‏إظهار الرسائل ذات التسميات المساواتية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات المساواتية. إظهار كافة الرسائل

06/11/2021

المـــســــــاواة: تعريف بالفكرة وبعض تحولاتها

د. توفيق السيف


ربما ترغب أيضا في قراءة:

برنارد وليامز:  فكرة المساواة

ديفيد ميلر: المساواة والعدالة

محسن كديور: من العدالة النسبية الى المساواة

ايزايا برلين: المساواة: اشكالات المفهوم واحتمالاته

ستيفن جوزباث: المساواة: النقاشات الحديثة في المفهوم وتطبيقاته

 توفيق السيف: المساواة .. تعريف بالفكرة وبعض تحولاتها

مقالات منوعة حول المساواة


فهرس المقالة

مفهوم المساواة: ثلاثة مستويات.. 4

جدل مستمر. 6

المساواة كتقرير وصفي... 8

المساواة علاقة: ماذا نعني بهذا؟. 9

وعاء القيمة: موضوع "علاقة" المساواة. 10

رؤية روسو. 12

رؤية ويلسون.. 14

قانون الطبيعة. 16

دور الاديان السماوية. 19

من نظام الطبيعة الى نظام المجتمع. 21

المفهوم الاول للمساواة: التناسبية= Proportional 24

مفهوم المساواة في المسيحية. 26

مفهوم المساواة في الاسلام. 28

تحولات مفهوم المساواة في عصور الاسلام التالية

الحتمية البيولوجية. 45

الاساس العلمي لدعاوى التمايز العرقي
البيولوجيا الاجتماعية:
نقد الحتمية البيولوجية

ماذا تعني الحتمية البيولوجية  بالنسبة لمبدا المساواة

مغالطات منطقية. 59

من القانون الطبيعي الى الحقوق الطبيعية. 62

 

 هذه المقالة

مفهوم "المساواة" بسيط جدا ، لكنه في الوقت ذاته محل خلاف شديد. فهناك من يضعه في أعلى مراتب القيم ، وهناك من ينكره كليا ، او يعتبره قيمة ثانوية. تستهدف هذه المقالة بسط المفهوم وتوضيحه ، وبيان بعض أوجه الخلاف حوله ، وبعض جوانب التطور في فهم المساواة والتحولات التي أصابت موضوعاتها. ومع اني حاولت الاقتصار على النقاشات التي دارت في الحقب السابقة للقرن العشرين ، لكن هذا بدا لي غير ممكن ، فنحن نفهم التطورات القديمة على ضوء ما توصلنا اليه في السنوات الاخيرة. ما نتعلمه لاحقا يوضح بصورة أجلى نقاط الضعف والقوة في التصورات السابقة.

على اي حال فان هذه المقالة تقدم تصورا مختصرا عن تلك النقاشات ، وهي تستهدف في المقام الاول تمهيد الطريق للنقاشات الاوسع ،  في فصول الكتاب التالية. وقد كانت محل اهتمامي نظرا لما لاحظته من ندرة الكتابات العلمية الجادة عن مسألة المساواة في اللغة العربية. وهذا من الأمور الغريبة ، سيما بالنظر الى اتساع اهتمام المثقف العربي بالفلسفة السياسية وحقوق الانسان في السنوات الأخيرة.


تمهيد

لعل افضل تمهيد للنقاش في مسألة المساواة ، هو الرأي الذي عرضه المفكر الهندي امارتيا سن ، وخلاصته ان المساواة فرضية أولية ، في كل نظرية حول العدالة في الازمنة الأخيرة. تختلف هذه النظريات عن بعضها في المقاربة ونقاط التركيز والأولويات وفي النتائج ، لكنها جميعا تشترك في خاصية اساسية ، هي المطالبة بالمساواة في شيء ما.[1]

المساواة بين الناس هي ابسط وأجلى تطبيقات العدالة. والعدالة كما نعلم ، هي القيمة الكبرى التي يقوم عليها ويستهدف اقراراها ، كل نظام اجتماعي. لو سألت معظم الناس عن المعنى الذي يتبادر الى أذهانهم ، حين يسمعون كلمة "العدالة" لأجابوك انه معاملة الناس بالسوية. ومن هنا فثمة اتفاق بين جميع البشر ، على ان  النظام السياسي الصالح هو الذي يقوم على أرضية المساواة بين المواطنين ، ويسعى الى صيانة وتعزيز المساواة ، من خلال القوانين وبرامج العمل. بحسب ديفيد ميلر فانه يمكن للمساواة أن توفر المادة والموضوع الذي يتجسد من خلاله مبدأ العدالة ، حيثما بقيت قيمة العدالة نفسها صامتة[2]. بعبارة اخرى فان المساواة هي التطبيق الخارجي لفكرة العدالة المجردة.

أما مفهوم العدالة عند غالبية الناس ، فهو يتضمن - طبقا لرؤية الفيلسوف المعاصر كارل بوبر - خمسة عناصر:

 أ) التوزيع العادل لعبء المواطنة ، اي حدود الحرية الضرورية في الحياة الاجتماعية . ب) التساوي امام القانون ، مع فرض ان : ج) القوانين غير شخصية ، ولا توضع لصالح فرد بعينه او ضد افراد او جماعات بعينها. د) قضاء منصف . هـ) مشاركة متساوية في المنافع والفرص المتوفرة في المجال العام.[3]

حول المعنى الدقيق للمساواة ، يقترح ايزايا برلين المقولة الشائعة بين الفلاسفة النفعيين "كل انسان يحسب واحدا ولا احد يحسب أكثر من واحد". وهو يرى ان هذه المعادلة تشكل قلب نظرية المساواة او الحقوق المتساوية. وقد تركت أثر بارزا على معظم الفكر الليبرالي والديمقراطي[4].

والمساواة من المسلمات التي لا يختلف عليها اثنان. نعني بكونها مسلمة ان تطبيق مفادها لا يحتاج الى تبرير. فهي من القواعد الأصلية التي يقر بها كل عاقل. ولأنها على هذا النحو ، فان تركها وتطبيق المفاد النقيض لها ، اي عدم المساواة ، يحتاج دائما الى تبرير مناسب. كمثال على هذا: لو قامت الحكومة بتوزيع بعض المنافع بصورة متساوية بين المواطنين ، فلن تجد من يطالبها بتبرير لهذا العمل. لكن لو فعلت العكس ، اي أعطت بعض المواطنين وحرمت آخرين ، أو اعطت للبعض أكثر من غيرهم ، فان الجميع سيجد حاجة لتبرير هذا التفاوت.

وكذا الحال لو وزع أحد الآباء قدرا من ثروته على أبنائه بصورة غير متساوية. فانه مطالب – أدبيا - بتبرير مناسب. بينما لن يحتاج لمثل هذا التبرير لو وزعها بالتساوي. ومن هنا يظهر ان التوزيع المتساوي للمنافع أمر مسلم به ، طبيعي ، متسق مع الفطرة الانسانية ، دليله في ذاته self-evident ، ولا يحتاج الى تبرير أو دليل خارجي[5].

الى ذلك ، فان المساواة تشكل – كما لاحظ ايزايا برلين - قاعدة أولية ، بمعنى انها تعبير عن العقلانية الاولية ، التي لا تحتاج الى تبرير ديني او ثقافي او غيره ، فهي لازم منطقي مثل القواعد المنطقية الاخرى ، كقولنا ان الضدين لا يجتمعان وان اثبات الشيء لا ينفي ما عداه ، وأمثال هذه اللوازم التي لا تحتاج لتبرير من خارجها. ومن هذه الزاوية فان مبدأ المساواة هو الفرضية المسبقة في القوانين وقواعد العمل ، التي تنظم اي شكل من اشكال النشاط الجمعي ، سواء كان أهليا تعاونيا ، كما في حالة الاتحادات الحرفية والمنظمات الدينية والاحزاب السياسية ، او كان تجاريا بحتا كما في منظمات الاعمال ، او كان قانونيا – سياسيا كما في العلاقة بين الادارة الحكومية والمجتمع.

جميع القوانين وقواعد العمل ، تنطلق من فرضية ان جميع المعنيين بها متساوون في الالتزام بمفادها. كما ان تلك القواعد تعزز – وان بصورة غير مباشرة – نوعا من العلاقات المتساوية بين اعضاء المجتمع[6]. ومن هنا فان المساواة وسيادة القانون ، تمثلان عنصرين متفاعلين في النظام السياسي ، كل منهما يرسخ الآخر ويعزز فاعليته.

مفهوم المساواة: ثلاثة مستويات

قلنا ان المساواة هي ابرز مصاديق العدالة. انها المعنى الاول الذي ينصرف اليه الذهن ، حين يجري الحديث عن العدالة. ذلك ان ذهن الانسان يميل بشكل طبيعي ، الى وضع الفكرة المجردة في اطار تطبيقي ، كي يحدد المعنى المراد. ومن هنا فهي قرين ثابت لقيمة العدالة ومفهومها ، في معظم الثقافات والايديولوجيات. هناك بالطبع بعض الاستثناءات التي تمنع من اطلاق القول بهذا الاقتران ، سوف نتعرض لها في الصفحات التالية.

ينطوي مفهوم المساواة على ثلاثة ابعاد او مستويات:

الاول: انها تقرير يصف حقيقة قائمة descriptive. بهذا المعنى فان المساواة وصف لعلاقة بين طرفين أو أكثر ، بالنظر الى بعض الخصائص المتماثلة فيهم. حين نقول بان هذا يساوي ذاك ، فاننا نشير الى عناصر اشتراك بينهما. فاذا كانت عناصر الاشتراك تتعلق بجوهر الطرفين ، قلنا انهما متساويان بوصف عام ، كالقول مثلا ان جميع البشر متساوون في الخلق. واذا كانت عناصر الاشتراك جزئية ، لزم ان نحدد موضوع  التساوي بينهما ، كالقول مثلا ان هذين البيتين متساويان في المساحة او في القيمة. اهمية هذا المعنى تكمن في انه المنطلق الاساس للمستويين التاليين. والقبول به يلغي اي حجة ضد المساواة بين بني الانسان.

الثاني: انها قيمة معيارية ومبدأ يرجع اليه في تقييم العلاقات بين الناس normative.  وأصل هذا المعنى هو ما سبق ذكره ، من كون المساواة اول وابسط تجليات العدالة ، وان معاملة الناس بالسوية لا تحتاج الى تبرير ، بينما يحتاج التمييز بينهم الى مبرر. ان عدم الحاجة الى التبرير تشير الى كون المساواة قيمة مستقلة ، بمعنى انها تنطوي في داخلها على دليلها ، او انها هي بذاتها دليل أول ، فلا تحتاج الى تدليل سابق على ضرورتها. وقد تعارف المفكرون المسلمون على تسمية هذا النوع من القيم بالمستقلات العقلية. ان القبول بالمساواة كقيمة معيارية ، هو الاساس المرجعي للمستوى الثالث ، اي كونها دعوة وموضوع عمل.

الثالث: المساواة كدعوة وموضوع عمل prescriptive. اي ان المفهوم والنقاش فيه ، يستبطن دعوة الى نوع محدد من التعامل مع المعنيين به. فاذا قلنا ان الناس متساوون في الخلق (كما في البعد الوصفي) ترتب عليه لزوم ان نعاملهم على نحو متماثل ، من حيث الحقوق والتكاليف ، وان نعتبرهم متساوين في القيمة. واذا قلنا انهم غير متساوين ، ترتب عليه ان نضع لكل فريق ما يتناسب مع رتبته ، من قيمة وحقوق ومسؤوليات. وهذا يتجلى عادة في الجدالات السياسية ، وتلك التي موضوعها حقوق الانسان.

يتضح من السطور السابقة ان المساواة القيمية  (المستوى الثاني) صناعية ، لأنها افتراض يقرره البشر ، اما المساواة التقريرية/الوصفية فهي واقعية ، وأصل في الخلق. أي ان الحديث عنها تقرير عن محتوى موجود في طبيعة الانسان ، سابق لارادته وقراره. انها جزء من التكوين الفطري للانسان. لا يختلف فرد عن اخر في هذا المحتوى. وان اخذ مقتضياتها بعين الاعتبار في العلاقة بين البشر ، هو الخيار المنسجم مع فطرة الله التي فطر الناس عليها.

 اما حين نقول انها قيمة ودعوة ، فكأننا نعتبرها نتاجا للبيئة الاجتماعية التي يتربى فيها الناس ، وانها – بالنسبة لمجموع البشرية – قيمة توصلوا اليها واثبتوها ، سواء كانت في الاصل جزء من طبيعتهم ، أو لم تكن.

اهتمامنا بتقرير ان المساواة عنصر فطري ، وانها جزء من طبيعة الانسان ، مبعثه الرؤية القديمة التي تطورت على ارضية "قانون الطبيعة" ، والتي فحواها انه من الخير للبشر ، ان يجعلوا نظام حياتهم منسجما ومتلائما مع النظام الكوني. المجتمع الانساني جزء من هذا النظام العملاق الفائق الدقة. وان خير البشر يكمن في وضع نظام للعلاقة فيما بينهم ، يجسد الصورة الأقرب الى هذا النظام المتقن[7].

اذا قلنا بان المساواة عنصر فطري وجزء من طبيعة البشر ، فان السؤال التالي سيكون: كيف نجعل هذه المساواة الفطرية ، معيارا نشطا وفعالا في تنظيم العلاقة بين الناس؟. اي كيف نعالج اللامساواة باعتبارها خروجا عن النظام الطبيعي. 

ولو اخترنا الجانب المعاكس ، وقلنا بأن البشر متفاوتون في الاصل والفطرة ، وأن الصفات المشتركة التي تبرر الدعوة للمساواة فيما بينهم ، مكتسبة لاحقا من البيئة أو التربية العائلية ، او من التعليم او الاعراف الاجتماعية او الجهود الفردية او غيرها ، فهذا يعني ان المساواة ليست جزءا من تكوين الانسان الأولي ، بل هي قيمة صناعية يتعلمها الناس كجزء من ثقافتهم الاجتماعية ، وبالتالي فان التمييز بين انسان وآخر لا يمثل خروجا على الاصل.

وبناء عليه فان السؤال الذي يتلو هذه الفرضية ، هو : لماذا نحتاج الى المساواة ، وكيف نتعامل مع الميل الطبيعي عند البشر للتمايز.

جدل مستمر

يوضح التصنيف السابق ان مبدأ المساواة ، أيا كانت أرضيته الفلسفية ، قيمة أساسية تترتب عليها حقوق طبيعية ومدنية لكافة الناس. لكن ما يثير الاستغراب انه رغم اتفاق غالبية الفلاسفة والاخلاقيين المعاصرين ، على تساوي البشر قيميا عند الولادة ، أي كونهم متساوين في الأصل ، الا اننا نواجه حتى اليوم من ينكر هذا الأصل ، بشكل مباشر وصريح في بعض الأحيان ، وبشكل غير مباشر في أحيان أخرى ، نظير القول بان العدالة بديل يتلافى عيوب المساواة. فكأنه يبرر رفضه للمساواة بكونها ناقصة ، فاما الأخذ بالمساواة (الناقصة في رايه) او الاخذ بالعدالة (الكاملة في رايه).

يجري التعبير عن رفض المساواة (بحجة العدالة) بأشكال مختلفة ، من بينها مثلا القول بان الاقرار بالقيمة المتكافئة للبشر عند الولادة ، لا يستلزم – بالضرورة - أن على المجتمع تحقيق المساواة بين أفراده. وهذا كما نعرف رأي المفكر الأمريكي المعاصر روبرت نوزيك ، وهو أبرز معارضي الفهم المساواتي egalitarian  للعدالة الاجتماعية[8].

اما في العالم الإسلامي فان الاعتراض على المساواة ينطلق من فرضية ان العدل أعلى مرتبة منها ، فحيثما تزاحما او تعارضا ، قدم العدل ، الذي يسمح بتفاوت وتمايز ، بحسب الظروف وبحسب الاطار القيمي الذي يناقش فيه الموضوع. وقد لاحظت ان هذا التبرير ، قد جرى تمديده واستعماله في اي موقع يتضمن أحكاما تمييزية او ميلا عن أصل المساواة ، كما هو الحال في الاحكام الفقهية الخاصة بحقوق النساء قياسا للرجال ، وحقوق غير المسلم قياسا للمسلم ، وما إليه. وقد لاحظ د. محسن كديور ، في دراسته القيمة (المنشورة ضمن هذا الكتاب) انه كان حريا بالفقهاء ان يعيدوا النظر في تلك الاحكام ، التي ربما تكون أدلتها او سوابقها مرتبطة بقضايا تاريخية ، وليست تشريعا ثابتا. لكنهم لم يفعلوا ، فبقيت تلك الاحكام حتى يومنا الحاضر. وبدلا من اصلاح ذلك الخلل ، من خلال تبني قيمة المساواة بين الناس ، مالوا الى تبرير التمييز ، بمثل القول ان المساواة غير ممكنة في كل الاحوال ، او غير مطلوبة ، او انها لا تفي بأغراض العدالة.. الخ.

والحق ان ميلهم هذا كان نتيجة لفرضيتين ، لا تخلو اي منهما من مشكلات:

الأولى : افترضوا ان ما ورد في النص من احكام تمييزية او تؤدي الى تمييز ، مقصودة بذاتها وليست مشروطة بظرفها التاريخي او موضوعها المباشر.

الثانية: افترضوا ان الحكم الشرعي غير مشروط بالمصلحة وحكم العقل ، او ان عقلانية الحكم الشرعي ليست هي العقلانية العرفية ، اي ما يعرف عند الاصوليين ببناء العقلاء ، ولذا يمكن لحكم شرعي ان يعارض مصلحة عقلائية او عرفية صريحة ، او يخالف حكم العقل ، لأن النص مقدم عندهم على العقل[9].

لقد أدى هذا الميل الى نتيجة في غاية السوء ، وهي تمديد المبررات المذكورة الى التشكيك في مبدأ التساوي القيمي الطبيعي ، أي كون البشر متساوين عند الولادة. وهو جدل يرى كثيرون ان العالم انتهى منه ، ولم يعد سوى ذكرى عن تاريخ قديم. وسوف نعرض في الصفحات التالية ، ما يشير الى ان هذا الرأي لا زال متداولا ، وقد تبنى عليه احكام دينية وقانونية ، ويؤمن به كثير من الناس. ولهذا نجد حاجة الى مجادلته.

المساواة كتقرير وصفي

حظي الجانب الوصفي بالقليل فقط من اهتمام الباحثين. بعكس الجانب القيمي والدعوي. واحتمل ان هذا يرجع الى صعوبة التمييز بين المساواة كعنصر مستقل وحقيقي مستقر في ذات الانسان ، وبين تصورنا للمعنى المنبعث من لفظ المساواة وما يترتب عليه. بين الابحاث القليلة التي ركزت على الجانب الوصفي ، اخص بالاشارة كتاب بيتر وستن "حديث المساواة"[10] ، وكتاب "متساوون بالفطرة" وهو عمل مشترك لجون كونز وباتريك برينان[11]. وسأعرض بعض آرائهم في الفقرات التالية.

