ثمة
احداث تختصر قرونا من التاريخ الثقافي للمجتمعات التي تعرضت لها . واظن ان سقوط
صدام حسين هو من هذا النوع من الاحداث . فيما يتعلق بالشيعة فان هذا الحدث يرقى من
حيث الاهمية الى مستوى الثورة الايرانية لعام 1979 والتي كانت بدورها مرحلة فاصلة
بين عصر ثقافي جديد وعصر قديم استمر خمسة قرون على الاقل.
قبل
الثورة الايرانية كان الاعتقاد السائد بين الشيعة ينفي امكانية قيام حكومة شرعية
قبل عودة الامام المنتظر ، وكانت فكرة انتظار الامام هي البديل الثقافي عن السعي
للسلطة ، ولهذا فان جميع الفقهاء تقريبا مال الى تحريم او تقبيح المشاركة في اي
نوع من الحكومات القائمة في مختلف العصور ، واجازها بعضهم في حال الضرورة ، ووضع
اخرون شروطا على هذه المشاركة كي لا تتحول الى وسيلة لترسيخ الجور. لكن في جميع
الاحوال فان الذين اجازوا المشاركة لم يصلوا الى حد اعتبار الحكومات القائمة شرعية
بالمعنى الديني. ولعل المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء كان بين قلة من الفقهاء
الذين ميزوا بين المشروعية ذات المصدر الديني وتلك القائمة على اساس عرفي
(اعتبارها ضرورة لحفظ النظام العام ومصالح الجمهور) . العلامة النائيني تقدم خطوة
اخرى فكتب في 1908 مطالبا بالتركيز على مؤسسة الحكم بدل الجدل حول شخص الحاكم .
وقال في كتابه الشهير "تنبيه الامة وتنزيه الملة " ان الحكم يمكن ان يكون مشروعا اذا التزم بدستور
مكتوب وخضعت الحكومة للمحاسبة امام مجلس شورى منتخب ، بغض النظر عن شخص
الحاكم . لكن الحل الحاسم جاء على يد
المرحوم الخميني الذي قرر ان السلطة هي الوسيلة الوحيدة لاصلاح شؤون المسلمين
العامة ، ولهذا فان انتظار الامام لا يعني ابدا اعتزال الحياة السياسية .
منذ
ذلك الوقت تلاشت الى حد كبير الفكرة التي تعتبر المشاركة في السلطة مساعدة للظالم
او تشريعا للجور . ولم يعد الشيعة يرون حرجا في المشاركة في اي نظام سياسي . بل ان
حزب الله الذي دعا عند انطلاقته الى ثورة اسلامية في لبنان ، لم يتردد في المشاركة
في نظام سياسي علماني يحصر السلطة العليا في يد المسيحيين .
نجحت
الثورة الايرانية في حل مشكلة تاريخية في الثقافة الشيعية ، لكنها جاءت بمشكلة
اخرى ، او لعلها عمقت مشكلة قائمة . تلك هي الشعور بان الشيعة هم ضحايا لمؤامرة
تاريخية كبرى قام بها الحكام الظالمون في الماضي وتقوم بها الدول العظمى في
الحاضر. فكرة المؤامرة عميقة الجذور في الثقافة الايرانية وهي ترجع الى تاريخ طويل
تعرضت خلاله ايران لغزو الجيران من الشمال والغرب والشرق والجنوب ، وخسرت في تلك
الغزوات ما يزيد على نصف اراضيها . وقد اعيد انتاج فكرة المؤامرة في اطار ديني
بحيث ربط بين تعرض ايران للغزو الخارجي وكونها شيعية المذهب . وانتقلت هذه الفكرة
الى معظم شيعة العالم الذين ظنوا انهم يتعرضون لمؤامرة عالمية غرضها الوحيد هو
القضاء على مذهبهم . وجاء توافق العالم الغربي على حصار ايران بعد الثورة ودعمه
للعدوان العراقي عليها ليعزز فكرة المؤامرة التاريخية .
