الجدل حول الاختلاط، والجدل
حول حلقات التحفيظ، وما قبلهما وما سيأتي بالتأكيد بعدهما، حلقات غير منفصلة في
مسلسل واحد، فسره البعض بتصاعد الموجة التغريبية، وفسره منافسوهم بتصاعد موجة
التشدد، وربما عرضت تفسيرات أخرى تقترب من هذين أو تبتعد عنهما. والذي أراه أن هذا
الجدل والجدالات المماثلة منذ العام 2003 حتى اليوم هي علامات على مرحلة جديدة
يعيشها المجتمع السعودي، تختلف إلى حد بعيد عما عرفه في تسعينيات القرن المنصرم.
ثمة مجتمعات استقرت ثقافيا
وروحيا، بعدما بلغت مرحلة توازن نسبي بين القوى والأطياف التي يشكل كل منها دائرة
مصالح واضحة إذا نظرنا إلى مضمونها الاجتماعي / السياسي، أو نظاما ثقافيا خاصا إذا
نظرنا إلى مبررات وجودها وعناصر تميزها عن الغير. في المقابل، فان المجتمعات
النامية ــ والعربية من بينها ــ تمر في ظروف تحول تنطوي على تغيرات متوالية في
المفاهيم والتصورات ونظم العمل والعلاقة بين الناس.
أبرز محركات التحول هو
الدافع الاقتصادي ويليه السياسي. يأتي الدافع الاقتصادي في المقدمة لأنه يتميز
بنوع من الاستمرارية تجعله فعالا لفترات طويلة نسبيا. بينما يعتبر العامل السياسي
عارضا أو ظرفيا، فهو قد يأتي بسبب أزمة طاحنة ــ مثل الاجتياح العراقي للكويت في
1990 مثلا، أو الهجوم على نيويورك في 2001، أو بسبب كوارث طبيعية أو إنسانية أو
حروب. وهذه جميعا تترك آثارا عميقة لكنها تتوقف عند حد معين بعدما يمر عليها الزمن.
يبدأ تاثير المحرك الاقتصادي
عند النخبة، لكنه يولد بعد أمد قصير محركات فرعية تنتشر بالتدريج بين عامة الناس.
هذا الانتشار جزء من طبيعة الاقتصاد ولا يمكن التحكم فيه أو تحديد مساراته. الذين
درسوا تجارب النمو في العالم الثالث لاحظوا جميعا أن الحراك الاقتصادي قد ولد
موجات هجرة خلقت مدنا جديدة أو غيرت البنية الاجتماعية للمدن القائمة، كما خلق
نطاقات تواصل جمعي يتمثل في وسائل الإعلام الحديثة وشبكات الاتصالات المختلفة التي
حولت الشأن العام من حرفة خاصة بالنخبة إلى موضوع يتداوله جميع الناس.
النشاط الاقتصادي يأتي أيضا
بالمعرفة من خلال تنوع قنوات التعليم العام وموضوعاته، ومن خلال الانفتاح على
العالم. على أن التأثير الأهم للنشاط الاقتصادي هو توليده لحالة الاكتفاء الحياتي،
أي الشعور المستقر عند الأغلبية الساحقة من الأفراد بالاطمئنان على الحياة. مجموع
هذه العوامل يثير في نفس الفرد تساؤلا مشروعا يدور حول مكانه في الخريطة
الاجتماعية ودوره في الحراك الاجتماعي.
شهد العقد الأخير من القرن
العشرين ظهور التيار المعروف بتيار «الصحوة»، وهو تيار أثار كثيرا من النقاشات
وتولدت في وسطه وعلى حاشيته، أو كنقيض له، الكثير من التحولات. إذا تأملت بعمق في
التكوين البشري لهذا التيار، فسوف تجد أنه كان إفرازا للتحولات الاقتصادية التي
شهدتها المملكة في العقد السابق، ولا سيما خلال خطتي التنمية الثانية «1976 ــ
1980» والثالثة «1981 ــ 1985». صحيح أن تلك الحقبة قد شهدت أزمات سياسية أيضا،
لكن تلك الأزمات كانت أشبه بالعلامات الإرشادية على الطريق، أما الطريق نفسه فقد
رسمته برامج التنمية التي غيرت البلاد في العمق كما في الظاهر.
لتأكيد أهمية العامل
الاقتصادي نشير أيضا إلى الظرف الثقافي والاجتماعي الذي تمر به المملكة اليوم.
المسارات الرئيسية والأقوى تأثيرا في المجال الثقافي والاجتماعي ــ ومن بعده
السياسي ــ هي تلك التي تولدت في سياق التنمية الاقتصادية التي قامت على فلسفة
السوق الحرة بآلياتها ودينامياتها المعروفة، ولا سيما اعتبار عوامل السوق الحصان
الذي يقود عربة التنظيم، وليس العكس كما في الاقتصادات التي تتبع نظام التخطيط
المركزي.
الذين انتسبوا إلى «الصحوة»
خلال النصف الثاني من تمانينيات القرن المنصرم حتى أواخر التسعينيات كانوا يبحثون
عن ذواتهم من خلالها، كانوا يسعون إلى التعبير عن أنفسهم وتحديد مكانهم في مجتمع
تتغير منظوماته العلائقية والقيمية بسرعة كبيرة. نحن الأول في طور آخر، يبدو لبعض
المحللين معاكسا لحقبة «الصحوة»، ويبدو لغيرهم امتدادا لتلك الحقبة لكن في وعاء
أكثر تطورا. لكن ما يهمنا في هذا الجدل كله هو أن سكان هذا الظرف، أي الجيل الجديد
من السعوديين، سوف يسلك ذات السلوك، أي البحث عن ذاته ودوره ومكانته ضمن الخريطة
الاجتماعية. هذه هي طبيعة المجتمعات وتحولاتها. خيارات هذا الجيل ــ وهي واضحة
بالنسبة للكثيرين ــ هي التي سترسم صورة المجتمع السعودي خلال السنوات القليلة
القادمة.
صحيفة عكاظ » - 29 / 11 / 2010