وفقا لبيتر وستن ، وهو اكاديمي وخبير في القانون ،  فان الميل العام الى النموذج المساواتي للعدالة في عالمنا المعاصر ، مبعثه الايمان العميق بأن المساواة حقيقة مستقرة في الوجود الانساني. اي ان البشر متكافئون من حيث الأصل الطبيعي. وهذا على وجه التحديد مضمون المستوى الوصفي[12]. ويستشهد وستن برأي الفيلسوف المعاصر برنارد ويليامز ، الذي رأى ان هذا الموقف يقدم اسنادا مهما للمثل الاجتماعية ، وبرامج العمل التي تتبناها الاحزاب السياسية. هذه الدعوة لا تستمد قوتها من مجرد الوصف المساواتي ، ولا لأن المساواة تساعد على التبسيط او الضبط ، بل لأن تبني تلك الأحزاب لمبدأ المساواة يحاكي شعورا عميقا في انفس الناس ، فحواه ان المساواة جزء من طبيعة الحياة السليمة ، لكنها – لسبب ما – حجبت أو اغفلت في ظل التنظيم الاجتماعي القائم[13]. بعبارة اخرى ، فان الدعوة للمعاملة المتساوية لجميع الناس ، تنطلق من حقيقة انهم متساوون في انتمائهم جميعا الى هذا الجنس.

المساواة علاقة: ماذا نعني بهذا؟

لأول وهلة يبدو لفظ المساواة بسيطا أو احادي الدلالة. لكن مع القليل من التأمل في تركيبه الداخلي ، سنرى انه يلخص مجموعة معان متفاوتة ، ويربط بينها على نحو بديع. "مساواة" مصدر من الفعل ساوى ، وهو على وزن مفاعلة ، التي تعني فعلا واحدا يصدر من طرفين في آن واحد ، او يتعلق قيامه وتمام معناه بوجود طرفين ، على نحو متقابل ومتوائم ، بحيث يحكي الفعل علاقة بينهما في موضوع محدد.  بعبارة اخرى فان هذا النوع من الافعال ، قد ينشئه طرف واحد ، لكن تحقق معناه ، رهن بوجود طرف آخر ، يشارك في استكمال الفعل حتى يبلغ تمام معناه. وهذا شبيه لقولنا مشاركة ومصالحة ومجادلة ومعاشرة ومساهمة ومسامحة وأمثالها. فكل من هذه الالفاظ تشير بوضوح الى تعلق الفعل بطرفين أو أكثر في انشائه أو اتمام معناه ، ولا تستقيم الا بذلك. ومثل ذلك تماما قولنا تساوى او ساوى.

وجادل اياد دويكات بان المفاهيم التي تشير الى تشارك وتفاعل ، مغفلة او قليلة التداول في ثقافتنا العربية المعاصرة ، بسبب "ضعف أو غياب الفكر الجمعي من عقولنا إلى حد بعيد. فكل ما هو على وزن مفاعلة في ثقافتنا ، يعني أن نقوم بالفعل من طرفنا تجاه الآخر ، في حين أن الأفعال على وزن مفاعلة تعني قيام طرفين أو أكثر بفعل ما ، بشكل متزامن وبما يحقق رغبات جميع الأطراف المشاركة بالتساوي.  نحن عادة "نفعل" ما نريد بدون ممارستنا للمفاعلة.."[14]

يتضح اذن ان لفظ المساواة يشير الى أ- طرفين أو أكثر ، ب- علاقة مقارنة بين الطرفين ، ج- موضوع لهذه العلاقة.

يلخص وستن المساواة التقريرية/الوصفية ، على النحو التالي: "المساواة" علاقة مقارنة تجمع بين شخصين أو أكثر من الشخصيات أو الأشياء المختلفة ، بحكم كونهما قابلين للقياس بمعيار مقارنة واحد ، ذي صلة بالموضوع. وبه يمكن اثبات انهما لا يتمايزان عن بعضهما في هذا المعيار. هذا التعريف يستبعد العلاقة بين شيئين متشابهين أو أشياء متشابهة ، فهذه علاقة تشابه كما هو واضح ، كما يستبعد العلاقة بين الاشياء المتماثلة من جميع النواحي ، فهذه مساواة رياضية ، أو مطلقة. المساواة التقريرية/الوصفية العادية متميزة عن هذه وتلك ، فهي العلاقة القائمة بين شيئين متمايزين ، يتطابقان في بعض النواحي ، مع تمايزهما في نواح اخرى[15].

 إذن فالمساواة الوصفية البسيطة تنطوي على ثلاثة عناصر:

أ- التعددية: حين تتحدث عن المساواة ، فانت تشير دائما الى طرفين او أكثر. هذا يعني ان موضوع الحديث  "علاقة" بين العناصر المذكورة. مفهوم المساواة لا يصف عنصرا بمفرده في معزل عن العناصر الاخرى. لذلك لا نقول ان كيس القمح متساو بل نقول انه مساو لكيس السكر مثلا. ذكر الطرف الثاني يؤكد ان موضوع الكلام هو العلاقة بين الطرفين ، وليس وصفا لأحدهما.

ب- اختلاف أطراف العلاقة: المساواة الوصفية علاقة بين عناصر تتمايز عن بعضها في جانب او أكثر . لهذا نتحدث دائما عن الاشياء المختلفة ، ونشير في الوقت نفسه الى عناصر التماثل ، نقول مثلا ان كوب السكر يساوي كوب الطحين في الوزن. فهما اذن ليسا وصفا لشيء واحد ، بل وصف لشيئين متمايزين.

ت- انها علاقة مقارنة بين الطرفين ، بمعنى ان المعلومات التي ترد في جملة الوصف ، تخبرنا عن شيء ما كنا سنعرفه من خلال وصف كل طرف بمفرده.

وعاء القيمة: موضوع "علاقة" المساواة

جوهر التقرير الوصفي للمساواة ، هو ان افراد النوع الانساني متماثلون في خصائص معينة ، تكفي لاسناد دعوى التساوي بين جميعهم ، وانها – من زاوية ثانية - قصر على النوع الانساني ، ولا يشارك فيها بقية المخلوقات. 

هناك بطبيعة الحال كثير من الخصائص التي يتشارك فيها البشر بالتساوي. يتساوى الناس في عدد الكروموسومات مثلا ، لكن الخصائص التي نركز عليها هنا ، هي تلك التي يمكن ان نؤسس على أرضيتها ضرورة المساواة كواجب اخلاقي. لهذا نتحدث – كما فعل غالبية المفكرين – عن "القدرة على الاختيار الاخلاقي" باعتبارها سمة يتميز بها البشر عن سائر المخلوقات ، وهي في الوقت نفسه ، عنصر نتيقن من وجوده عند كافة البشر وبدرجات متساوية.

اختار كونز وبرينان نظرية متمايزة في تحديد عنصر التماثل بين البشر. ووفقا لمجادلتهما ، فان الصفة موضوع المقارنة هنا ، يجب ان تكون متماثلة من حيث وجودها الاولي ، ومن حيث درجة الاتصاف لدى كل من اطراف العلاقة. لو افترضنا ان الارادة او العقلانية ، هي الصفة موضوع المقارنة ، فيحب ان تتوفر في الشخصين ، وان تتوفر بنفس الدرجة. اي ان مجرد الوجود الاولي والتماثل فيه ليس كافيا. وهو ما سبق ان اسماه الرجلان بالمساواة المزدوجة. اي:

 أ) وجود الصفة عند كلا الطرفين ، و

ب) وجودها بدرجة متماثلة.

بناء عليه فان المساواة توجد حيثما وجدت صفات قابلة للقياس والمقارنة ، ووجد انها متساوية في شخصين او أكثر ، من حيث الاصل والدرجة. عندئذ نقول ان الشخصين متساويان[16].

هذا يأخذنا الى الصفة او الصفات ، التي تتعلق بمورد النقاش دون غيرها. واضح ان مورد النقاش في هذه الصفحات هو الحقوق الاجتماعية والسياسية ، أي تلك الشريحة من الالتزامات التي يتوجب على المجتمع (والدولة) الاقرار بها لكل فرد تنطبق عليه المواصفات التي نتحدث عنها.

نتحدث اذن عن الصفات التي نعتبرها مؤشرا على التكافؤ بين الناس ، والتي - لهذا السبب - تصلح كأرضية للدعوة للمساواة ، كقاعدة اخلاقية وتجسيدا لمبدأ العدالة. وطالما حصرنا نقاشنا في هذا الاطار ، لزم القول بان صفات مثل التساوي في الجمال او الثروة او العلم ، ليست ذات صلة بالموضوع. كون الشخص أكثر او اقل جمالا ، لا يؤثر على حقوقه. كما ان علمه او ثروته ليست من الامور التي يمكن للمجتمع ان يتدخل فيها ، او يبني على اساسها قوانين تطبق على الجميع.

ايمانويل كانط
رأى ايمانويل كانط ان العقل الفطري هو الميزة التي يمتاز بها جميع البشر. كل البشر يولدون مزودين بقدر متساو منه. اذا قبلنا بان الانسان عاقل بالطبع والفطرة ، وأنه – لهذا السبب – يصح ان يعتبر كائنا عاقلا ، فانه يتوجب علينا ان نتعامل معه كند لكل انسان آخر ، وان نقر له بنفس القيمة والمكانة التي يتمتع بها بقية اعضاء المجتمع الانساني[17]. بعبارة اخرى فان عقل الانسان هو وعاء قيمته كانسان ، فكل من يملكه فهو مساو  لبقية العقلاء.

رؤية روسو

خلافا لكانط ، رأى جان جاك روسو  ان قابليات الانسان الذهنية والادراكية ، لا تكفي كعوامل تمايز عن غيره من  المخلوقات. ان الفارق الرئيس بينه وبين الحيوانات الاخرى ، يكمن في كونه فاعلا حرا. القدرة على الاختيار العقلائي ميزة خاصة بالانسان. قد يواجه  الإنسان نفس التحديات التي تواجه الحيوان. لكنه يمتاز عليه بالقدرة على الاختيار بين استيعاب التحدي أو مقاومته. قدرة الاختيار هذه هي العامل الرئيس لتفوق النوع الانساني على سائر المخلوقات.

الخاصية الاخرى التي هي قصر على الانسان – وفقا لروسو - هي ملكة التكامل. خلافا للحيوان يملك الانسان نزوعا طبيعيا نحو التطور والتغير . هو الكائن الوحيد القادر على الاختيار الواعي بين السير في طريق الارتقاء او الانحطاط[18].

قد يقول قائل: ان دراسات علم الحيوان ، تبرهن على ان الحيوان قد تطور أيضا ، عبر الاف السنين المنصرمة. وان الانسان تطور مثله. فهذه الخاصية ليست قصرا على البشر[19]. والجواب على هذا الاعتراض واضح جدا. الدراسات المذكورة تدلل على ان الحيوان قد تطور بيولوجيا في سياق محدد ، هو مقاومة دواعي الفناء. لكن لم يدع اي باحث في مجال الحيوان او الوراثة ، ان هذا التطور قد شمل أيضا القابليات الذهنية. في الحقيقة فان محور تلك الدراسات تؤكد ان غريزة البقاء مشتركة بين جميع الكائنات الحية. لكن هذا لا يشكل اساسا مناسبا للجدل حول "ارادة" التطور والتكامل.

نعرف بالمشاهدة البسيطة ان الانسان "يريد" التطور ، فيسعى اليه حتى يصل. هذه الخاصية لا توجد في غير الانسان. ولعل مرجعها ان الانسان هو الكائن الوحيد ، الذي يملك قابلية لتصور المستقبل الذي لازال في رحم الغيب. ومن هنا فهو قادر ايضا على رسم الخط الواصل بين النقطة التي تشكل واقعه الفعلي ، والواقع الذي يريد تشكيله في المستقبل. المؤكد ان هذه القابلية الذهنية لا تتوفر في الحيوان ، وفق ما نعرف حتى الان على الأقل.

تشكل رؤية روسو حول القابلية للتطور ، أساسا للقول بأن جميع البشر يملكون القابلية لتحقيق الكمال الاخلاقي الذاتي. ثمة اعتقاد قابل للاثبات ، فحواه ان قدرة البشر على الاختيار الاخلاقي ، وميل غالبيتهم لهذا الخيار ، رغم امكانية البديل غير الاخلاقي ،  تشير في حقيقة الأمر الى ان كل انسان يتطلع ، بصورة او بأخرى ، نحو مثال أخلاقي يريد ان يحذو حذوه ، او – على الأقل – يقترب منه. نعلم ان الالتزام بالمثل الاخلاقية ليس بالامر السهل ، في عالمنا الذي تهيمن عليه آليات السوق ونوازع الاستئثار. هذه العوامل وأمثالها تشترك في دفع الانسان ، ربما دون إرادة واعية في غالب الاحيان ، نحو نموذج الانسان-الذئب ، الأمر الذي يجعل الحفاظ على حد معقول من الحياة الاخلاقية امرا عسيرا. لكننا رغم هذا ، نعلم أيضا ان ذلك المثال الأعلى ، يشكل بالنسبة لنا جميعا نوعا من الأمل الذي نظن انه ، بطريقة ما ، ربما غيبية ، قابل للتحقيق يوما ما.

ان إصرارنا الدؤوب على قيم مثل الانصاف والعدالة والتضامن الانساني ، ليس سوى التجسيد الخارجي لقناعة عميقة في داخلنا ، بان هذه القيم ممكنة التحقيق ، انها ليست تخيلات او مثاليات مجردة. في الحقيقة ، فانه لا شيء يثير فضول المؤمنين بالمساواة ، قدر ما يثيرهم ان الرجال والنساء العقلاء ، ايا كان ظرفهم ،  يملكون قابلية ذاتية ، يمكن ان تتحول الى فرصة لبلوغ الحد الأعلى من القيمة الاخلاقية.

رؤية ويلسون

في مسار قريب من هذا المعنى ، قدم الفيلسوف الانجليزي جون ويلسون ، مقاربة للمحتوى التحليلي للمساواة الوصفية ، تركز على الجانب الارادي في  علاقة الانسان بعالمه.

طبقا لهذا الرؤية ، فان كافة البشر يتساوون في عنصر بالغ الأهمية ، هي قدرة كل منهم على تشكيل رؤيته الخاصة للعالم وعلاقته به ، ثم تعديلها وإعادة صوغها بناء على تجاربه الخاصة.[20]  كل انسان يملك القدرة على الاختيار العقلائي ، وتبعا الاختيار الاخلاقي. عقلانية الانسان تسمح له بتكوين تصور عن ذاته وعن العالم ، يتوافق مع تصور الآخرين او يختلف معه. في كلا الحالين ، فان هذا التصور يقوم على مبررات معقولة ، اي قابلة للتبرير العقلاني.

حين يسعى الانسان في تشكيل رؤيته الكونية ، فانه يصمم بالتوازي معها تصوره للعلاقة مع هذا العالم. يعرف الانسان ان علاقته بالعالم لا تتحرك في مسار واحد ، فهي - بالتعريف - معادلة ذات طرفين ، تشمل متطلباته ومتطلبات الاخرين ، ما يريده وما يجب ان يقدمه من ثمن للحصول على هذه المرادات ، اضافة الى العواقب المترتبة على كل قرار يتخذه في هذا السياق.

لأن الانسان كائن عاقل ، فانه – تبعا لهذا – قادر على تقرير غاياته الشخصية ، وتحديد القيم التي يريد تطبيقها كمعايير في حياته. هذه إذن قابلية طبيعية فطرية وليست اصطناعية. صحيح ان الناس يتفاوتون في قدراتهم الذهنية ، لكنهم لا يختلفون في الحقيقة الاولية ، وهي امتلاك القدرة على تحديد غايات ومعايير. ومن هنا فانه يستحيل ان نعطي شخصا ما قيمة أدنى من غيره ، طالما اعتبرنا ان التفاوت الحقيقي في القيمة يرجع الى المؤهلات الفطرية[21].

محور اهتمام ويلسون اذن ، هو الرؤية القائلة بان تساوي البشر علاقة قائمة على ارضية محددة ، هي قوانا الفردية الاخلاقية. وهذا مطابق للتأكيد المتعارف بين الاخلاقيين الليبراليين ، على اهمية الارادة الفردية ، وأنها العامل الحاسم في قابلية الفرد للاختيار والسير وراء خياراته الخاصة ، بصورة مطلقة ، أو - على الأقل - طالما رضي بالعقد الاجتماعي الذي ينظم وضعه كعضو في الجماعة ، كما يعرف الحقوق والمسؤوليات المتقابلة بينه وبين بقية اعضائها. امتلاك الافراد عموما لهذه الارادة الاصلية وغير المقننة او المقيدة ، هو المعنى الجوهري للتساوي بين الناس.

عرضت في أول المقالة ، مفهوم المساواة المتعارف في الفلسفة السياسية المعاصرة. ويهمني إيضاح ان هذا المعنى جديد ، وهو مخالف لما كان متعارفا في عصور الفلسفة القديمة.

لم تكن المساواة قيمة راسخة مثلما هي اليوم. لقد وصلنا الى المفهوم المتعارف اليوم ، كنتيجة لتطور تدريجي على مدى زمني طويل. وهذا حال معظم المفاهيم التي يعرفها نظام المجتمع الحديث. وبالنظر لتأثير العوامل التاريخية ، فمن المقدر ان يتواصل هذا التطور فيما يأتي من زمن.

في الصفحات التالية ، سنمر بصورة موجزة على ابرز تحولات الفكرة. ونبدأها بظهور فكرة القانون الطبيعي ، ثم نستعرض المفهوم الديني لاسيما الاسلامي ، ثم ظهور فكرة الحقوق الطبيعية ، واخيرا مفهوم المساواة التامة المعاصر.

قانون الطبيعة

ظهور الفكرة التي عرفت لاحقا باسم "قانون الطبيعة" كان اختراقا هاما في تاريخ المعرفة البشرية. فقد فتح الباب للتفكير العلمي في الكون والانسان.

حين واجه انسان الماضي السحيق ظروف الطبيعة المتقلبة ، اعتقد ان لكل عنصر من عناصرها إلها أو آلهة مسيطرين. يغضب إله المطر فيحوله سيلا يغرق القرى والمزارع ، أو يرضى فتزدهر الارض بالشجر. ويغضب إله البحر فيغرق السفن بالأمواج العاتية ، أو يرضى فيرسل الاسماك قريبا من السواحل. وهكذا بقية الظواهر التي لكل منها إله أو أكثر ، يمكن ان يتدخلوا في اي وقت ، لتغيير مسار الحوادث وخرق نظام الطبيعة. وقد يجترحون الخوارق ، فيغيرون مصائر الامم ويدمرون الممالك ، وربما حولوا الليل الى نهار ، أو غيروا مجرى الاجرام السماوية[22].

بناء على ما وصل الينا من تراث الأقدمين ، فقد كان الفيلسوف سقراط وتلاميذه ، من أوائل الذين قدموا رؤية عقلانية عن النظام الكوني. ولعل ارسطو هو أول الفلاسفة الذين حاولوا وضع نظرية مفصلة نسبيا حول النظام الكوني. فهو لم يكتف بوصفه ، بل حاول أيضا تفسيره ونمذجته نظريا ، ليخرج برؤية حول الطبيعة ، تضع نظامها في مكان النموذج الذي ينبغي للبشر ان ينظموا حياتهم على مثاله.

وجد ارسطو في الكون نظاما بديعا متناغما ، تكمن عظمته ودقته في التوزيع المتقن لعناصره الصغرى والكبرى ، كي يلعب كل منها دوره الخاص في منظومة واحدة ، هائلة الحجم ، لكنها رغم ذلك لا تحتمل الخطأ او الفوضى ، الأمر الذي رسخ اعتقاده بأن كل عنصر من عناصر هذا النظام وجد من أجل غاية محددة لا يحيد عنها ، وان ثبات هذه العناصر في مواقعها واداء كل منها لوظيفته الخاصة ، هو ما يجعل النظام ككل ، فعالا ومنضبطا.

