قدم ارسطو تنظيرا مفصلا نسبيا حول النظام الكوني وقانون الطبيعة ،
منطلقا من الرؤية التي تبناها سقراط ، وهو زعيم المدرسة الفلسفية التي ينتمي اليها
ارسطو. وقد ساد في الفلسفة اليونانية ، منذ بداياتها ، اعتقاد في عقلانية النظام الكوني
، وانبهار بالترابط الفائق الدقة والانضباط بين حركته وغاياته. انطلاقا من هذه
القناعة سعى ارسطو ، الذي لقب بالمعلم الاول ، الى وضع ما يمكن اعتباره نظاما
موحدا لحياة المجتمع البشري ، مستلهما من قانون الطبيعة. اعتقد ارسطو ان العلاقة
التفاعلية بين اجزاء النظام الكوني ووحداته المختلفة ، تشكل انموذجا تحتذيه
المجتمعات البشرية ، ان ارادت بلوغ غاياتها الكبرى ، لاسيما السلام والسعادة
والكمال.
نعرف ان الفلسفة المعاصرة قد تجاوزت آراء ارسطو. الا انه مازال يحوز
الاعجاب بين شريحة عريضة نسبيا من قراء الفلسفة المحافظين ، الذين يجدون تنظيراته
قريبة من اهتماماتهم. ويبدو ان هذا التقدير يجمع المحافظين من مختلف الأديان ،
وحتى من غير المتدينين.
وأشير هنا الى نقطتين في نظرية ارسطو ، تشكلان عنصر توافق بين مختلف
التيارات المحافظة: أولهما قوله ان المعايير والاخلاقيات التي تنظم الحياة
الاجتماعية ، هي حقائق موضوعية غير قابلة للتغيير والتبديل. بمعنى انها ليست من
صنع الناس ، وليس للناس حق في تبديلها وتعديلها. اما الثانية فهي اعتقاده ان
الطبيعة أرادت للمجتمع ان يكون منظما على أساس هرمي ، وأن اهل الحكمة والعلم
يحتلون أعلى الهرم ، حيث ان للمعرفة سلطة ذاتية على ما عداها. ان الدور الذي يلعبه
العارفون وأهل الحكمة ، هو تربية المجتمع وارشاده
، وتفسير حقائق الحياة ، وتطبيق المعايير والقيم الاخلاقية ، التي تنظم علاقات
الافراد وحركة المجتمع ككل.
هذه الرؤية تجدها بنفس التفاصيل تقريبا ، راسخة ضمن منظومة المسلمات الاخلاقية للتيار
الاسلامي المحافظ ، والاتجاه التقليدي بشكل عام. فهم يدافعون عن فكرة التراتب
الاجتماعي ، التي تبرر منح علماء الدين موقع التوجيه والارشاد للحركة الاجتماعية.
كما انهم يؤكدون باستمرار على ثبات القيم والمعايير الاخلاقية ، اعتمادا على
استدلال ديني واحيانا مجرد اشارات ، او ربما ظلال دينية.
أشرت الى ان الفلسفة الحديثة قد تجاوزت آراء ارسطو ، الخاصة بالتنظيم
الاجتماعي والمعايير الاخلاقية والقانون.
فيما يخص التنظيم الاجتماعي فقد تم استبدال التراتب الهرمي بقيمة المساواة.
هذا يعني ان وجود طبقات ومستويات قد يكون امرا واقعا ، لكنه لا يغير من حقيقة ان
الناس جميعا متساوون ، في القيمة والحقوق. كما ان الرؤية الجديدة تميل الى
الاعتقاد بان الاخلاقيات والمعايير والقانون ، امور يصنعها الناس كوسيلة لتنظيم
حياتهم ، فاذا اقتضى العرف او المصلحة العامة تغييرها ، فانها تتغير بشكل لين
وتدريجي ، حتى ان غالب الناس لا يلتفتون الى هذا التغيير الا بعد سنوات ، حين
يعودن الى الماضي ويقارنونه بالحاضر.
ان الاعتقاد السائد بين الاجيال الحاضرة ، هو ان القيم ونظم العيش ،
بما فيها تلك القائمة على اساس ديني ، يجب ان تلبي معايير العدالة والعقلانية
الجديدة ، اي ان تخدم مصلحة ظاهرة لعامة الناس ، وان تكون متلائمة مع عرف العقلاء
، وبهذا تكون قابلة للاستيعاب والتحليل من جانب اي شخص عاقل.
اظن ان أبرز اعتراضات الجيل الجديد من المسلمين على الفقهاء ، سببه
شعورهم بانفصال الفكرة الدينية عما يظنونه عادلا ومعقولا ، أي مفهوما بمقاييس
العصر.
الشرق الاوسط الأربعاء - 14 ذو
القعدة 1440 هـ - 17 يوليو 2019 مـ رقم العدد [14841]