تعرض
الشيعة في ظل صدام حسين الى مأساة لم يروا مثلها في اي وقت سابق . وشملت بالاضافة
الى التصفية الجسدية لالاف من الرجال والنساء ، تهجيرا منظما طال ما يزيد عن ثلاثة
ملايين مواطن ، اضافة الى تدمير البيئة الطبيعية كما حصل في الاهوار وتفكيك
المؤسسات الاجتماعية الكبرى مثل الحوزة العلمية في النجف الاشرف . واستمر هذا
النهج التدميري نحو ثلاثين عاما وصل معه شيعة العراق الى حافة اليأس من امكانية
الوصول الى نهاية سعيدة لهذه الحقبة السوداء. ثم جاء الخلاص على يد الولايات
المتحدة الامريكية ، الدولة التي اعتقدوا طويلا انها تقود المؤامرة التاريخية
عليهم ، والتي وصموها لاجل ذلك بصفة "الشيطان الاكبر" .
لم
يكن غرض الامريكان مساعدة الشيعة ولا الدفاع عنهم ، لكن حربهم مع صدام حسين ادت –
موضوعيا – الى نهاية الحقبة السوداء . واستطاع الشيعة العراقيون ان يحصلوا على
حقهم في حكم انفسهم للمرة الاولى منذ القرن العاشر الميلادي. لهذا السبب لم يجد
الشيعة غضاضة في العمل مع عدوهم التاريخي المفترض ضد العدو الفعلي . لم يجد عامة
الناس حاجة للبحث عن مبررات في كتب الفقهاء ، فالليل الذي انتهى اشد ايلاما من اي
حاجة للتبرير.
بعيدا
عن التوصيف السياسي لهذا الحادث فاننا امام حالة ثقافية جديدة خلاصتها ان فكرة
المؤامرة التاريخية لم تعد موجودة في الاذهان . بكلمة اخرى فان الشيعة الذين سبق
ان عزلوا انفسهم عن العالم ظنا بانه يتآمر عليهم ، وجدوا ان العالم ليس معنيا ابدا
بصراع المذاهب وان ما يهمه اولا واخيرا هو صراع المصالح . اذا كانت مصلحة واشنطن
معك فهي ستاتيك ، واذا كانت مع عدوك فهي ستذهب اليه. في اعتقادي ان هذا التطور
يرقى الى مصاف الحوادث التاريخية الكبرى ، لانه انهي في اسابيع قليلة منظورات
ثقافية سادت لقرون طويلة واعاقت الى حد كبير حركة مجتمع باكمله .
الثورة
الايرانية كانت – بالنسبة للشيعة - بوابة لتشريع المشاركة في السلطة ، بغض النظر
عن طبيعتها والقائمين عليها . كما ان المشاركة الامريكية في تغيير النظام العراقي
هي بوابة للانفتاح على الحداثة وتياراتها النشطة في العالم .
يتحدث
الشيعة العراقيون اليوم عن مفاهيم جديدة تماما على الخطاب العربي والاسلامي ،
مفاهيم تنتمي بالكامل الى زمن الحداثة الثقافي . من ذلك مثلا اعتبار الحريات
العامة خطا احمر لا يمكن تجاوزه باي قانون حكومي حتى لو قام على مبررات دينية .
ومن ذلك القبول بالتعددية الثقافية من دون حدود او قيود ، ومنها المشاركة الجبرية
للنساء في البرلمان والوزارة ، ومنها القبول بحكم محلي يتجاوز في كثير من الاحيان
سلطة الدولة المركزية .
كل
من الحدثين ، الايراني في 1979 والعراقي في 2003 يمثل فاصلة تاريخية بين زمنين
ثقافيين . واظن ان من المهم ان نفكر في الانطلاق مما جرى فعلا لبناء منظومة ثقافية
جديدة تكرس القطيعة مع تاريخ من المآسي الرمزية ، وتنفتح على عالم جديد رحب من فرص
وامكانات التقدم . عالم عجزنا عن اكتشافه في الماضي ، لاننا سجنا انفسنا وعقولنا
في صندوق رمزي مليء بالمآسي والهموم والاحزان.
الايام 13 ديسمبر 2005