انطلاقا من هذا التقدير ، ربط الفيلسوف بين قيمة الشيء والغرض من وجوده. فكل شيء يعرف بالغرض الذي يستهدف انجازه ، وقيمته تنبعث من التزامه بهذا الغرض. ويضرب مثالا على هذه الفكرة بفرس السباق العاجز عن الحركة ، حيث لا يصح في هذه الحالة ان يسمى فرس سباق ، وليست له قيمة فرس السباق. وكذا الفارق بين السكين وقطعة الحديد المشابهة لها. ما يجعل السكين حاملة لهذا الاسم ، وما يعطيها القيمة المستحقة له ، هو كونها قادرة على قطع الاشياء. فاذا لم تكن قاطعة فليست سكينا وليس لها قيمة السكين.

زبدة القول ان كل شيء في الكون له غاية محددة يسعى اليها ، وهو يستمد قيمته من هذا السعي ، وليس من ذاته او من مصدر آخر. ووصول الاشياء الى غايتها النهائية هو الذي يمنحها الكمال فتكتسب قيمتها الكبرى. تبعا لهذا اسميت نظرية ارسطو بالغائية Teleology.

آمن ارسطو بوجود موضوعي لهذا النظام ، قائم في الكون قبل وجود الانسان. وان انتظامه هو الذي جعل حياة البشر ممكنة وقابلة للتطور. وتبعا لهذا ، صنف الموجودات الى نوعين: موجود بالطبيعة ، اي ان الانسان لم يتدخل في ايجاده ، وموجود صناعي ، وهو ما  صنعه البشر أو تدخلوا في تكوينه. ثم قرر ان ما يصنعه البشر أقرب الى النقص من الكمال ، ولهذا فهو يتطور بقدر ما تتطور معارف الانسان ومؤهلاته. اما الموجودات الطبيعية فهي صالحة في ذاتها ، لأنها امتداد لنظام الطبيعة الكامل المتقن. وهي تحمل في ذاتها امكانية النمو والتحول من دون تدخل الانسان.

الموجودات المتحولة ، سواء كانت طبيعية او صناعية ، هي تلك التي تعيش ضمن نطاق الأرض. اما الموجودات التي في الفضاء العلوي (او فوق القمر حسب تقديره) فهي جميعا كاملة وثابتة في صفاتها ووظائفها ، لا يطالها الفساد او التغيير. ومن هنا فان العالم العلوي هو النموذج والمثال ، الذي ينبغي لأهل الأرض ان يتخذوه دليلا يحتذون به ، كي يرسموا نظام حياتهم واجتماعهم على النحو الأقرب للكمال.

انطلاقا من هذه الرؤية ، قرر ارسطو ان قوانين الحياة الاجتماعية ونظام عمل المجتمع والبشر ككل ، يجب ان توضع على صورة نظام الكون وترتيبه[23]. وسعى لوضع نظرية عن النظام الاجتماعي/السياسي تتناغم مع ما فهمه من نظام الطبيعة  وتشكل امتدادا ارضيا – ان صح التعبير – لذلك النظام الكامل.

يظهر من الشرح السابق ان تفكير البشر في عالمهم كان يبتغي انجاز مهمتين ، الاولى: فهم هذا العالم ، واستيعاب العلائق التي تربط بين أجزائه ، والعوامل المحركة له ، والنتائج التي تفضي إليها. الثانية: وضع نظام معياري لسلوك البشر وعلاقتهم ببعضهم وبالبيئة الكونية التي تشكل الإطار المادي لحياتهم.

انجاز المهمة الأولى ضروري ليس من أجل المعرفة المجردة ، فقد اراد البشر فهم الطبيعة ، من أجل التحكم في ظواهرها ، او اتقاء الأضرار التي يمكن ان تنتج عن تلك الظواهر ، واستثمارها من اجل تحسين مستوى الحياة. بعبارة اخرى فان تطور علاقة الانسان بالطبيعة ، بدأ بوضع المقاربات التي تسمح بالانتقال من المستوى الاول للمعرفة ، اي مراقبة الظاهرة ، الى مستوى أكثر عمقا ، يتضمن كشف اسرار حركتها والتأثير المتبادل بين اجزائها ، وصولا الى وضع قواعد عامة للفهم والمراقبة أو الاختبار ، قابلة للتطبيق على كل حركة مماثلة.

اما المهمة الثانية ، اي وضع قانون معياري لسلوك البشر ، فقد انطلقت من فرضية ان وجود الانسان وحياته ، مرتبطان عضويا بالكون الذي يعيش فيه. وبناء على هذا فان افضل سبيل للعيش ، هو ذلك الذي يتناغم مع النظام الكوني. بهذا المعنى فقد اعتبر قانون الطبيعة أصلا ومعيارا ، ينبغي ان يقاس عليه نظام حياة البشر. فحوى هذا التقدير  - حسب رأي أرسطو – انه ثمة ترتيب اصلي وضعته الطبيعة للنظام الاجتماعي ، بحيث تتوزع عناصره وتترابط على النحو الأكثر تناغما وانسجاما مع نظام الكون ، وانه ثمة منظومة من القيم وقواعد العمل التي يجب على البشر الالتزام بمقتضياتها ، كي يبقى ذلك القانون الطبيعي فعالا وقادرا على الوصول بالمجتمع الى غاياته.

ويترتب على هذا ان تطور المجتمع الانساني سيكون اقرب احتمالا ، اذا استوعب القانون الطبيعي ، والتزم القواعد والقيم الضرورية لصونه وابقائه فعالا. هذه القيم وذلك القانون ليسا من صنع البشر ، ولا يجوز للبشر تغييرهما ان ارادوا الارتقاء بحياتهم ، انها من صنع الطبيعة وهي أصل في الوجود[24].

دور الاديان السماوية

ساهمت الرسالات السماوية في تعزيز وترسيخ فكرة النظام الكوني ، وتحويلها الى مبدا أولي ونقطة انطلاق لتفكير الانسان في الكون وعلاقته به وموقعه فيه. تشترك كافة الأديان في التأسيس على مبدا التوحيد ، الذي يتفرع الى فهم الكون كمخلوق لاله واحد ، يعمل بمنطق ونظام واحد ، وليس فوضى ولا أنظمة متعددة ، وأنه مخلوق على هذا النحو من أجل خير الانسان وسلامته وسعادته.

والمفهوم من النصوص الدينية ان الأمر لم يجر بسهولة. فقد صعب على معظم القدماء التخلي عما ظنوه بديهيا ومشاهدا بالعيان. وتشير قصص الانبياء التي وردت في القرآن الكريم مثلا ، الى الصعوبة التي واجهها الانبياء في محاولاتهم لاقناع أقوامهم ، بالتخلي عن فكرة تعدد الالهة وتحكمها في الظواهر الطبيعية. ويذكر في قصة النبي هود مثلا ان قومه "قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون – هود 53-54". والمؤكد أنه لولا نزول الرسالات السماوية ، لربما واصل معظم البشر الاعتقاد بتعدد الآلهة حتى وقت متأخر.

تكشف القصص التي أشار اليها القرآن الكريم ، ان الحجة الرئيسية التي طرحها الرسل وأتباعهم ، هي القول بأن خوف الناس من الالهة ، واعتقادهم بانها تتحكم في ظواهر الطبيعة ، مجرد وهم متوارث ، لا نصيب له من الحقيقة "ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون – المؤمنون - 91". ان الحقيقة التي يمكن لكل عاقل ان يلمسها ، هي ان الكون كله يتحرك كمنظومة متكاملة ، تعمل اجزاؤها بصورة متناغمة وقابلة للادراك ، من خلال البحث والتأمل "ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون -البقرة 164" 

مع اتساع تأثير الرسالات ، انحسر الاعتقاد بتقلب النظام الكوني ، وآمن معظم الناس بأنه منسجم داخليا ومتناغم الاجزاء ، وان الاله الواحد الرحيم هو الذي خلقه كما خلقهم ، وجعله مسخرا لهم كي يطوروا معيشتهم ويرتقوا بحياتهم "الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون – الجاثية – 12-13".

كان لهذه المعالجة الجديدة نتائج في غاية الاهمية. فقد فتحت الباب امام التفكير في الكون وقوانين حركته ، والعلاقة التي تربط بين اجزائه ، باعتبارها كلا واحدا يتحرك وفق قانون ثابت ، وتشكل نظاما معقولا ، يمكن للانسان فهمه واستيعاب آليات عمله. ويمكن القول ان هذه النقطة كانت بداية التفكير العلمي في الطبيعة والحياة[25]. لم يكن لدى الفلاسفة الأقدمين أدوات علمية للرصد والاستكشاف ، شبيهة بما يتوفر لعلماء الفلك المعاصرين. فقد اعتمدوا على الملاحظة المباشرة للكون والتأمل في حركته ، ومحاولة وضع معادلات منطقية نظرية ، تربط بين اجزائه ، ثم تمديد مفاعيلها لفهم الاجزاء الاخرى. وبهذا القدر حاولوا تمديد فهمهم للنظام الكوني ، الى استكشاف علاقة مفترضة بين حياة الانسان والنظام الطبيعي الذي يعيش فيه ، ومحاولة التعرف على القانون الذي يفسر وينظم حياة البشر ، والذي يفترض ان يكون جزء من نظام الطبيعة الكامل.

من نظام الطبيعة الى نظام المجتمع

بناء على ما وصلنا من تراث قدامى الفلاسفة ، فان السؤال الذي شغل الجانب الاعظم من اهتمامهم ، هو سؤال النظام الأمثل للمجتمع البشري. والواضح ان الحاحهم على قانون منسجم مع النظام الكوني ، كان ثمرة لايمانهم بامكانية صوغ نظام اخلاقي واحد ، يمكن ان يشكل نموذجا للكمال على المستوى الكوني.

المرحلة التالية بالطبع ، هي توجيه حياة البشر في اتجاه متناغم مع ذلك النظام. اراد تلاميذ سقراط مثلا اثبات ان العالم والانسان نماذج عن نظام واحد متفاوت الحجم ، لكنه متساو في العلاقات الداخلية التي تربط بين اجزاء كل منهما. المدينة على سبيل المثال ، تشكل صورة مصغرة عن الكون ، والافراد يشكل كل منهم صورة مصغرة عن المدينة[26]. طبقا لأرسطو فان النظام الطبيعي كامل في ذاته ، وان كل عنصر فيه يستهدف غاية تتكامل مع سائر غايات النظام. ومتى ما وصل غايته فقد بلغ الكمال. وكذلك الانسان الذي لحياته غاية ولأفعاله غايات ، كلما تحقق احدها صعد الانسان درجة في مسار الكمال.

وفقا لهذه الرؤية ايضا ، فان التفاوت ضروري لاستمرار الحياة. يتألف المجتمع من طبقات وشرائح يقوم كل منها بوظيفة مختلفة عن الآخر ، لكنها ضرورية لوجوده وانتظام حياته. وجود الفلاحين ضروري لتوفير الغذاء. ووجود الجنود ضروري لحماية المجتمع. ووجود القضاة والحكام ضروري لنظم حياة المجموع واقرار العدل. ووجود العبيد ضروري لخدمة من يقوم بالوظائف الاخرى. وكذا وجود النساء ضروري لرفد المجتمع بالأجيال الجديدة. وهكذا بقية المجموعات والوظائف.

كل وظيفة تؤدي دورا وتحقق غاية في حياة المجتمع ، ولها قيمة تتحدد بقياس غايتها الى غايات الوظائف الاخرى. وكلما كانت أكثر ضرورة او اقتضت كفاءة أعلى او أندر ، ارتفعت قيمتها بنفس المقدار. ولذا لا يقارن عمل الفلاح بعمل القاضي ، او عمل العبد بعمل الجندي. وبناء عليه فان حقوق كل من هذه الشرائح ، تتفاوت بحسب قيمة عملها. ومع ذلك فان وجود كل من تلك الوظائف ضروري ، وان التزام كل من هؤلاء العاملين بمكانه ودوره ، لازم لانتظام الحياة الاجتماعية. ان حقيقة العدالة تكمن في انتظام المجتمع ، والتزام كل عنصر بعمله ودوره ، وسيرورته اللينة نحو الغايات الكبرى للجماعة ، اي اكتساب الفضائل الاخلاقية حتى بلوغ درجة الكمال الانساني.

رأى ارسطو ان الغاية التي يسعى اليها البشر هي السعادة الناتجة عن اكتساب الفضائل. وهي غير قابلة للتحقيق الا في اطار مجتمع منظم (مدينة). المجتمع ، بطبيعة تكوينه ، كيان عضوي مؤلف من وحدات اجتماعية متصلة ، لكنها مرتبة على نحو هرمي. كل وحدة هي وسيلة لغاية اعلى شأنا. وهو ترتيب يعكس التنوع في القابليات ، التي تقود بدورها الى فروق في الوظائف وفروق في المكانة.

تقوم الرابطة الاجتماعية على مفهوم الخير الجمعي ، الذي تنطوي فيه كافة الخيرات الفرعية ومصالح الافراد. لا يمكن للفرد ان يكون فاضلا طالما كان خارج الجماعة ، او غير ملتزم بمنظومتها العملية والاخلاقية. لأنه في الاساس لا يوجد خير فردي مستقل عن الخير العام. ومن هنا فان الفرد الخارج عن الجماعة ، لا مكان له ولا قيمة. يجب ان يكون الفرد مندمجا في النظام الاجتماعي ، ملتزما بموقعه ضمن التراتب العام ، حتى لو كان هذا الموقع أدنى مما يريده لنفسه ، او كانت الحقوق المترتبة عليه أقل مما يطمح اليه. العدالة في مفهومها الحقيقي ، هي بالتحديد سعي مجموع الافراد للخير العام في إطار النظام الاجتماعي القائم. والظلم في حقيقته هو التمرد على هذا النظام او الخروج عنه. لأن في الاول مصلحة الجميع ، ولو على حساب الفرد ، وفي الثاني خسارة الجميع ولو لصالح احد الافراد. ان الخير العام هو مجموع حاجات المدينة باعتبارها كيانا واحدا ، وحقيقة العدل تكمن في صون هذا النظام والالتزام بما هو مصلحة له.

نشير أيضا الى ان الذين تبنوا فكرة "القانون الطبيعي" اعتبروه منظومة أخلاقية واجبة الاتباع ، وانه صحيح وقابل للتطبيق في كافة المجتمعات. مجموعة القيم والقواعد التي تؤلف القانون الطبيعي ، حقيقة موضوعية ثابتة ، ومتلائمة مع النظام الكوني. وهي – من هذه الزاوية - تعكس حقيقة وحدة الجنس البشري ، وكون الناس جميعا ، مهما اختلفت مشاربهم ، جزء من كون واحد. انه بعبارة اخرى عنصر الالتقاء بين جميع القوانين التي يضعها البشر ، وهو المعيار الذي ترجع اليه تلك القوانين. ومن هنا جاء الاعتقاد بان القوانين الوضعية لا تعتبر عادلة اذا تعارضت مع جوهر القانون الطبيعي. ولعل ابرز من عبر عن هذه الفكرة هو القانوني الروماني الشهير شيشرون (106-43 ق.م.)  الذي رأى ان قوة القانون الطبيعي تنبعث من انسجامه مع الطبيعة ومعرفة الجميع به ، وانه - لهذا السبب - خالد ابدي لا يحتاج الى تفسير ، ولا يختلف بين بلد وآخر او بين زمن وآخر ، لأنه ليس من صنع البشر ، بل صنعه خالق الكون الذي امر بتطبيقه وعاقب من خالفه[27].

المفهوم الاول للمساواة: التناسبية= Proportional

اعتقد أرسطو ان الكون – وتبعا له النظام الاجتماعي – قائم على التباين في الادوار والمكانة ، ولو كانت المساواة اصلا في العلاقة بينها ، لما خدم أحد أحدا وما استقامت الحياة. يحتاج المجتمع الى قدر من التمايز والتفاضل بين عناصره واعضائه ، كي يقوم كل واحد بدوره الذي تقتضيه الأقدار. المساواة بذاتها قيمة رفيعة ، لكنها لا تلبي متطلبات العدالة في كل الاوقات. وهو يعتقد ان قيمة العدالة هي الأجدر بالاهتمام. اما المساواة فليست سوى احد تطبيقاتها.

وفقا لهذه الرؤية ، تفهم المساواة على مستويين: المساواة العددية والمساواة الهندسية. يقصد بالأولى ان جميع الناس متساوون بلا فرق بين أي منهم والآخر. ويقصد بالثانية ان المجتمع منقسم بطبيعته الى دوائر وشرائح ، تتفاوت فيما بينها بحسب مؤهلات اعضائها ومكانتهم ، ومقدار ما يقدمون من مساهمة في حياة المجتمع. قرر أرسطو انه ليس من العدل ان يتساوى الأكثر علما او مالا او شجاعة بمن هو دونه ، أو يعامل الأكثر مساهمة في الحياة الاجتماعية كما يعامل الأقل مساهمة ، وهكذا. تقتضي العدالة ان يعامل المتساوون بالسوية ، كما تقتضي التمييز بين المختلفين. ، أي ان جميع اعضاء دائرة واحدة ، يجب ان يكونوا متساوين فيما بينهم ، لكن ليس ثمة ضرورة للتساوي بينهم وبين أعضاء الدوائر الأخرى[28].

في النظرة الاولى تبدو فرضية ارسطو معقولة. فهي تعكس الى حد كبير الواقع القائم في معظم المجتمعات. كما تتناغم مع التفكير الأولي لمعظم الناس. افترض ان كثيرا من الناس سيقولون مثلا: لا يمكن الاقرار بالمساواة بين الرجل والمرأة في الأدوار والواجبات ، لأنهما مختلفان بيولوجيا ، وان هذا الاختلاف طبيعي يرجع للولادة ، وليس انعكاسا للظروف الاجتماعية. ومادامت الادوار والواجبات المنوطة بكل جنس مختلفة ، فمن البديهي ان تكون الحقوق والقيمة مختلفة أيضا. كما لا يمكن المساواة في الحقوق بين العلماء وعامة الناس ، او بين قادة البلد والمواطنين ، ولا يمكن المساواة بين قادة الجيش وجنوده.

هذه الفرضية التي تبدو واقعية تماما ، في النظرة الأولى  على الأقل ، تستخدم في العادة لاثبات القاعدة التي تبناها ارسطو ، أي اصالة التفاوت ، وعدم تعارضه مع مبدأ العدالة. لأنه لا يمكن الاعتراض على الطبيعة بانها لم تكن عادلة ، حين قسمت البشر الى ذكر وأنثى. فاذا تم تثبيت ان التفاوت لا يجرح مبدأ العدالة ، فلا ينبغي بعدئذ رفض صور التمايز الاخرى ، على ارضية مخالفتها لمبدأ العدالة.

أ‌-      ماذا يعني هذا الكلام نظريا وعمليا؟

نظريا يعني ان المساواة ليست الأصل ، وان التمايز ليس الاستثناء الذي يحتاج الى تبرير ،  كما اسلفنا في صفحات سابقة. القائلون بالمساواة التناسبية proportional يدعون انها تلائم المنطق الطبيعي للحياة والنظام الطبيعي للأشياء. وفقا لهذه الرؤية ، فان الطبيعة اضفت على المجتمعات نظامها التي هي عليه ، حيث يتمايز الناس في المؤهلات البدنية والذهنية والملكات ، فيتمايزون تبعا لذلك في الوظائف والمهن والمراتب الاجتماعية. لا يسأل هنا عن الانسان الأول الذي ربما عاش بمفرده او مع عائلته الصغيرة ، بل عن البدايات المبكرة لتشكل المجتمعات. لقد تشكل المجتمع على النحو الذي عرفناه طوال التاريخ ونعرفه الان ، لان اعضاءه احتاجوا الى مهن شتى ووظائف مختلفة ، كي تنتظم حياتهم ، فقام كل فرد بما رأى نفسه مؤهلا له وقادرا عليه. وهكذا ولدت المراتب الاجتماعية[29].

