو كانت تعارض المسلمات والبديهيات التي يؤمن بها سلفا ، لان غرض العلم ليس تعزيز الايمان بل كشف الحقائق الغائبة.

طبقا للفيلسوف الالماني مارتن هايدجر فان من المستحيل تقريبا ، الانفصال عن المسلمات الذهنية السابقة ، التي تشكل عقل الانسان ونظرته الى العالم. دور الخلفية الثقافية في تحديد فهم الانسان للعالم المحيط به ، بما فيه من ناس واشياء ، امر ثابت ، بل هو من المسلمات التي لا يختلف عليها اثنان. لكن لا بد من ملاحظة الفارق الدقيق بين التأثر العفوي بهذه المسلمات ، وسوق الحقائق والتفسيرات بالقوة لكي تطابقها. مشكلة فكرة التأصيل انها تدعو الى المعنى الثاني على وجه التحديد ، اي فرض مسلمات سابقة (يدعى انها دينية) على صورة الحقيقة ، وكيفية وصفها وتحليلها ثم تفسيرها ، وفي هذه الحالة فاننا لا نتوصل الى اي معرفة جديدة ، بل الى تأكيد ما نعرفه مسبقا او ما نريد تحويله ، من رغبة عاطفية الى معرفة او شبه معرفة.

الاشكال الثاني يتعلق بالمعايير الدينية التي يراد تطبيقها على العمل العلمي. الكتاب والسنة لا يقدمان بحوثا علمية ، بل منظومة قيم تتعلق اساسا بمسألة الوجود والكينونة. نقل هذه القيم من صورتها الاصلية ، المجردة والمعيارية ، الى نطاق محدد علمي او عملي ، يؤدي فعليا الى نزع صفتها التجريدية المتعالية ، وتحويلها من مطلق الى محدد ، ومن مجرد الى نسبي. هذه العملية التي يطلق عليها احيانا "الاجتهاد" تتضمن بالضرورة ، تأثر النتائج التي يتوصل اليها المجتهد بخلفيته الذهنية الخاصة.  الزعم بامكانية اخذ النص واستعماله في الاجتهاد او التطبيق ، دون مؤثرات ذهنية او خارجية ، يستحيل اثباته علميا وتجريبيا.

كل اجتهاد هو بدرجة او بأخرى نتاج عقل مختلف في مكوناته ، ولهذا تختلف اجتهادات المجتهدين وتتعارض. فاذا توجهنا الى المجتهدين للحصول على ما يوصف بالقيم الدينية ، فان ما سنحصل عليه ليس قيما معيارية بل منظورات شخصية. وبهذا فان ما سنبني عليه علمنا ليس القيم بل آراء اشخاص محددين. 

لهذين السببين ، ولأسباب اخرى ربما نعود اليها لاحقا ، فان فكرة التأصيل التي يدعى اليها ، كسبيل للمواءمة بين العلوم الحديثة والتقاليد العلمية او السلوكية (التي يدعى انها دينية) لا يمكن ان تنتج علما. لكي ينتعش العلم فانه يحتاج الى التحرر من الاهداف المسبقة والرغبات.

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/7/3/Art_122424.XML
جريدة عكاظ السبت - 15/5/1425هـ ) الموافق  3 / يوليو/ 2004  - العدد   1112

مقالات  ذات علاقة
-------------------


اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...