هذا التراتب لم يكن بتخطيط مسبق من احد ، بل جاء كاستجابة منطقية للحاجات الطبيعية للمجتمع البشري. الفلاحون اتخذوا هذه المهنة استجابة للحاجة الطبيعية الى من يوفر الغذاء ، والجنود اصبحوا جنودا لان المجتمع يحتاج لمن يحميه. اختيار بعض الافراد للفلاحة واختيار اخرين  للجندية ، تابع لحقيقة انهم مؤهلون لهذه الحرفة أكثر من غيرها. فلو عمل المؤهل للفلاحة جنديا لما اجاد عمله. ولو عمل الجندي في مهنة الطب لما قام بمتطلباتها. ومن هنا فان التزام كل صاحب حرفة بحرفته ، هو عين العدالة ، لأنه ينسجم مع الترتيب الطبيعي للحياة[30]. العبيد مثلا لا ينبغي ان يستنكروا كونهم عبيدا ، لأن حياة المجتمع تحتاج الى هذا الدور ، فيلزم ان يكون هناك من يقوم به. وحين يفعل هذا فانه لا يخالف مقتضيات العدالة. وفقا لارسطو فثمة "فئة من الاشخاص بعضهم يكون حرا بطبيعته والاخر عبد بطبيعته ، وتكون حالة العبودية مناسبة وعادلة بالنسبة اليهم على حد سواء"[31]. وبناء على هذا التصوير انتقد ارسطو الديمقراطية ، لأنها - حسب رأيه – تقيم مساواة مصطنعة بين الناس ، وتضعهم في مواقع غير تلك التي أهلتهم الطبيعة لها ووضعتهم فيها.

خلاصة القول ، ان أول مفهوم متين التأسيس للمساواة ، هو الذي قدمه الفلاسفة اليونانيون ، سيما ارسطو. وفحواه ان المساواة قيمة اخلاقية تطبق تناسبيا proportional". ان هذا المفهوم ليس مقبولا في عالم اليوم ، سوى عند بعض المحافظين. لكنه في وقته وحتى زمن طويل بعد ذلك ، شكل اضافة نظرية هامة.

مفهوم المساواة في المسيحية

فهمت المساواة في المسيحية في إطار العلاقة مع الخالق سبحانه. جميع البشر ، رجالا ونساء ، خلقهم الله على صورته. عبر عن هذه الفكرة القديس بولس بقوله " ليس يهودي ولا يوناني ، ليس عبد ولا حر ، ليس ذكر وانثى ، لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع"[32] وقد أكد القديس اوغسطين على هذه الرؤية في كتابه المرجعي "مدينة الله" ، فقرر ان الناس - في الأصل – متساوون احرار يطيعون حكام العدل والحكمة. لكن – بسبب الاثم – كان على بعض الناس ان يخضعوا لسلطة غيرهم. وهكذا قام نظام اجتماعي فيه حكام ومحكومون.[33]

ويبدو ان القديس أوغسطين ، قد تبنى الفكرة العامة لفلاسفة اليونان المتأخرين ، عن وحدة الطبيعة الإنسانية في كل بقاع الأرض ، واعتبارها أساسا للمساواة بين البشر. وقد تبنى الكرسي الرسولي نفس الفكرة حين اعتبر كافة الخلق أبناء لله. لكن فيما يخص المساواة الفعلية بين الارقاء والاحرار ، فقد حدث اضطراب في التقدير ، جرى علاجه بالتمييز بين روح العبد وجسده ، حيث قيل ان العبودية تقيد جسد الانسان وليس طبيعته الروحية. وقد كان هذا التفسير أرضية للاعتراف بمشروعية الرق وتجنب إدانته[34].

شهد القرن السادس عشر الميلادي ظهور مفهوم جديد للمساوة ، يتجاوز التركيز على الجانب الروحي والعلاقة بين الافراد وخالقهم ، الى الموقف الاجتماعي. ويتفق كثير من المفكرين ، على ان معظم الجدل حول المساواة خلال عصر النهضة الاوروبية ، استفاد من حركة الاصلاح الديني ، حيث نقلته من الاطار الروحي البحت الى الاطار الاجتماعي.  وفي نفس السياق انتقلت الفكرة القائلة بضرورة فهم العدالة باعتبارها مفهوما كونيا ، الى الفلسفة السياسية الحديثة في عصورها المبكرة[35].

رفعت الحركة الاصلاحية البروتستانتية التي قادها مارتن لوثر (1483- 1546) لواء المساواة ، في مواجهة الكنيسة الكاثوليكية ، التي قيل انها حولت الاكليروس الى طبقة ، تملك امتيازات غير معتادة. كتب لوثر في رسالة "الى نبلاء المسيحية": انه لبدعة خالصة ان يجري تصنيف البابا والاساقفة والرهبان والقسس ، كجمعية روحية تتمايز على سائر المسيحيين ، مع انه لا شيء يميز اولئك عن هؤلاء. لقد منح القانون اهمية كبرى للحرية والحياة والملكية الخاصة برجال الكنيسة ، دون بقية الناس. فلماذا حياتكم واملاككم وشرفكم وحريتكم مصونة دون حياتي وشرفي وأملاكي؟. من اين اتى هذا التمييز بين من يتساوون في الايمان؟.. هذه الاعتبارات مؤسسة جميعا على بدع وقوانين بشرية وليست من عند الله.[36]

مارتن لوثر - مؤسس البروتستانتية

قدمت البروتستانتية ما يمكن اعتباره مرجعا معتبرا ، اي مرتبطا بالكتاب المقدس ، للعديد من الافكار الجديدة. من ذلك مثلا ان مجموعة القواعد الايمانية التي  عرفت باسم "اخلاق  العمل البروتستانتية" ركزت على قيمة دوافع العمل والانجاز في داخل النفس الانسانية ، وربطت قيمة الفرد بما ينتج عن عمله ، وليس بمكانته الاجتماعية او الدينية ، كما كان العرف الجاري في الكاثوليكية. كما ان العالم الروحي بات يعرف في التصوير البروتستانتي ، كفرصة لتكرار عمل الخالق ، من خلال تغيير العالم اقتصاديا ، وتحسين معيشة البشر. هذا يستدعي بطبيعة الحال انه لم يعد من المقبول اخلاقيا ، اعاقة او تعطيل هؤلاء النشطين اقتصاديا ، او حرمانهم من حقوقهم المساوية لغيرهم ، لأن اعاقتهم تعطيل لمرادات الخالق في الخلق[37].

مفهوم المساواة في الاسلام

شكل ظهور الاسلام ما يشبه ثورة ثقافية ، فيما يخص القيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية. وكان من أبرز تجلياتها نفي التمايز العنصري والاجتماعي ، الذي كان يومها راسخا في مجتمع الحجاز والمجتمعات المجاورة ، التي وصلت اليها الدعوة الاسلامية في أزمنة لاحقة. الرواية التالية (وهي مثال على روايات عديدة) تكشف عن الحرج الذي نال زعماء العائلات القرشية حين وجدوا انفسهم في مجلس النبي محمد (ص) متساوين مع عبيد سابقين:

جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري ، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب ، قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين ، فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم ، فأتوه فخلوا به ، وقالوا إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: قالوا فاكتب لنا عليك كتابا. قال فدعا بصحيفة ودعا عليا ليكتب ونحن قعودٌ في ناحية ، فنزل جبرائيل عليه السلام بالآية "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين"[38].

لا بد من القول هنا ان المسلمين لم يضعوا نظرية محددة في العدالة او المساواة ، شبيهة بالنظريات التي نعرفها اليوم. لكن القرآن الكريم والسنة النبوية شددا على عدد من المفاهيم التأسيسية ، التي تدعم فكرة كون المساواة والعدالة قيما معيارية في الرؤية الدينية وفي العلاقة بين اتباع الدين أيضا.

وقد وجدت ان الفقهاء والمفكرين المسلمين – سيما في مراحل تأسيس الفكر والفقه الاسلامي – أغفلوا مسألة العدالة والمساواة ، فلم تنل ما يليق بها من اهتمام ، خاصة بالنظر الى الطبيعة الانتقالية للنص الديني ، وما كان يستدعيه من تطوير في الفهم والتفسير مع مرور الزمن[39]. من هنا فان الصورة التي يرسمها النص القرآني حول المساواة ، تتجاوز كثيرا تلك التي يرسمها التراث الفلسفي والفقهي.

ونعرض هنا أمثلة من النص القرآني ، تطابق بشكل محدد ابرز القضايا التي تثير الجدل في المساواة.

ب‌-  نفس واحدة

لا شك ان ابرز القيم المرجعية في جدل المساواة ، هي التكافؤ الأصلي. لعلنا نتذكر المادة الاولى من الاعلان العالمي لحقوق الانسان "يولد الناس احرارا متساوين". التي تحولت الى معيار في العلاقة بين الناس في هذا العصر. يقصد بالتكافؤ الاصلي ، تساوي الناس جميعا في القيمة ، بغض النظر عن اعراقهم وجنسهم ، لأنهم متساوون في الخلق.

عبر القرآن عن مفهوم التساوي القيمي ، بعبارة في غاية العمق والبلاغة ، رغم ايجازها ، فهو – ببساطة - ارجع الناس جميعا الى نفس واحدة: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي  خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء- النساء 1". وقال في آية أخرى "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون – الروم 21". وفي آية ثالثة "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير- الحجرات 13". مفهوم "النفس الواحدة" هو التصوير القرآني لفكرة التكافؤ الأصلي في القيمة والاعتبار.

ت‌-  احسن تقويم

أشرنا في سطور سابقة الى الاعتقاد المسيحي ، الذي فحواه أن الانسان خلق على صورة الله. لا نجد في النص الاسلامي شيئا يشابه هذه الفكرة. لكن ثمة تأكيد على تفضيل الانسان على سائر الخلق ، بمن فيهم الملائكة الذين أمروا بالسجود للانسان الأول ، وان الخالق سبحانه قد نفخ فيه من روحه "وإذ قال ربك للملائكة إني خالقٌ بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين – الحجر 28-29". ويقول في آية أخرى "لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم – التين 4".وفي آية ثالثة "يا ايها الانسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في اي صورة ما شاء ركبك. الانفطار 6-8".

ث‌-  ولقد كرمنا بني آدم

وفقا لصدر المتألهين ، فقد "اختص الانسان بتشريف الخلافة ومسجودية الملائكة ، من بين سائر الموجودات من الاملاك والافلاك ، وجميع من في طبقات السماوات والارض والجبال".[40] ورد هذا التأكيد في آيات عديدة ، منها مثلا قوله تعالى " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علىٰ كثير ممن خلقنا تفضيلا -الاسراء-70 ". كما تحدث القرآن عن تسخير الطبيعة للانسان ، وكونها خلقت لأجله "الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار{32} وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار{33} وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها – ابراهيم 32-34". 

ج‌-   أمرت لأعدل بينكم

تكرر  التأكيد في القرآن الكريم ، على ان اقامة العدل غرض مركزي من اغراض الرسالة السماوية ، وان العدل والقسط هو أمر الله. وكما يؤكد على نفي الظلم عن الله ، وتقبيح عمل الظالم والوعيد عليه ، وتحذير الانسان من ظلم الآخرين. من ذلك مثلا الآية " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. الحديد-25" .والآية " والسماء رفعها ووضع الميزان (7) ألا تطغوا في الميزان (8) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان. الرحمن 7-9" والاية " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. النحل 90". والاية "وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. الشورى-15". والاية " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا. النساء-58"

زبدة القول ان الاسلام في عصر تأسيسه ، أولى لمبدأ المساواة اهتماما بالغا. تجلى في معالجات لزوايا عديدة ، بدء من التأكيد على وحدة الخلق "النفس الواحدة" الذي لا يسمح بدعوى التمايز في الولادة. ثم تأكيده المتكرر على ان الانسان بما هو انسان مخلوق عدلا ، على احسن صورة ، وأنه مكرم ، وان فيه بعض من روح الله ، وان الله سخر عناصر الطبيعة من أجله. وأخيرا في التأكيد المتكرر على ان اقامة العدل والقيام به غرض محوري للرسالة السماوية.

ح‌-   تنبيه:

كنت قد نشرت مقالا يتضمن الفكرة السابقة ، فاعترض بعض القراء قائلين ان القرآن أمر بالعدل واقامته ، ولم يأمر بالمساواة. وقد وجدت هذا القول يتكرر كثيرا ، ويطلق كما لو كان مسلمة لا تحتاج الى دليل. لكنه قول غير مستقيم. لأن آية الميزان "والسماء رفعها ووضع الميزان" تقول صراحة ان العدالة المنظورة هي التسوية بين الناس ، لأن دلالة استعمال رمز الميزان هي - دون أدنى شك - التسوية والمساواة. ان تكرار الترادف بين العدل والمساواة في الآيات المذكورة اعلاه ، يؤكد ان المساواة هي التطبيق الأول للعدل الذي أمر الله به ، وانزل الكتاب وارسل الرسل لاقامته. وسوف نعود لهذه النقطة بمزيد من الشرح في الصفحات التالية. 

تحولات مفهوم المساواة في عصور الاسلام التالية

يلفت النظر في جميع الآيات السابقة ونظائر لها ، ان القرآن يتحدث عن الانسان بما هو انسان ، اي قبل ان يكون مؤمنا او كافرا ، مسلما او كتابيا ، رجلا أو امرأة ، اسودا او أبيضا. الآيات تتحدث عن الانسان ، او هي تخاطب "الناس" عموما ، وليس المؤمنين او شريحة منهم. أوردت هذه الملاحظة بالنظر الى ما اظنه ابتعادا في التراث الفقهي الذي انتج لاحقا ، عن مفهوم المساواة في النص القرآني. .

تجد ابرز الامثلة على اغفال اصل المساواة ، في شروح المفسرين وآراء الفقهاء المتعلقة بأحكام النساء. حيث نلاحظ تأكيدا على ان حقوقها أقل من حقوق الرجل. وهذا أمر مفهوم ، نظرا لورود نصوص تؤكد هذا المعنى. لكن الأمر الذي يتعسر فهمه او قبوله ، هو ذلك المنحى الذي يرى جنس النساء اقل قيمة من جنس الرجال ، اي ان الجنسين غير متكافئين في الاصل والخلقة.

التمايز الفطري/الطبيعي بين البشر: خمسة معان

في اكتوبر 2016 حكم قاض في مدينة العيينة وسط السعودية ، بتطليق زوجين جبرا ، بناء على دعوى اقامها أعمام الزوجة ، فحواها ان الزوج ينتمي الى قبيلة ادنى نسبا من قبيلتهم[41]. وفي 2013 تلقت محاكم المملكة 16 طلبا للتطليق الجبري بناء على المبرر السابق ، وفقا لتقرير  نشرته صحيفة الشرق[42].  وتنشر الصحافة السعودية قصصا من هذا النوع بين حين وآخر. وفي مارس 2017 نقل موقع اخباري مهتم بقضايا المرأة ، عن مصادر وصفها بالمطلعة ، ان وزارة الداخلية تتجه لاستبعاد القضاة من النزاعات حول تكافؤ النسب ، وارجاعها الى وكالة الوزارة لشؤون الاحوال المدنية[43]. والمفهوم ان هذا الاتجاه يستهدف الحد من الجدالات المقلقة التي تسببت فيها تلك الدعاوى ، فضلا عن اساءتها لسمعة البلاد في العالم.

فكرة ان جميع البشر يولدون متساوين ، تبدو بسيطة وواضحة جدا. فغالبية البشر يرون انفسهم مساوين لغيرهم ، لأنهم يرجعون الى أصل واحد ، وان تفاوتهم لاحقا ، عرضي مرتبط بكفاءتهم الخاصة او ظرفهم الاجتماعي.  ولا يخلو جدل حول المساواة في الاطار الاسلامي من إشارة الى الآية المباركة  "يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم – الحجرات 13".  التي وردت ، كما رأى العلامة الطباطبائي ، لبيان وحدة البشر من حيث حقيقتهم الإنسانية[44].

لكن حين تنظر في واقع الحياة ، تجد كثيرا من الناس يتقبلون ، بشكل عفوي غالبا ، فكرة أن الله لم يخلق الناس سواء. ولا يقتصر الامر على بضعة اشخاص متعصبين. فهناك من يسبغ على هذا الاعتبار صبغة دينية ، ويربطه بنصوص دينية او استدلالات تصله بمصادر في الشريعة. وهناك من يسندها الى آراء مفكرين وفلاسفة معتبرين.

القائلون بهذا ، لم يأتوا بالأدلة من جيوبهم. فلدينا  في التراث الاسلامي ، كثير من التصورات والاحكام القائمة على أرضية القبول بالتمايز الطبيعي بين الناس. ونجد أمثلة على هذا في المجادلات الخاصة باعتبار تكافؤ النسب شرطا في صحة عقد الزواج ، والمجادلات الخاصة بحقوق النساء ، وفي الروايات التي تؤكد على تفضيل العرب على غيرهم ، وما الى ذلك.

ستسمع دائما مقولات ، من قبيل الادعاء بأن المرأة والرجل مختلفون في القدرات الفطرية والميول الغريزية. كذلك الحال في الفوارق بين المنتمين للعرق الاسود ونظرائهم البيض. ومثلهم المولودون في البلاد الباردة الطقس وتلك الحارة. واحتمل ان جوهر المشكلة التي نواجهها في مناقشة هذه المسألة ، هو الخلط – العفوي غالبا – بين اختلاف الصفات البيولوجية بين الناس ، وكذلك اختلاف مواقعهم عند الولادة ، وبين تمايزهم في القيمة.

بيان ذلك: حين نقول بأن تلك الفروق البيولوجية ، هي التي تحدد قيمة المولود ، فاننا ننسب التمايز الى الخالق سبحانه. بهذا المعنى فان القيمة جزء من التكوين وليست اعتبارية. أما حين نتحدث عن مكانة للفرد ، راجعة الى ولادته على نحو معين ، مثل ولادته في عائلة رفيعة الشأن ، فنحن نشير في الحقيقة الى اعتبار يلقيه المجتمع على الفرد. فهو من هذه الزاوية وصف خارجي ، وليس جزء من التكوين.

القائلون بالتمايز ينتقلون – دون مبررات كافية في الغالب – من الاعتبار اللاحق للولادة ، الى المنشأ التكويني. ويظهر ان بعض القائلين بهذا ،   كان منتبها الى الفرق بين الاثنين ، وقرر الربط بينهما عن وعي ومعرفة ، ودعم رأيه بمبررات.

على اي حال فان القول بعدم التكافؤ الاصلي او اللاحق ، ينصرف الى معان مختلفة ، وان بدا للوهلة الاولى قولا واحدا. لذا يحسن البدء بايضاح الفرق بين المقولات السابقة التي – رغم تشابهها الظاهري – تنطوي على فروق اساسية. وسوف نذكر هنا خمسة معان مختلفة ينصرف اليها القول بالتمايز:

1-    التفاوت أصل تكويني وضرورة لانتظام الحياة:

وأكثر القائلين بالتمايز الطبيعي ، ينطلقون من هذا التبرير. وفحواه ان التفاوت بين البشر اصل في الخلق. خلق الله الناس مختلفين عن بعضهم في المؤهلات البدنية أو الذهنية أو القابليات ، لأن نظام الكون يتطلب ان يكون الناس متفاوتين في المكانة والوظيفة.

ونذكر هنا مثالين ، احدهما نص لصدر الدين الشيرازي والثاني للفخر الرازي ، يكشفان عن التوجهات الدارجة في موروثنا الثقافي ، حيال مبدأ التكافؤ الطبيعي. يعرف الشيرازي ايضا بالملا صدرا وصدر المتألهين (1571- 1640م) وهو فيلسوف بارز ، لاتزال كتبه محور بحث في مجامع العلم الديني الشيعي الى اليوم. وأشهر كتبه هو "الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة" الذي كرسه لتجسير الفجوة بين مقولات الفلسفة اليونانية ، والمفاهيم التي تطورت في الاطار المعرفي الاسلامي ، خاصة تلك التي تبدو متعارضة مع التفسير المادي للعالم. وحظي الكتاب بالعديد من الحواشي والشروح ، ابرزها على الارجح حاشية الملا هادي السبزوراي ، المتوفى في 1873م. 

في الفصل 13 من الموقف الثامن ، المخصص لبيان العناية الالهية بالخلق والرحمة الواسعة ، ونعم الله على عباده ، ذكر الملا صدرا خلق الحيوانات في الارض:

ومنها تولد الحيوانات المختلفة [وبث فيها من كل دابة] ، بعضها للأكل [والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون] ، وبعضها للركوب والزينة [والخيل والبغال لتركبوها وزينة] ، وبعضها للحمل [وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه الا بشق الأنفس ان ربكم لرؤف رحيم] ، وبعضها للتجمل والراحة [ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون] ، وبعضها للنكاح [والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا].

ويستفاد من العبارة انه يعتبر النساء صنفا من الحيوان المخلوق لمنفعة غيره. واستدل عليها بالآية المباركة (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا). وعلق السبزواري ، شارح الكتاب ، على هذا بان:

ادراجها في سلك الحيوانات ايماء لطيف إلى أن النساء ، لضعف عقولهن وجمودهن على ادراك الجزئيات ، ورغبتهن إلى زخارف الدنيا ، كدن ان يلتحقن بالحيوانات الصامتة حقا وصدقا. أغلبهن سيرتهن كالدواب. ولكن كساهن صورة الانسان ، لئلا يشمئز عن صحبتهن ويرغب في نكاحهن. ومن هنا غلب في شرعنا المطهر جانب الرجال وسلطهم عليهن في كثير من الاحكام.[45]

وتجد نصا قريبا من هذا عند الفخر الرازي (1149 -1209م)، في تفسيره المعروف "التفسير الكبير او مفاتيح الغيب". والرازي فقيه ومفسر ومن أبرز اعلام الاشاعرة في عصره[46]. وقد ذكر في تفسير الآية المباركة " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها – الروم 21" ، ان الآية دليل على:

أن النساء خلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع ، كما قال تعالى (خلق لكم ما في الأرض) [البقرة : 29]. وهذا يقتضي أن لا تكون مخلوقة للعبادة والتكليف. فنقول: خلق النساء من النعم علينا وخلقهن لنا ، وتكليفهن لإتمام النعمة علينا ، لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا. وذلك من حيث النقل والحكم والمعنى. أما النقل فهذا وغيره. وأما الحكم فلأن المرأة لم تكلف بتكاليف كثيرة كما كلف الرجل بها. وأما المعنى فلأن المرأة ضعيفة الخلق سخيفة ، فشابهت الصبي. لكن الصبي لم يكلف ، فكان يناسب أن لا تؤهل المرأة للتكليف. لكن النعمة علينا ما كانت تتم إلا بتكليفهن ، لتخاف كل واحدة منهن العذاب ، فتنقاد للزوج وتمتنع عن المحرم. ولولا ذلك لظهر الفساد[47].

نعلم ان هذا الموقف الشديد الانحياز ، كان سائدا في الماضي ، وانه قد طبع بصمته على ما ورثناه من ثقافة ، حتى ليظن كثير من قراء ذلك التراث ان هذا هو الدين او موقف الدين. وأود في هذه المناسبة الاستشهاد برأي د. ابراهيم المطرودي ، الأكاديمي المعروف ، الذي استعرض رأي الرازي وفقهاء أو محدثين آخرين ، ليستنتج ان

الرازي يسحب ثقافته التي كونها عن المرأة بنفسه ، أو شاعت في زمانه ، ويجعلها جزءا من النص الديني ، فتتحول بفعله الكتابي التفسيري ، من موقف شخصي أو ثقافي اجتماعي إلى معنى ديني ، يجد سنده في النص الديني نفسه ، ويصبح بعد ذلك جزءا منه!.

وإذا كانت هذه حال الرازي مع الخرافة ، وهو الذي قضى عمره في المحاكمات العقلية ، والمماحكات الكلامية ، والجدل الفلسفي ، فأضحى من النماذج العقلية الباهرة ، فهي إلى كتب غيره من المقلدين أسرع ، وفي مدوناتهم أفشى[48].

2-    التفاوت ارث بيولوجي:

الناس ليسوا متساوين في الاصل. لأنهم يرثون صفات ابائهم. فاذا كان الأب رفيع المنزلة ، فولده مثله. واذا كان وضيعا فكذلك ابناؤه. الرفعة ونقيضها ليست مجرد اعتبار اجتماعي – عند القائلين بهذا الرأي – بل تتجلى في صفات نفسية او عقلية ، تنتقل من الآباء للأبناء ، فيرثون المنزلة التي كانت لأسلافهم. وهذا أساس القول بحق العائلة او القبيلة في الفسخ الجبري لعقد زواج بناتهم ، اذا انكشف لهم ان الزوج ينحدر من عائلة او قبيلة أدنى منهم في النسب أو المكانة ، نظير القضايا المعروفة بتكافؤ النسب ، التي اشرنا اليها فيما سبق.

ومع ان معظم الباحثين متفقون على ان الصفات النفسية والعقلية ، مما يكتسبه الانسان بعد الولادة ، وهي تأتي بتأثير السعي الشخصي او التربية او البيئة المحيطة ، الا ان بعضهم اعتبرها قابليات بيولوجية كامنة في طبيعة الشخص وقابلة للانتقال الى أبنائه. ويكثر الخطباء المسلمون من تكرار الرواية المنسوبة الى النبي (ص) "تخيروا لنطفكم فان العرق دساس" او نزاع. وهي رواية ضعيفة[49] ، لكن انتشارها وملاءمتها لمعتقدات قديمة ، جعل مضمونها أشبه بالمسلمات.

3-    التفاوت بين الأعراق:

وفحواه ان انقسام البشر الى أعراق مختلفة ، يتوازى مع اتصاف كل عرق بصفات خاصة ، تستتبع بالضرورة تمايزا بين المنتمين لكل عرق ، في المؤهلات والقيمة. ومنه قول تقي الدين بن تيمية مثلا ان "جنس العرب أفضل من جنس العجم عبرانيهم وسريانيهم روميهم وفرسيهم وغيرهم .... وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم ، بمجرد كون النبي صلى الله عليه و سلم منهم ، وإن كان هذا من الفضل ، بل هم في أنفسهم أفضل"[50]. وكذا دعوة الشيخ بكر ابو زيد الى "سد منافذ التهجين لأول رائد للإسلام: العرق العربي ، لتبقى سلاسل النسب صافية من الدخل ، وملامح العرب سالمة من سحنة العلوج والعجم ، صانها الله من تلكم الأذايا والبلايا"[51].

وتنقل في هذا الصدد روايات عن النبي وأصحابه ، منها مثلا ما روي عن ابن عباس ، قال: "ذكر السودان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعوني من السودان إنما الاسود لبطنه وفرجه". وعن عائشة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زوجوا الاكفاء وتزوجوا الاكفاء وتخيروا لنطفكم وإياكم والزنج فإنه خلق مشوه". وذكر ابن الجوزي هاتين الروايتين والعديد من أمثالهما ، مما يتضمن مدحا أو قدحا لعرق بأكمله ، ثم بين انها جميعا مكذوبة او ضعيفة[52]. ونقل في الكافي عن الامام الصادق "لا تنكحوا من الاكراد أحدا ، فإنهم جنس من الجن كشف عنهم الغطاء". وفيه أيضا "لا تناكحوا الزنج والخزر ، فإن لهم أرحاما تدل على غير الوفاء. قال: والهند والسند والقند ، ليس فيهم نجيب ، يعني القندهار"[53] . وقال المجلسي ان هذه الرواية ضعيفة على المشهور[54].

بديهي ان وسم عرق بأكمله بخصائص اخلاقية معينة ، واعتبارها مبررا لاسباغ قيمة معينة سلبيه او ايجابية ، على افراد هذا العرق ، يعني بالضرورة ان كل وليد في هذا العرق – الا من استثني بديل خاص - يحمل تلك الخصائص وما يترتب عليها من قيمة ، وان الصفات السلوكية والاخلاقية لكل عرق او جماعة قومية ، ليست مما يمكن اختياره ، فهي جزء من خلقها وطبيعتها.

القول بالتمايز بين الاعراق ليس قصرا على الاقدمين ، ولا هو سمة خاصة بالثقافة الشرقية. فاستعباد الافارقة واحتقار العرق الاسود بشكل عام ، سمة معروفة في الثقافة الغربية. في النص التالي الذي ننقله عن مونتسكيو (1689-1755)، وهو من ابرز مفكري عصر النهضة الاوربية ، مثال واضح على موقف شريحة مؤثرة من مثقفي تلك الحقبة ، ازاء الشعوب المنحدرة من غير الاعراق المعروفة في اوربا. يقول مونتسكيو:

لا يلقى في الذهن كون البالغ الحكمة قد وضع روحا ، روحا طيبة على الخصوص، في جسم تام السواد. ومن الطبيعي ان يفكر في كون اللون هو الذي يقوم عليه جوهر الإنسانية.....

ومن الأدلة على عطل الزنوج من الرشد العام ، كونهم يفضلون القلادة الزجاجية على القلادة الذهبية ذات القيمة العظيمة جدا عند الشعوب المتمدنة.

ومن المحال أن نفترض هؤلاء الآدميين من الناس ، وذلك لأننا إذا ما افترضناهم أناسا ، أخذنا نعتقد أننا غير نصارى.[55]

لا بد من الاشارة هنا الى ان المجتمعات الغربية ، تبذل جهدا يتجاوز ما تبذله نظيرتها الشرقية ، للتخلص من الممارسات التي تتسم بالعنصرية ، والثقافة التي تغذي المشاعر العنصرية. ان انتخاب باراك اوباما رئيسا للولايات المتحدة الامريكية في 2009 ، يمثل ذروة هذا الجهد ، الذي شارك فيه المجتمع ومؤسسات السلطة ومراكز التأثير على حد سواء. لقد تم الغاء العبودية على المستوى القانوني حين جرى تعديل الدستور الامريكي سنة 1865 ، في نهاية الحرب الاهلية. لكن اقرار المساواة على المستوى القانوني والمؤسسي ، لم يتحقق الا بعد قرن كامل ، حين صدر قانون الحقوق المدنية لعام 1964 الذي حظر التمييز في الأماكن العامة ، العمل ، والنقابات المهنية ، وحقوق التصويت في الانتخابات العامة.

4- التفاوت بسبب الأقليم الجغرافي:

وخلاصة هذا التفسير ان التضاريس الجغرافية وأحوال الطقس ، تحدد السمات الذهنية والروحية لسكان كل إقليم. والظاهر ان هذا التفسير يعكس انطباعات شخصية لمشاهدات اصحابها. لكنه – مثل الكثير من الشهادات الشخصية الاخرى – اشتهر بسبب شهرة صاحبه. ومنه مثلا ما ذكره المسعودي عن اهل الجزء الشمالي من  الكرة الارضية " كالصقالبة والافرنجة ومن جاورهم من الامم ، فان سلطان الشمس ضعف عندهم لبعدهم عنها. فغلب على نواحيهم البرد والرطوبة ، وتواترت الثلوج عندهم والجليد. فقل مزاج الحرارة فيهم ، فعظمت أجسامهم ، وجفت طبائعهم ، وتوعرت أخلاقهم ، وتبلدت أفهامهم وثقلت ألسنتهم..... ومن كان منهم أوغل في الشمال ، فالغالب عليه الغباوة والجفاء والبهائمية. وتزايد ذلك فيهم في الأبعد فالأبعد إلى الشمال"[56].

وهذا الرأي لا ينسب التمايز الى الولادة بشكل صريح. لكنه يقرر ان الصفات  الشخصية والسلوكية قسر طبيعي ، وليست انعكاسا للبيئة الاجتماعية والتربية. وهذا القول يشبه سابقه الذي ينسب الصفات الى العرق ، من حيث الاثر الواقعي.  لكنه يتمايز عنه في تحديد مصدرها.

5-    التفاوت بحسب الشرع او القانون:

وفحوى هذا التفسير أن الشريعة أو القانون قادر على تحويل أقدار الناس وحيواتهم. القانون يجعل الحر عبدا ، فيلغي حياته المستقلة ، ويحوله الى مملوك لشخص آخر ، شأن الدواب والمتاع وبقية الاشياء القابلة للتداول. يمكن للقانون ايضا ان يلغي العبودية ، فيمنح الرقيق الاستقلال الذاتي في حياته. ومقتضى هذا الرأي هو تمديد قيد العبودية الى أبناء الرقيق ، الذين يصبحون رقيقا مثل آبائهم ، لحظة ولادتهم[57] ، وكذا تمديده الى العلاقات الزوجية اذا كان الزوجان من العبيد ، حيث تكون علاقتهم الزوجية خاضعة ، مثل كل شيء آخر في حياتهم ، لارادة المالك ، ان شاء ابقاها وان شاء فسخها او عطلها ، بشكل مؤقت او دائم[58].

ومنه أيضا التفاوت بين أتباع الديانات في القيمة. كما في التفاوت بين المسلم والكافر في الارث والدية ، وفي الحقوق المدنية ، مثل تولى الوظائف العامة التي تندرج تحت عنوان الولايات ، وكذا في الشهادة والزواج.

ربما يرد على النقطة الاخيرة ان الانتماء الى الدين لا يتعلق بالولادة ، بل هو اختيار لاحق. لكن يرد عليه بأن تحديد تابعية الفرد لدين معين ، يرجع لمعايير تعيده الى الولادة ، مثل تعريف المسلم بأنه من ولد لأبوين مسلمين ، وتعريف الكافر بأنه من ولد لأبوين كافرين ، مالم يثبت تحول أحدهما لاحقا[59].

***

يكشف العرض السابق ان القول بعدم تكافؤ البشر عند الولادة ، ينصرف الى وجوه عديدة ، بعضها يعبر عنه بكلمات صريحة ومباشرة ، وبعضها الآخر يضعه في قالب مختلف نوعا ما ، لكنه يؤدي نفس المعنى. وكثرة ما قيل في هذا المقام تدل على انه ليس مجرد انطباع تحمله أقلية ، بل هو عرف ثقافي شائع بين الكثير من الناس ، حتى من أهل العلم الذين يفترض انهم احرص على تدقيق مقولاتهم ، واستبيان انعكاساتها النهائية قبل اطلاقها.

والغريب في الأمر ان معظم الذين تبنوا القول بالتمايز الاصلي وعدم التكافؤ بين البشر ، تحدثوا أيضا في ضرورة احترام الانسان وعدم التمييز بين انسان وآخر. كمثل على ذلك فان الذين رووا الاحاديث التي ذكرناها في الصفحات السابقة ، والتي تشير الى عدم التكافؤ بين الناس ، رووا ايضا في نفس كتبهم المذكورة ما يؤكد على ان الناس سواء. ونقل بعضهم روايات عديدة وصحيحة حول التكافؤ بين المؤمنين ، بغض النظر عن العرق والاصل والانتماء الاجتماعي ، وروايات تقول بان التمييز بين الناس تبعا لهذه المبررات من اعراف الجاهلية التي نبذها الاسلام. 

ربما يقال – في مقام التبرير والاعتذار - ان هؤلاء رووا ما وجدوه من روايات من قبلهم ، فحسنوا ما علموا حسنه وضعفوا ما علموا ضعفه. ولعلهم لم يحيطوا علما بكل ما ورد ، فنقلوه كما هو. ونعلم ان تصحيح الرواية او تضعيفها كان ولا يزال محوره السند وليس المتن. الا اذا كان المتن منكرا جدا ، فحينئذ ربما يتجرأ الراوي او الناقل على انكاره ، ومثل هذا نادر. اما في أغلب الحالات ، فان الناقلين يكتفون بتجاهل المتن المنكر كليا ، او ربما ينقلونه دون تعليق ، على أمل ان يأتي غيرهم ، فيكشف مواطن ضعفه ، او ربما يظهر له تفسير غير ما ظهر لهم.

لكني أميل الى الاعتقاد بان المساواة كقيمة عليا معيارية ، لم تكن راسخة ومؤثرة في الثقافة السائدة. ليس فقط في العالم الاسلامي ، بل في كل بقاع العالم. ولهذا ترى في تراث المجتمعات كافة ما يدل على التساهل في التمييز بين الناس ، واجتراح تبريرات لاظهار هذا التمييز كموقف معقول ومقبول. ولهذا السبب على الارجح ، كان العلماء والكتاب يمرون على النصوص التي تؤكد التمييز او تشير اليه ، فلا يرون فيها غريبا او متعارضا مع حكم العقل. وقد يعيدون كتابته او الحديث فيه دون ان يشعروا بحرج.

ومما يدل على هذا ، ان النصوص التي نقلناها عن صدر المتألهين والسبزواري والفخر الرازي وغيرهم ، قد مر عليها آلاف من دارسي العلوم الاسلامية ، فلم يتخذوا منها موقف الناقد ، مع وضوح تعارضها مع القيم الاسلامية والانسانية ، وتعارضها مع احكام العقل السليم. ولا نخص بهذا الكلام اولئك الذين درسوا هذه النصوص في الماضي ، بل حتى  هؤلاء الذين درسوها في عصرنا الحاضر ، بعدما بات مبدأ المساواة راسخا ومعروفا عند جميع الناس. 

ويدل عليه ايضا ما تراه في بعض الكتب الحديثة نوعا ما ، من حرج عند مواجهة هذه الروايات. فبدلا من نقدها سندا او متنا ، وبيان مخالفتها لما هو معلوم من القيم السامية في الاسلام وعند العقلاء ، صرفوا جهدهم الى تبريرها او البحث عن منافذ لتقليل الحرج الناتج عن اثباتها.

ومن بين ما اطلعت عليه حديثا كتاب "الطفل بين الوراثة والتربية" للشيخ محمد تقي الفلسفي ، وهو أشهر خطباء ايران في عصره (1908-1998). فقد خصص فصلا في كتابه للحديث عن وراثة الصفات البيولوجية ، ثم صرفها جميعا الى وراثة الصفات السلوكية[60]. ودعم حديثه بروايات مثل "تخيروا لنطفكم فان العرق دساس" التي اوردناها في الصفحات السابقة ، مع ان ضعف هذه الرواية وامثالها مشهور ومذكور في العديد من كتب الحديث.

بعبارة اخرى فان فلسفي ارتكب خطأين ، اولهما انه اثبت وراثة الابناء لصفات آبائهم البيولوجية ، مثل لون البشرة وشكل الجسد. ثم صرفها – دون مبرر علمي – الى الصفات الذهنية والسلوكية ، مثل الوفاء والاخلاص والذكاء وأمثالها. وثانيهما انه اضفى على هذا التفسير وصفا دينيا ، حين استدل عليها بروايات مشهورة بالضعف من حيث السند ، ومعارضة للقيم الدينية المعيارية ، من حيث المتن. والطريقة التي اتبعها فلسفي ، شائعة بين الدعاة ، تتكرر في كثير من احاديثهم الخاصة بالزواج والتربية. 

أقول ان تكرار نقل النصوص التي تدعم التمييز بين خلق الله ، لا يدل على صحتها. بل يدل على ان مبدأ المساواة بين الخلق ، لم يكن راسخا في الثقافة العامة ، عند معظم البشر في الأزمان الماضية. وهو لازال كذلك في العالم الاسلامي حتى اليوم. وأود الاشارة هنا الى حقيقة تاريخية جديدة نوعا ما ، يعرفها المهتمون بهذا النوع من المباحث. خلاصتها ان الرق كان موجودا في معظم البلاد الاسلامية حتى الربع الثالث من القرن العشرين. ولم ينته ويتلاشى بسبب حراك اجتماعي او سياسي من داخل هذه المجتمعات ، بل بتأثير الضغط الخارجي ، الامريكي والاوربي بشكل خاص. وهذا الامر موثق ومعروف[61]. 

في هذه الأيام ما عاد الفقهاء يتدارسون احكام الرقيق في كتبهم الفقهية ، لأن الرق زال من العالم ، ولأنه بات مستهجنا عند كافة الناس ، المسلمين وغيرهم. اما قبل بداية الضغط الخارجي الرامي لالغاء العبودية ، فقد كان الامر معتادا ، لا أحد ينكره او يطالب بالتخلص منه. هذه الحقيقة التاريخية تؤكد ما قلناه في السطور السابقة ، من أن مبدأ المساواة بين البشر ، وكونهم متكافئين بالولادة ، لم يكن راسخا في ثقافة المسلمين ونظامهم الاجتماعي ، وهو لا زال كذلك ، رغم انتشار مباديء حقوق الانسان واتساع النشاطات المحلية والدولية الداعية اليها.

من هنا فاننا نتفهم موقف الذين يتشككون في أصالة مبدأ المساواة ، أو يجادلون في الحاجة اليها وشمولها لكل مناحي الحياة ، او يبحثون عن مبررات لتلك الروايات التي تقر التمييز او تبرره. وفي الوقت الذي نتفهم موقف هؤلاء وربما نعذرهم ، فاننا ندعوهم الى استنهاض جوهر انسانيتهم ثم مساءلة محفوظاتهم ، لاسيما السؤال البسيط: لو كنت أنا في موضع الشخص الاسود اللون ، او المرأة ، او كنت منتميا لعرق غير عرق العرب ، فهل كنت ارضى بأن أعامل كمسلم من الدرجة الثانية او كمواطن ناقص الحقوق والقيمة؟. هل كنت اعتبر هذا الموقف عادلا وخيرا ومعبرا عن جوهر الاسلام وما يدعو اليه من فضائل؟.


  الحتمية البيولوجية

الرؤية السائدة في عالم اليوم ، هي ان جميع الناس يتساوون في لحظة  الولادة ، من حيث القابليات والقيمة. اما الاخلاقيات والسلوكيات والمؤهلات ، فان الانسان يكتسبها من محيطه ، بعد ان يولد. الرؤية المقابلة لا تنكر تأثير التربية والمحيط الاجتماعي. لكنها تقول بان بعض الصفات والقابليات ، ارث ينتقل من الاباء والامهات الى ابنائهم. الاشرار يلدون اشرارا ، والاخيار يلدون اخيارا.

لم تناقش هذه الرؤية بصورة موسعة في الماضي. بل اعتمدت على المشاهدات العينية. كان العلماء يلاحظون ان بعض البيئات الاجتماعية ، تحمل سمات لا تتغير كثيرا عبر الاجيال. الفقر والثروة ، العلم والجهل ، انواع الحرف والمهن ، السلوكيات القويمة والمنحرفة ، مستوطنة في بيئات بعينها. العائلات الثرية تتوارث المال وتنميه ، بينما يبقى ابناء الفقراء فقراء مثل آبائهم. في عائلات اخرى تجد الاهتمام بالعلم ممتدا بين الاباء والابناء ، وكذا الحرف والصفات السلوكية مثل الشجاعة والكرم والتعاطف .. الخ.

الملاحظة المتكررة لهذه الظواهر ، حملت كثيرا من قدامى المفكرين ، على افتراض ان لكل من هذه الظواهر صلة بالتكوين البيولوجي للبشر ، ولم يستبعدوا ان منشأها هو القابليات الطبيعية للافراد ، وليس التربية او التعلم من المحيط. وبناء على هذا افترضوا ان المتميزين في أي جانب ، سلبي او ايجابي ، اصبحوا كذلك لأن تكوينهم البيولوجي او العقلي ساعدهم على اختيار هذا الطريق دون غيره. وبالنظر لكون هذه السمات جزء من ذواتهم ، فانها تنتقل الى ابنائهم ، مثلما تنتقل السمات الجسدية ، كلون البشرة والشكل الخارجي.

كان ارسطو قد عبر عن هذا المفهوم بطريقة مختلفة نوعا ما ، حين قال ان الطبيعة أهلت كل فرد لنوع معين من الاعمال. بعض الناس مؤهلون – طبيعيا – كي يكونوا جنودا ، وبعضهم مؤهلون كي يكونوا علماء وفلاسفة ، وغيرهم مؤهل ليكون عبدا. ولذا اعتبر قبول كل شخص بحرفته التزاما بقانون الطبيعة العادل. كما اعتبر عدوله عنها ظلما وسببا في خراب المدينة[62].  

لو أخذنا هذه الرؤية الى مداها النهائي ، فسوف نصل الى الحكم على الافراد لحظة ولادتهم. فنقول مثلا ان هذا المولود قد كتب عليه الشقاء لأنه ولد لأبوين من الاشقياء ، وذاك مكتوب عليه ان يكون تاجرا او صانعا ، لأن أبويه كانا كذلك.

قد يظن القاريء ان في الأمر مبالغة او ربما يكون أقرب الى التصوير الكاريكاتوري للأفكار. لكنه ليس كذلك. فكل ما ذكرناه كان موضع قبول في بعض الازمنة ، عند شرائح من الناس. وقد سجل التاريخ مثلا ، ان المانيا النازية اتخذت اجراءات محددة لمنع تكاثر الاشخاص غير السليمين بدنيا وبيولوجيا ، عن طريق اخصاء المجرمين المعتادين على الاجرام والمصابين بعاهات وراثية. وصدر في يوليو 1933 قانون يستهدف "الحيلولة دون النسل المعتل وراثيا". ويسمح هذا القانون بتعقيم الافراد المصابين بالبلاهة او الصرع الوراثي ، العمى والصمم الوراثي ، التشوه البدني المفرط ، هوس الاكتئاب ، وجنون الفصام. وكان الغرض من هذا القانون تنقية العرق الالماني. ويقال في هذا الصدد ان هملر ، قائد الشرطة النازية أمر باعدام حوالي 50,000 شخص متخلف عقليا ، خلال الحرب العالمية الثانية[63].

شهدت الولايات المتحدة الأمريكية تيارا مماثلا بعد الحرب العالمية الاولى ، اعتمدت على نسخة معدلة من النظريات الداعية الى تنظيم النسل. في 1918 انشأ عدد من دعاة هذا التيار "جمعية غالتون" في نيويورك. واعلن ان غرضها دراسة انثروبولوجيا الأعراق. وقصرت عضويتها على "الأمريكان الاصليين" بصفتهم العرق المتفوق انثروبولوجيا ، اجتماعيا وسياسيا.

خلال العقد الثاني والثالث من القرن العشرين ، كانت الدعوة الى تحسين النسل تيارا واسع الانتشار في الولايات المتحدة الأمريكية ، ومدعوما من جانب شريحة واسعة من النخبة السياسية. وكان محور هذه الدعوة هو المبدأ القائل بامكانية "تحسين الوعاء الجيني للامة الأمريكية" من خلال تضييق الطرق القانونية التي تسمح باستقبال المهاجرين المنتمين الى أعراق متدنية. تمثلت ذروة هذا التيار في صدور القانون المسمى بلائحة "جونسون - لودج لقيود الهجرة" سنة 1924 والتي أدت الى خفض حاد لعدد المهاجرين ، وما يشبه اقصاء كاملا للمهاجرين الجدد من جنوب وشرق أوربا.

على نفس الارضية ، اي "تحسين الوعاء الجيني للأمة" أصدر عدد من الولايات الأمريكية قوانين تسمح بتعقيم الافراد الذين يصنفون كفاشلين او معوقين جينيا. وقد تبنت 28 ولاية قوانين تدور في نفس الاطار. ويقدر عدد الافراد الذين جرى تعقيمهم في الولايات ا لمتحدة بين 1912 و 1931 بما يصل الى 60,000 فرد[64].

جدير بالذكر ان معظم دول أوربا ، عدا بريطانيا ، ذهبت في نفس الاتجاه خلال هذه الفترة.

 انطلقت هذه الحركة من فرضية ان الانتماء العرقي يقرر مؤهلات الفرد ، وان بعض الاعراق التي تقطن الولايات المتحدة أدنى مستوى. وبناء عليه فانه ينبغي تعديل الحقوق المدنية ، كي تعكس هذا التفاوت في المؤهلات الذاتية[65].  وبالنظر للجدل الدائر – يومئذ – في المجتمع الأمريكي حول اقرار المساواة والغاء التمييز العنصري ضد السود ، فان تلك التحركات المدعومة بشهادات لعلماء ، قد غذت مبررات التيار المعارض للمساواة أو المتشكك في جدواها.

يمثل الجدل حول التمايز الاصلي للأعراق في الولايات المتحدة الأمريكية نموذجا جديرا بالتأمل ، بالنظر الى ان الشعب الأمريكي يتألف كله من المهاجرين ، وان اي جدل في هذا السياق ، سيؤدي – بالضرورة – الى اساءة لمعظم السكان. صحيح ان غالبية المهاجرين الأوائل كانوا من الشعوب النوردية ، إلا ان الاغراق في الجدل ، كان سيؤدي في نهاية المطاف الى منزلق المفاضلة بين النوردي الصافي والنوردي المختلط ، بين القادم من شمال اوربا والقادم من وسطها او شرقها. ومن هنا فسرعان ما انعكس ذلك الجدل على المواقف السياسية ، وانكشف للنخبة خطورة المضي فيه.

الاساس العلمي لدعاوى التمايز العرقي

كافة الدعاوى الخاصة بالتمايز بين الأعراق ، ترجع مبرراتها العلمية الى فرضيات طرحها علماء في الأحياء الجزيئية ، فحواها ان تفكيك الغاز الحمض النووي ، واكتشاف التسلسل الجزيئي الذي يؤلف جيناتنا ، سيفسر لماذا اصبح بعض الناس اغنياء وبعضهم فقراء ، بعضهم صحيح الجسم وبعضهم عليل ، ولماذا تمكنت امة بعينها من الهيمنة على أمم أخرى ، ولماذا تفوقت بعض الأعراق وخابت الأعراق الاخرى[66].

يطلق على هذا المفهوم عنوان "الحتمية البيولوجية". وهو احد أكثر القضايا التي أثارت الجدل في دراسات الوراثة. ولعل علم الاحياء البريطاني الشهير  تشارلز دارون (1809-1882) هو اول من طرح مفهوم الحتمية البيولوجية ، حين نشر كتابه "أصل الانواع". وفقا لهذا الرأي فان الكائنات الحية في حال تطور دائم. ان الفارق بين مرحلة واخرى قد يستغرق ملايين السنين. لكن ما نراه اليوم ليس سوى النسخة الأكثر تطورا عن صورة نفس الكائن الحي في الماضي السحيق.

والمشهور ان دارون قد بنى نظريته بعدما اطلع على نظرية القس الانجليزي توماس مالتوس (1766-1834) [67]، التي خلاصتها ان البشر يتكاثرون وفق متوالية هندسية ، بينما تتكاثر الموارد الطبيعية التي يحتاجونها لحياتهم وفق متوالية حسابية. ومن هنا فانه من الحتمي ان يتفجر الصراع بين البشر على الموارد ، لأن غريزة البقاء هي اقوى الغرائز.

استخدم دارون هذه الفرضية ، كأساس لنظريته حول الانتخاب الطبيعي natural selection وخلاصتها ان الصراع  على الموارد بين  الكائنات الحية ، حتمي ، وهو يؤدي بالضرورة الى فناء السلالات الضعيفة وبقاء الأقوى. وفي هذا السياق رأى دارون ان الكائنات الاقدر على البقاء ، سوف تنتج ذرية قوية تملك اعضاء ووظائف وتمارس سلوكيات ، قادرة على مجابهة تحديات الحياة والتغلب عليها. بعبارة اخرى فان ما نجده اليوم من قدرة لدى الانسان على تسخير الطبيعة واستثمارها ، ليس سوى نتيجة للصراع من اجل البقاء ، الذي استمر مئات الملايين من السنين. وان هذه القدرة لا تتعلق فقط بما يتعلمه الانسان من المحيط ، فبعضه مرسوم في جيناته التي ورثها من آبائه ، ويعيد توريثها لأبنائه.

حصل علم الوراثة على دفعة اخرى ، حين اعيد اكتشاف التجارب التي اجراها الراهب النمساوي غريغور مندل ، في اوائل القرن العشرين. اجرى مندل نحو 10,000 تجربة بين 1854-1864 على نباتات البازلاء. وكان غرضها جميعا اكتشاف تأثير التزاوج بين سلالات واجيال مختلفة من نبات البازلاء. وقد توصل الى ان النبات الناتج عن تلقيح سلالتين مختلفتين ، يحمل سمات مشتركة ، ويختلف نسبيا عن كل من السلالتين الاصليتين. وهذا يثبت ان النبات يحمل في داخله جينات حاملة لصفات محددة ، وانها قابلة للانتقال من جيل الى جيل[68]. لكن اكتشاف تركيب الحمض النووي DNA في 1953 على يد جيمس واتسون وفرانس كريك ، اعطى مبررات اقوى لعودة الاهتمام بالنظريات الوراثية ، باعتبارها تفسيرا محتملا لكثير من الظواهر الغامضة في حياة البشر.

من المفهوم ان الاكتشاف الجديد ، قد لفت الانتباه الى التطبيقات الجديدة لعلم الوراثة ، لا سيما في مجال الزراعة. لكن بعض المفكرين اعادوا احياء السؤال القديم ، حول ما اذا كانت سلوكيات الانسان وافعاله ، مجرد انعكاس لعوامل جينية.

كان تصاعد الاهتمام بالحتمية البيولوجية في اوائل القرن العشرين ، ثمرة لجدل ثقافي عميق في تلك الحقبة ، يتناول تحديدا الارتباط العضوي للفرد بالجماعة ، وهو جدل اثمر أخيرا عن غلبة الاتجاه الداعي للتركيز على الفرد ذاته ، باعتباره صانع حياته واقداره. في سياق هذا الجدل طرحت فرضية فحواها ان مفتاح فهم السلوك الجمعي ، ربما يوجد في علم الأحياء ، الذي قيل انه قادر على إيضاح العوامل الكامنة وراء التمايز بين المجموعات البشرية في سلوكها العام. تبعا لهذه الرؤية فان قابلية الافراد للانسجام مثلا ، ترجع الى تلاؤم بين جيناتهم ، وقابلية آخرين للسيطرة او اتخاذ مواقف شجاعة ، ترجع كذلك الى حملهم لجينات متمايزة. بعبارة اخرى ، فان ما نفعله ليس سوى تمظهر لحقيقتنا الجينية. نحن مجرد وسيلة او ناقل مؤقت يتمظهر فيه هذا الجين. وبناء عليه فان التركيب الجيني هو الذي يشكل ما نسميه الفرد. ومن مجموع الافراد يتشكل المجتمع. فاذا لاحظنا اختلافا بين مجتمع وأخر "فذلك لأن جينات أفراده تختلف عن جينات المجتمع الآخر. تتفاوت الأعراق فيما بينها جينيًا في مدى عدوانيتها وإبداعها وحسّها الموسيقي"[69].

البيولوجيا الاجتماعية:

ظهر هذا المصطلح في 1975 حين اتخذه عالم الاحياء الأمريكي ادوارد ويلسون عنوانا لكتابه "البيولوجيا الاجتماعية: التوليفة الجديدة"[70]. اعتمد ويلسون توليفا بين نظريات علم الوراثة ، الذي ينسب الى غريغور مندل ونظرية التطور الداروينية ، وخلص الى ان جانبا من الصفات السلوكية والقدرات الخاصة بالعامل الحي ، ربما يرجع الى عوامل جينية ، خلافا لما بدا انه توافق عام على ارجاعها لتأثير البيئة والتربية.

ويقر ويلسون بان الجانب الاعظم من سلوكيات الكائن الحي التي يمكن دراستها ، مكتسب من المحيط. لكنه يعتقد ان التأثير البيئي والتربوي يتفاعل مع القابليات الجينية ، يتأثر بها ويؤثر فيها على مدى زمني طويل جدا. وخلال هذه الرحلة الطويلة ، يلعب التأثير الجيني دورا معززا لنوع معين من السلوكيات على حساب اخرى ، بالنظر لعلاقتها مع التحدي الرئيس الذي يواجه الكائن الحي ، اي تحدي البقاء. ويشار خصوصا لنوعين من السلوكيات ، هما العدوان من جهة ، والتضحية بالذات من اجل الجماعة ، من جهة أخرى.  وثمة رؤية شائعة بين البيولوجيين فحواها – وفقا لروبرت آردري - ان العالم بات "مأهولا بالجماعات التي تضم أفرادا يضحون بذواتهم. لأنهم ككائنات حية قاموا بشيء افضل من افراد الجماعات الانانية وغير المتعاونة" ويبدو ان هذه الفكرة تجد قبولا عند بعض علماء النفس والاجتماع[71].

اشرنا في السطور السابقة الى استنتاجات مندل ، القائلة بأن التزاوج بين سلالات نبات البازلاء ، ينتج سلالة مختلفة عن أسلافها. وقد جمعها ويلسون مع رؤية دارون القائلة بأن صراع الكائن الحي من أجل البقاء ، قد أدى مع الزمن الى تطور في التكوين الجسدي للحيوان. خلال ملايين السنين التي مرت منذ ظهور الحياة على وجه الارض ، انقرضت سلالات حيوانية وظهرت بدائل عنها ، بفعل عامل الانتخاب الطبيعي ، اي فناء الأضعف وبقاء الأقوى.

تتمتع نظرية دارون في التطور والانتخاب الطبيعي بقبول واسع في المجتمع العلمي. لكنها تواجه اعتراضات واسعة حين تجري مقاربتها الى الافعال الانسانية ، التي تنسب عند الغالبية الساحقة من المفكرين ، الى دوافع إرادية عاقلة.[72] بينما يجادل مؤيدو نظرية البيولوجيا الاجتماعية ، بأن جوهر فكرة التطور والانتخاب تتضمن ان التركيب الجيني للكائن الحي ، يتفاعل – على نحو من الانحاء - مع معطيات البيئة وحاجات الحياة. هذا يعني ان قدرا ضخما من المعلومات الخاصة بدوافع الفعل تمر من خلال الجينات. وهذا ظاهر في عالم الحيوان.

ومع الاخذ بعين الاعتبار ان مستويات التفاعل المذكور ، في انواع الحيوانات والحشرات المختلفة ، مختلفة عن بعضها على نحو واضح ، وهي أكثر اختلافا حين يتعلق الامر بالانسان ، الا انهم يرون ان الاطار الاساسي للتحليل قابل للتطبيق هنا وهناك.

وتبعا لهذه الرؤية ، فان المسار التطوري للبشر ، هو الذي جعل الكرة الارضية مأهولة بنوع واحد من البشر ، بينما كان هناك سلالتان على الأقل قبل مليونين او ثلاثة ملايين سنة. هذا النوع باق ، لأنه نجح في تطوير قدراته الجسمية والعقلية كي تتعامل مع تحديات المحيط ، بينما لم تفلح الانواع القديمة. وفي هذا السياق يشير ادوارد ويلسن الى الفوارق الجسمية بين الانسان الذي يقطن الكرة الارضية اليوم ، وبين السلالات البشرية المنقرضة. لا سيما في الخصائص التي تجعله اقدر على الثبات والاستقامة والتعامل مع عناصر البيئة الاخرى

"الانسان الحديث فريد في تركيبه البدني. قوامه ومجمل حركته ، ليس لها مثيل حتى في انواع الحيوان ، التي تسير احيانا على قدمين مثل الغوريلا والشمبانزي. الهيكل العظمي للانسان تطور بشكل جوهري كي يستوعب التعديلات على اجزائه. العمود الفقري بات منحنيا بحيث يتوزع وزن الجذع بشكل متساو على طوله. بات الصدر منبسطا لتحريك مركز الجاذبية الى الوراء باتجاه العمود الفقري. توسع الحوض كي يخدم عضلات الساقين ويحمل الاحشاء ، كما تم تعديل عظام اسفل الجمجمة بحيث يكون وزن الرأس متوازنا عليها.."[73]

يقول ويلسون ايضا ان التوسع الكبير لدماغ الانسان خلال حقبة تطور قصيرة نسبيا  ، هو أكثر الدلائل اهمية في البيولوجيا البشرية. قبل ثلاثة ملايين عام ، كان الشخص البالغ من الاسترالوبيثيكوس Australopithecus الذي يقال انه اقدم اسلاف البشر ، يملك كتلة دماغية حجمها يتراوح بين 400 الى 500 سم مكعب. بعد مليوني عام كان خلفه المفترض ، هومو اريكتوس Homo erectus يملك كتلة دماغية حجمها التقريبي 1000 سم مكعب. في المليون سنة التالية اتسعت هذه الكتلة الى مابين 1400-1700 سم مكعب عند انسان النياندرتال  Neanderthal ، وصولا الى الانسان الحديث الذي يملك كتلة دماغية تتراوح بين900-2000 سم مكعب. القدرات الذهنية التي صاحبت هذا التطور ، كانت عظيمة على نحو لا يمكن قياسها بأي طريقة ذات معنى[74].

بعد هذه المقدمة تحدث ويلسون باختصار عن المرونة التي يتسم بها التنظيم الاجتماعي للبشر ، وهي ظاهرة مشهودة حتى في أكثر المجتمعات البشرية بدائية. ومن هذا التمهيد يضع الفرضية الرئيسية في حقل الاجتماع البيولوجي:

"الفرضية التي ينبغي اخذها بعين الاعتبار ، هي ان الجينات المعززة لمرونة السلوك الاجتماعي ، تم اختيارها حصرا [ضمن مسار الانتخاب الطبيعي] على مستوى فردي. مع ملاحظة ان ذلك التنوع في التنظيم الاجتماعي ،  هو نتيجة محتملة لهذا المسار ، وليست ضرورية"[75].

ومع الاخذ بعين الاعتبار اننا لا نملك القدر الكافي من المطالعات والتجارب الفعلية ، التي تدعم هذه الفرضية في الوقت الحاضر ، يتعامل ويلسون بحذر واضح مع مقولة ان تطور المجتمعات البشرية يؤدي الى تطور جيني ، او ان التطور الجيني يشكل عاملا محددا للسلوك البشري. لكنه يعود من ثم الى استعراض ما جرى في بعض الجماعات الحيوانية ، كالنمل والنحل على سبيل المثال ، مشيرا الى امكانية الاخذ بعين الاعتبار ذات الاطار التطوري كاساس لبحث الفرضية السابقة الذكر.

نقد الحتمية البيولوجية

رغم المظهر العلمي للابحاث التي تتبنى فكرة الحتمية البيولوجية ، الا أنها تواجه تحديات جدية من الناحية العلمية ومن الناحية الاخلاقية. التمييز بين الجانبين العلمي والاخلاقي ضروري ، لأننا بحاجة للتأكيد في كل الاوقات على وجوب تقيد البحث العلمي بالحد الادنى من القيم الاخلاقية ، كي لا يتحول العلم الى وسيلة افناء للانسان او سلبه انسانيته. هذه ناحية ، اما الناحية الاخرى ، فاننا لا نشك في صدق نوايا العاملين في الحقل العلمي ، وبينهم اولئك الباحثون الذين تبنوا فكرة الحتمية البيولوجية وغيرها. لهؤلاء بالتأكيد مبررات علمية حملتهم على الوثوق بما توصلوا إليه. لكن هذا لا ينبغي ان يحجب عنا حقيقة ان هذه البحوث ذاتها تستخدم من قبل اشخاص او جماعات في أغراض سياسية او أيديولوجية ، لا علاقة لها بالعلم من قريب ولا بعيد. هذا الاستعمال ينصرف في معظم الحالات – كما رأينا في الامثلة المذكورة آنفا – الى العدوان على الاشخاص او الجماعات العرقية المختلفة عنهم ، وتحقيرهم واذلالهم. والمؤكد ان اولئك العلماء لن يكونوا سعداء ، اذا علموا ان نتائج جهدهم تستعمل في هدر قيمة الانسان وتحقيره او العدوان عليه. 

لهذا السبب وذاك ، فان من الضروري وضع تلك النظريات – مثل كل نظرية علمية أخرى – على طاولة النقد ، أولا لان هذه طبيعة العلم. وثانيا من أجل الحيلولة دون البناء على تلك الاحتمالات ، كما لو انها حقائق نهائية مثبتة ، كما حصل فعلا على يد اولئك الباحثين عن مواد للاستثمار في السياسة.

على المستوى العلمي تظهر تلك الدراسات خلطا واضحا بين مرحلتين مختلفتين تماما :

الاولى : ان الاحتمالات الأولية ، مثل فرضية ان انقراض السلالات القديمة للبشر والحيوانات ، تعزز احتمال ان عوامل الانقراض متشابهة ، او ان العوامل التي سمحت ببقاء السلالات التي لم تنقرض ، قابلة للتفسير ضمن مفهوم "الانتخاب الطبيعي" الذي اقترحه شارلز دارون.

خلاصة هذا الاحتمال ان السلالات التي تحدت عوامل الفناء ، نجحت في تطوير قابليات بيولوجية للبقاء على قيد الحياة ، وان هذه القابليات (التي جوهرها القدرة على مقاومة عوامل البيئة والمحيط) قد انتقلت بالوراثة الى الاجيال التالية ، حتى وصلت الينا.

الثانية: ان ذلك الاحتمال ، اي وجود عوامل جينية تعزز قابلية الكائن الحي لمقاومة تحديات البيئة ، يمكنه أيضا تفسير الاختلاف في السلوك الفعلي للجماعات البشرية. وحسب رأي القائلين بالحتمية البيولوجية ، فان ذلك الاحتمال يمكن ان يخبرنا لماذا يكون المنحدرون من أعراق معينة أكثر من غيرهم استعدادا للتعلم ، او انها تفسر التباين في قوة الجسد او في مقاومة الامراض او الذكاء الفطري او القابلية للقيام ببعض الاعمال دون غيرها ، بل وحتى القابلية للانحراف وارتكاب الجرائم.. الخ.

بعبارة أخرى فان القائلين بالحتمية البيولوجية يقولون صراحة او ضمنا ، ان جانبا مهما من سلوك الانسان لا يخضع لسيطرة العقل ولا يتأثر بالتعليم والتدريب ، لأنه اقرب الى الغرائز الاصلية والافعال التي دافعها بيولوجي بحت ، مثل فعل الاكل (أو البحث عن الطعام)  الذي يفعله الانسان حين يشعر بالجوع.

اشرت في السطور السابقة الى حديث ادوارد ويلسون ، عن الفارق بين حجم الدماغ عند الانسان المعاصر ، ونظيره في اسلافه الذين عاشوا قبل مليونين او ثلاثة ملايين سنة. وهو يقصد ان انسان اليوم أكثر ذكاء وقابلية للتعلم ، لان الاداة التي تجري فيها العمليات الذهنية قد اتسعت.  هذا القول الذي يبدو كمسألة علمية بحتة ، استثمر في واقع الامر من قبل جماعات تتبنى ايديولوجيات عنصرية. تقول هذه الجماعات مثلا ان ذلك الاحتمال ، يعني - منطقيا - انه طالما امكن اثبات المسار التطوري للدماغ ، وعلاقته بالذكاء ، فانه من الممكن ايضا النظر الى المسألة من زاوية أخرى ، هي التباين بين حجم الدماغ عند الأعراق المختلفة ، باعتباره دليلا مؤكدا على التفاوت في الذكاء والقابليات الذهنية بين تلك الأعراق. واذا قبلنا بوجود تفاوت من هذا النوع ، فيجب ان نقر – تبعا لهذا – بان القيم والادوار والحقوق المرتبطة بالعقل ، ينبغي ان تكون متفاوتة أيضا.

وقد عرض ستيفن روز وزملاؤه عددا كبيرا من الدعاوى المماثلة لما سبق ، والردود عليها ، الامر الذي يظهر ان تلك الدعاوى ، لا تقوم على اساس علمي مكين ، رغم ما يظهر عليها في صورتها الخارجية. ويقول روز ان الجدل حول حجم الدماغ ، كان شاغلا لعدد من علماء تشريح الجهاز العصبي البارزين في القرن التاسع عشر. وكانت الطريقة المتبعة ، هي قياس كتلة الدماغ اثناء حياة الانسان ، او  وزنه بعد الوفاة مباشرة. ويبدو ان بعضهم قد "اصطنع" دلالات للبرهنة على ان اختلاف حجم الدماغ ، بين الرجل والمرأة ، وبين السود والبيض ، له مغزى بيولوجي. لكن باحثا في علم الاحياء هو ستيفن غولد اعاد تقويم هذه الاستدلالات وكشف زيفها.[76]

ولم يخل القرن العشرين من محاولات مماثلة ، للربط بين حجم كتلة الدماغ ومستوى الذكاء. فقد انتزع دماغ فلاديمير لينين واينشتاين بعد موتهما ، للتحقق من علاقة محتملة بينه وبين عبقرية الرجلين. وقد تأسس في الاتحاد السوفيتي السابق معهد لأبحاث الدماغ ، انفق سنوات في دراسة دماغ لينين. لكن تلك الدراسات لم تسفر عن اكتشاف اي شيء غير اعتيادي او متمايز فيه[77]. ما يمكن قوله هو ان التجارب الكثيرة لم تثبت اي علاقة ملحوظة بين حجم او بنية مخ الفرد الذي يقاس بعد موته ، وبين اي وجه من وجوه الاداء الفكري لصاحبه ، مما يقاس اثناء حياته. ثمة استثناءات تذكر في احوال خاص مثل تلف الدماغ بسبب المرض او انكماشه بسبب الخرف. لكن هذه الحالات لا تصلح أساسا لحكم علمي قابل للتطبيق في الحالات الاعتيادية. والثابت حتى الآن ان وزن الدماغ بوجه عام يرتبط بحجم الجسم ، بعد احتساب طول الفرد وعمره.[78]

لا بد من الاشارة ايضا الى ان كثيرا من الناس ، في مختلف المجتمعات يتقبلون ، دون تمحيص في الغالب ، فكرة العلاقة بين الشكل والتكوين المادي للجسد ، وبين القدرات العقلية والطبائع السلوكية. في أواخر القرن التاسع عشر ، وضع العالم الايطالي سيزار لمبروزو ما يمكن اعتباره الاساس العلمي الاول لعلم الجريمة. وهو ينطلق من فرضية ان للانسان المجرم تكوينا جسديا مختلفا ، يمكن تمييزه بمجرد النظر اليه. وذكر ملامح محددة للمجرم مثل كونه طويلا او قصيرا على نحو غير اعتيادي ، ان راسه صغير ووجهه كبير ، جبهة صغيرة بعظام عالية ، وجه عميق التجاويف ، جمجمة غير منتظمة النصفين ، اذنان بارزتان ، انف معقوف .. الخ.[79]

ويعتقد روز ان القبول الواسع الذي حظي به تصنيف لمبروزو  يرجع لانسجامه مع الاساطير المنتشرة في غالب المجتمعات ، والتي تقول بان المجرم يعبر عن حالة شاذة عن الطبيعة البشرية ، وهو شذوذ يظهر في شكله وتصرفاته المختلفة عن بقية الناس. ان انسجام استنتاجات لمبروزو مع توقعات الناس ، منحها فرصة للنفاذ الى الثقافة العامة والانتشار ، حتى انها كثيرا ما استعملت في الروايات لوصف الاشخاص الذي يريد الراوي تصويرهم كمجرمين ، كما فعلت اجاثا كر يستى مثلا في قصصها البوليسية[80].

ماذا تعني الحتمية البيولوجية بالنسبة لمبدأ المساواة

مؤيدو الحتمية البيولوجية لا يقولون أبدا انهم ضد المساواة. ولا يقولون أبدا ان المساواة فكرة سيئة. بل ربما أيد بعضهم مبدأ المساواة في معنى التكافؤ الحدي للفرص ، في مقابل الدعوة الى منح الشرائح الاجتماعية الضعيفة والأقليات ، فرصة أكبر للولوج الى المجالات التي كانوا محرومين منها ، او ان حرمانهم منها كان سببا في بقائهم على الهامش ، كما كان الحال في الولايات المتحدة الامريكية ، حيث حرم أعضاء الأقليات سيما الامريكان الافارقة والسكان الاصليون ، من الوصول الى الجامعات الرئيسية والكليات العسكرية ، او حصلوا على فرص أقل كثيرا من نظرائهم البيض ، حتى فرضت سياسة التمييز الايجابي ، التي تستهدف حث تلك المؤسسات ، على قبول نسبة محددة من المواطنين ذوي البشرة السوداء وبقية الأقليات. وكذا الحال في بريطانيا ، حين طلبت هيئة المساواة العرقية من الشرطة والقضاء وبعض الدوائر الاخرى ، الالتزام بزيادة تمثيل النساء واعضاء الأقليات العرقية في المناصب القيادية.

تتلخص دعوى الحتمية البيولوجية في ثلاث نقاط:

الاولى: ان وجوه اللامساواة في المجتمع ليست نتاجا لسياسات او مخططات مقصودة. بل هي انعكاس للفوارق الفطرية بين الأفراد ، في قدراتهم الذهنية او البدنية أو قابليتهم للتعلم. يوفر المجتمع لكافة اعضائه فرصا متماثلة للارتقاء والتقدم. لكن الذي سيحصل دائما هو ان بعضهم سيصل الى القمة ، بينما يتعثر آخرون في أول الطريق او في منتصفه. تعثر هؤلاء ونجاح أولئك ، قد يكون سببه عوائق خارجية. لكن أكثر العوامل تأثيرا هي العوامل الداخلية ، اي الفوارق في القابليات الفطرية ، مثل قوة الارادة والذكاء وسرعة التعلم.

الثانية: لا يولد الانسان بقابليات فطرية محايدة. ان حقيقتك لحظة الولادة مختزنة في الجينات التي ورثتها من أبويك.  ومن هنا فالفطرة الانسانية ليست مما يمكن تعديله او تغييره بواسطة الوسائل الخارجية ، مثل التعليم والبيئة الاجتماعية. انها منظومة ثابتة ونهائية. ولذا فان الجهود التي تبذلها الحكومات والمجتمعات لمعالجة ظاهرة التخلف والاخفاق المستشرية في مجموعات عرقية بعينها ، هذه الجهود عبث لا جدوى وراءه ، لأنك لا تستطيع تغيير الطبيعة ، ولا معاكسة قانونها.

الثالثة: الفوارق البيولوجية تؤدي – بالضرورة – الى تفاوت بين الناس في الكفاءات العملية ، ومن ثم في الاملاك والنفوذ والمكانة الاجتماعية. لم يعرف تاريخ البشرية في الماضي والحاضر مجتمعا بلا طبقات وشرائح متفاوتة. وهذا يمثل انعكاسا لطبيعة البشر وتكوينهم الذاتي. من هنا فان مساعي بعض الحكومات لردم الفجوة القائمة بين الطبقات الاجتماعية ، عمل عبثي ومتكلف وغير قابل للبقاء ، لأنه ضد الطبيعة البشرية.

يجزم ستيفن روز وزملاؤه بان الدفاع عن "الحتمية البيولوجية" مبعثه دوافع ايديولوجية وسياسية. وان غرضه هو وضع تبرير اخلاقي لواقع التمايز الطبقي القائم في المجتمع. هذا الدور يقتضي ان يكون التبرير مدعوما بأدلة علمية ، او انه – على اقل التقادير ، يبدو كذلك. لا تستطيع تبرير التفاوت الفادح بين الناس في المكانة والدخل والفرص المتاحة في المجال العام ، بالقول مثلا: انني ادعم هذا الوضع لأنه يصب في مصلحتي ، او لأنني أومن به. يقتضي الأمر التسلح بما يمكن اعتباره معيارا خارجيا محايدا ، قادرا على اقناع مختلف الأطراف ، سيما المتضررين ومن بيده سلطة اتخاذ القرار ، بالاستمرار او التغيير[81].

فحوى هذا التبرير ان مـا يـحـقـقـه المـرء مـن نجـاح أو إخفاق في حياته ، راجع الى قدراته وقابلياته الخاصة ، وليس النظام الاجتماعي. هذه القدرات والقابليات ترتبط بالشفرة الجينية التي ورثها من أبويه ، وستنتقل لاحقا الى ابنائه.  وفي نهاية المطاف ، فان الفوارق الطبقية في المجتمعات ، وتوزيع الثروة والمكانة ليست بسبب السياسات الرسمية ، وليست نتاج تواطؤ بين الأقوياء ضد الضعفاء. بل هي طبيعة الخلق والحياة كما ارادها الله ورسمها في الكون. ان طبيعة الحياة تتطلب ان يكون هناك طبقات متفاوتة ، وان على كل انسان ، في اي موقع ان يرضى بما قسم الله له.

مغالطات منطقية

لا يرفض علماء الاجتماع تأثير الوراثة بشكل مطلق. لكنهم يقولون انه غير حاكم ولا قسري. وهم يقارنون بين قابلية التوارث التي يقول بها اصحاب الحتمية البيولوجية ، وبين قابلية التحكم والتغيير ، التي نعرف انها صفة يحملها كل البشر العقلاء. ان قابلية انتقال سلوكيات معينة بالوراثة ، لا تعني بالضرورة ان الجيل التالي عاجز عن التحكم في الصفات المنتقلة. او لنقل – على سبيل التحفظ – انه لم يثبت أبدا ، لا عند الحتميين ولا غيرهم ، ان تلك السمات من نوع السمات التي يستحيل تغييرها أو التحكم فيها ، كما هو حال لون البشرة وشكل الوجه والسمات الاخرى المماثلة.

كشفت دراسات اجتماعية في اوائل العقد السابع من القرن العشرين ، ان انماط الحياة والعمل ، في بعض البيئات الاجتماعية ، كانت تتمدد عبر اجيال متوالية. ففي الولايات المتحدة مثلا ، اظهرت بحوث ميدانية ان ما يقرب من ثلثي  موظفي المكاتب ، او من يسمون بالياقات البيضاء ، عمل ابناؤهم في مهن مماثلة ، بينما عمل 62 بالمائة من ابناء العمال اليدويين (الياقات الزرقاء) في مهن شبيهة لمهن آبائهم.

هذه ظاهرة مشهودة في كافة بلاد العالم. فالعديد من الفلاحين كان اباؤهم فلاحين أيضا. والعديد من المشتغلين بالعلم ، انحدروا من عائلات علمية. والامر نفسه يقال عن العائلات التجارية والسياسية .. الخ. ومثل هذه الدراسات ربما تعزز دعوى القائلين بالوراثة. لكنها – في رأي علماء الاجتماع – لا تحمل اي دلالة من هذا النوع. ان مواصلة البحث الى ما وراء القشرة الظاهرية للمجتمع ، تكشف عن عوامل أخرى أقدر على تفسير هذه الظاهرة. من ذلك مثلا ان أبناء الفلاحين يعملون في الزراعة ، لانهم يرثون الأرض ، ولأنهم تعلموا هذه الحرفة منذ الصغر. كما أن الأرياف تفتقر في العادة الى فرص العمل المتنوعة التي في المدن. ولذا فمن الطبيعي ان يتجه غالبية الريفيين الى المهن المتوفرة أمامهم.

وبالنسبة للمجتمعات العمالية ، فقد لوحظ ان المدارس والمرافق التعليمية القائمة في هذه المجتمعات ، أدنى مستوى من تلك القائمة في الأحياء التي تسكنها العائلات الثرية. ولأن العائلات هناك فقيرة في الغالب ، فان الابناء مضطرون للانضمام الى سوق العمل في سن مبكرة ، كي يساعدوا أهليهم. بينما يستطيع أبناء العائلات الثرية ، مواصلة التعليم حتى مستويات متقدمة ، لأن عائلاتهم قادرة على دعمهم ماليا حتى النهاية.

ثمة عامل آخر يتعلق بالتركيب الاجتماعي للادارات الوسطى والعليا في الدوائر الحكومية والشركات. حيث تلعب العلاقات الاجتماعية والتعارف المسبق ، وشراكات المصالح في بعض الاحيان ، دورا مؤثرا في اختيار شخص معين لوظيفة معينة. ثمة وظائف (كثيرة جدا في واقع الامر) لم يتعين شاغلوها بناء على كفاءتهم مقارنة بغيرهم من المتقدمين ، بل – ببساطة – لانهم معروفون لدى صاحب القرار.

نعرف ان هذه حقائق. لأن عددا ملحوظا من النساء ، والمهاجرين ، والسود ، والمتحدرين من عائلات فقيرة  ، استطاعوا ان يصعدوا في سلالم الادارة والتجارة والعلم وغيرها ، حين حصلوا على ذات الفرص التي حصل عليها "المحظوظون"[82]. وهو ما يؤكد أهمية السياسات الرسمية ، التي تلزم مختلف المعنيين باعتماد معيار الكفاءة الشخصية ، كأساس لاختيار الموظفين.

هذه الحقيقة اظهر ما تكون في تقييم قدرات النساء. الاعتقاد السائد في الاتجاهات التقليدية يذهب الى ان القدرات الذهنية للنساء أقل من الرجال. وهم يستدلون على هذا بنصوص في القرآن والسنة ، وبواقع الحال في المجتمعات المسلمة ، بل في كافة مجتمعات العالم ، حيث يلعب الرجال دورا في الحياة العامة يتجاوز دور النساء. وهذا لا يستثني المجتمعات التي تعترف بحقوق متساوية للجنسين. ولعل افلاطون الفيلسوف اليوناني هو اول من وثق هذه الرؤية:

هل تعرف مهنة بشرية لا يتفوق الرجال في كل مظاهرها على النساء؟. دعنا لا نضيع وقتنا بالتحدث عن النسيج وصناعة الفطائر والاطعمة. ليس في ادارة الدولة عمل يختص به النساء من حيث هن نساء ، ولا الرجال وحدهم من حيث هم رجال. لكن الملكات منقسمة بين الجنسين ، فالمرأة قادرة بطبيعتها على كل الوظائف وكذلك الرجل. لكن المرأة أدنى قدرة من الرجل في كل شيء.[83]

ان نظرة الى عالم اليوم ، تكشف لنا المدى البعيد الذي وصلت اليه المرأة في مجالات القيادة السياسية والادارة الاقتصادية والتجارية ، والعلوم والفنون ، وغير ذلك من مجالات الحياة. صحيح ان نسبة النساء الى الرجال لا تزال أدنى. لكن العدد الكبير جدا من الأمثلة ، وتكرارها على مدى زمني طويل نسبيا ، وفي مختلف جوانب الحياة والبلدان ، تكفي لاثبات ان ذلك القول لا يصلح كقاعدة او اخبار عن الحقيقة. 

زبدة القول ان القول بالحتمية البيولوجية ، ينتهي في آخر المطاف ، الى تبرير التمايز بين الناس واستنقاص بعضهم في حقوقه او قيمته. وهذا ، فوق كونه باطلا بذاته ، يزيف الواقع ويجعلنا نرى التصوير الايديولوجي للواقع ، بدل ان نرى الواقع ذاته. كما يؤدي الى الخلط بين الصحيح (ما يجب ان يكون) والواقعي (ما هو كائن فعلا او تصورا)، ونعلم ان  هذا الخلط يؤدي بالانسان الى اصدار احكام اساسها باطل.


  

جدل المساواة في العصور الحديثة

من القانون الطبيعي الى الحقوق الطبيعية

شهد القرن السابع عشر نقلة كبرى في النقاش الفلسفي حول السياسة والسلطة. ربما نذكر مثلا ان كتاب "لفياثان" للمفكر الانجليزي توماس هوبز (1588-1679) قد صدر في 1651 ، وشكل علامة فارقة في تاريخ الفلسفة السياسية الحديثة. ويعتقد على نطاق واسع ، ان النقاشات التي عرضها الكتاب ، تشكل نقطة البداية لبروز نظرية العقد الاجتماعي.

انطلق هوبز من الرؤية القديمة حول قانون الطبيعة ، لكنه حول مسار النقاش الى وجهة جديدة ، هي حقوق الافراد المنبثقة من ذلك القانون. ان معظم الجدالات الراهنة حول حقيقة المساواة ، تنطلق من المسلمات التي قامت في هذا الاطار. قبل "اللفياثان" كانت الاتجاه العام يميل للتسليم بفكرة ان البشر متمايزون بطبيعتهم ، هكذا خلقهم الله وهكذا يعيشون. لكن هذه الفكرة تعرضت لتحد جدي في سياق تمرد المثقفين على الفلسفة القديمة ، الدينية واليونانية.

رغم ان الرؤية الجديدة انطلقت – مثل نظيرتها القديمة - من مقولات القانون الطبيعي ، الا انها اتخذت مسارا وتفسيرا مختلفا ، مضمونه ان الناس جميعا يولدون متساوين من حيث المؤهلات والقيمة ، لأنه لا يمكن لظاهرة طبيعية واحدة – مثل ولادة البشر – ان تؤدي الى نتائج مختلفة ، تماما كما يحدث في اي ظاهرة طبيعية اخرى. وجرى تفسير التفاوت بين الناس بما يواجه الانسان في حياته الفعلية ، اي ما ينعكس عليه من تأثيرات التربية او الثقافة العامة أو  النظام الاجتماعي او الاقتصاد. يرث الولد من ابويه الصفات البيولوجية المرتبطة بالجسد. أما الصفات الروحية والذهنية ، وكذلك المكانة والمؤهلات ، فهي جميعا مكتسبة. ان السمات البيولوجية تترك علامات جسدية ، لكنها لا تؤثر على الذهن او القابليات العقلية ، كما لا تؤثر على الصفات النفسية او الاخلاق.

ترتب على الرؤية الجديدة تحول في اتجاه التنظير المنطلق من مباديء القانون الطبيعي. فبدلا من اعتبار النخبة السياسية والدينية مركز العقلانية الاجتماعية ، تصاعد الميل الى اعتبار المجتمع ككل مركزا للعقلانية الجمعية ، وان هذا العقل الجمعي قادر على اكتشاف الخطأ والصواب ، وتشخيص ما يعتبر مصلحة عامة. ونتيجة لهذا التحول ، اتجه النقاش صوب التحقق مما يوجبه القانون الطبيعي من حقوق للفرد على الجماعة وللمجتمع على الحكومة ، بعدما كان يدور في الاتجاه العكسي.   

بعبارة اخرى ، فقد دارت النقاشات الأقدم ، حول ما يجب على الفرد للمجتمع والحكومة استنادا الى القانون الطبيعي. اما الان فان اتجاه النقاش ينحو صوب التأكيد على حقوق الافراد على المجتمع والحكومة ، استنادا الى نفس القانون. وجرى في هذا السياق التأكيد على أصول الاشياء. قيل مثلا: طالما كان الناس يولدون على نحو واحد ، فالاصل انهم متساوون. وجرى التركيز على العنصر الجوهري في الانسان ، أي العقل. وبناء عليه حصل ما يشبه الاجماع على مبدأ فحواه ، انه طالما كان العقل هبة الله لجميع البشر ، فالأصل ان جميع البشر عقلاء متكافئون في القابليات الذهنية. ولهذا فانهم يملكون ذات الحقوق التي قررتها الطبيعة للجميع ، وهم يتحملون نفس الواجبات.

رغم ان طروحات هوبز الاساسية لم تلق الترحيب المناسب في وقتها ، الا ان باحثين مثل روبرت كريناك يرجعون معظم الفضل في تطوير هذه المقاربة الى أعماله. عارض هوبز فلسفة ارسطو ، التي تصور المجتمع ككيان عضوي تغيب فيه كينونة الفرد المستقلة ، ويتحرك مجموعه ككتلة واحدة نحو الغايات الكبرى كالسعادة والكمال. وقال ان التجاذب بين محركات الالم ومحركات اللذة ، هي الحياة اليومية للانسان الفرد. تفكير الانسان في نفسه ومستقبله ، خاضع تماما لتطلعه الدائم نحو اكتساب السلطة والقوة من جانب ، وخوفه من الفناء من جانب آخر.

ولأن المحرك الثاني (خوف الفناء) هو العامل الأكثر تأثيرا ، فان عقلانية الانسان قادته للاقتناع بجعل "الحق في الحياة الآمنة" الموضوع الأكثر أهمية في علاقته مع محيطه البشري والطبيعي. وفي هذا السياق قرر هوبز ان الفضيلة الكبرى للقانون الطبيعي ، ليست مساعدة الانسان في انقاذ روحه (كما في العقيدة الكاثوليكية) او بلوغ الكمال (كما في فلسفة ارسطو). الصحيح ان هذا القانون سيكون علاجا لعلل الحضارة ، اذا اعيد تعريفه كاساس للمساواة الطبيعية بين جميع البشر ، وكاساس لنظام علاقات اجتماعية يضمن حياة الانسان وكرامته.

 فحوى كلام هوبز هذا ، ان جذر العدالة "ليس الواجب بل الحق .. الحق الاصلي الذي لا يحتمل الشك في صون الذات". ويعزز هوبز هذا النقاش باستعراض الفارق بين مفهوم الحق ، الذي يعني كون صاحبه مختارا ، وبين القانون الذي يحدد التكليف فحسب[84]. مجادلة هوبز هذه ساهمت في إيجاد حقل جديد للنقاش في الفلسفة السياسية ، عنوانه "الحقوق الطبيعية" ، وأبرزها كون الناس جميعا متساوين امام القانون ، وانهم يتمتعون بنفس الحقوق القائمة على ارضية القانون الطبيعي. 

خلال النقاشات اللاحقة في آراء هوبز ، جرى تطوير مفهومه لمجتمع الحالة الطبيعية ، ولا سيما في اتجاه التأكيد على ان قيام المجتمع المدني استدعى تنازل الانسان عن بعض الحقوق ، التي كان يتمتع بها قبل انضمامه الى الجماعة ، لكنه احتفظ بحقوق اخرى ، وهي مصونة على أرضية القانون الطبيعي.

كان المفكر الانجليزي جون لوك من أكثر الذين الحوا على هذه الفكرة. حيث رأى ان ما وصفه بالحقوق الطبيعية ، وابرزها الحرية والمساواة والملكية الخاصة ، هي ابرز ما حصل عليه البشر بموجب القانون الطبيعي. وان التزام الافراد بهذا القانون هو ما يلقي على الانسان صفة الكائن الاخلاقي. لأنه سيحكم عقله ، وسيلتزم باحترام حياته وحقوقه وحياة الاخرين وحقوقهم. وقرر في هذا السياق ان شرعية السلطة في المجتمع المديني ، مشروطة باحترامها للحقوق الطبيعية الأساسية للشعب. بعبارة أخرى فان القانون الطبيعي الذي كان ينظر اليه كاطار للتكاليف والالزامات ، بات مصدرا للحقوق الاساسية في مجتمع تعاقدي[85].

ومن المرجح ان نضج المفهوم القائل باولوية الحقوق في نقاشات الفلسفة السياسية الحديثة ، قد تأثر بعمق باتجاه ظهر في اجواء الثورتين الامريكية والفرنسية ، يستهدف عقلنة التعاليم المسيحية المتعلقة بالطاعة المطلقة للسلطة وحقوق العامة. في هذا الاطار جرى التركيز خصوصا ، على فكرة ان نعمة الله لم تقتصر على انشاء قانون كوني ينظم حركة الافلاك وظواهر الطبيعة ، بل انزل قوانين منسجمة معها تحكم العلاقات الانسانية ، ومكن الانسان من اكتشاف هذه القوانين بعقله. ثمة متطلبات لا غنى عنها للحياة الانسانية التي يرضاها الخالق ، تعتبر جزء من النظام الكوني الذي يجب الالتزام به لانتظام الحياة. وفي هذا الاطار طالب الاعلان الامريكي للاستقلال بحقوق غير قابلة للتحويل ، منحها الله للانسان كي ينال سعادته وحريته ويضمن سلامته في الحياة. ثم جرى تطوير هذا المبدأ في الاعلان الفرنسي لحقوق الانسان[86].

 كان تضمين الحقوق الطبيعية في الدستور الأمريكي ، حدثا استثنائيا في تاريخ الفكر السياسي الجديد. فقد اصبحت تلك الشريحة من حقوق الانسان الاساسية ، ولا سيما المساواة ، مضمونة بالقانون. كما اصبح بوسع القضاة ان يتخذوها اساسا للحكم ، مثلها مثل القانون الوضعي. في الحقيقة فان تضمين الحقوق الطبيعية في الدستور ، جعلها معيارا حاكما على التشريعات والقوانين الأدنى مرتبة[87].

  زبدة القول ان التحولات الثقافية والسياسية العميقة التي شهدها العالم خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر ، وتعمقت خلال القرن التاسع عشر ، أنهت الى حد بعيد التصورات القديمة حول قيمة الانسان ، ولا سيما تلك التي قررت ان التفاوت بين البشر أمر طبيعي ، حيث تتحدد قيمة كل فرد ومؤهلاته ، وبالتالي موقعه الاجتماعي ، في لحظة ولادته. وحلت محلها الرؤية التي نعرفها اليوم ، والتي تقول ان الناس يولدون متساوين ، وأن التمايز بينهم يحدث لاحقا ، كانعكاس للتربية او المؤهلات التي يكتسبونها او التنظيم الاجتماعي الذي يعيشون في إطاره ، أو سوى ذلك من العوامل غير الطبيعية.

صحيح انه لازال هناك من يتبنى الفكرة القديمة. لكن دائرة القبول بها تضيق باستمرار ، كما انها لم تعد مقبولة كاساس للقانون او العمل السياسي في اي مجتمع.


 


[1] امارتيا سن:  فكرة العدالة ، ترجمة مازن جندلي ، الدار العربية للعلوم ، (بيروت 2010) ، 415

[2] ديفيد ميلر: "المساواة والعدالة" ، ترجمة توفيق السيف ، حكمة (29-اكتوبر-2019) https://tinyurl.com/aexy5bkw

[3] كارل بوبر: المجتمع المفتوح واعداؤه ، ترجمة السيد نفادي ، دار التنوير (بيروت 1998) ، ص 94

[4] ايزايا برلين: "المساواة اشكالات المفهوم واحتمالاته" ترجمة توفيق السيف ، حكمة  (21-فبراير-2020) https://tinyurl.com/4fwmtuyb

[5] ايزايا برلين:  المصدر السابق

[6] ايزايا برلين: المصدر السابق

[7] انظر بهذا الصدد دينيس لويد: فكرة القانون ، ترجمة سليم الصويص ، عالم المعرفة (الكويت 1981) ص 68

[8] للاطلاع على نقاط الاختلاف حول المساواة ، انظر

Adam Swift, Political Philosophy: A Beginners’ Guide for Students and Politicians, 3rd edition, Polity (Cambridge, UK. 2014), p. 152

انظر ايضا ديفيد ميلر: "النسوية والأقليات الثقافية" ترجمة: توفيق السيف ، حكمة  (23-اغسطس-2021) https://tinyurl.com/3vc5whwp

[9] للمزيد حول "تعارض العقل والنقل/النص" انظر يحي محمد: العقل والاجتهاد ، موقع "فهم الدين". (اطلعت عليه في 23-اكتوبر-2021). https://www.fahmaldin.net/index.php?id=2096

[10] Peter Westen, Speaking of Equality: An Analysis of the Rhetorical Force of `Equality' in Moral and Legal Discourse, Princeton University Press, (New Jersey 1990)

[11] John E. Coons & Patrick M. Brennan: By Nature Equal: The Anatomy of a Western Insight, Princeton University Press.(Princeton, NJ. 1999)

[12] Peter Westen, Op. Cit p. 266.

[13] برنارد وليامز: "فكرة المساواة" ، ترجمة توفيق السيف قلم (مدونة شخصية 27-ابريل-2019) https://talsaif.blogspot.com/2019/04/blog-post_27.html

[14] اياد دويكات: الوطن قبل المواطنة ، مغرس (01-04-2010) https://www.maghress.com/essanad/2449

[15] Peter Westen, op. cit., p. 12

[16] Coons & Brennan, p. 231

[17]  ذكره برنارد وليامز: فكرة المساواة، مصدر سابق

[18] جان جاك روسو: خطاب في أصل التفاوت وفي اسسه بين البشر، ترجمة بولس غانم ، المنظمة العربية للترجمة ، بيروت 2009 ص 83-84 https://bit.ly/2NCQeX4

[19] انظر خصوصا مجادلة البروفسور ادوارد ويلسون في هذا الصدد:

Edward O. Wilson, Sociobiology: The New Synthesis, Harvard University Press (Massachusetts 1975), p. 271

[20] John Wilson, Equality in Action,  The Smith Institute (London 2000) pp. 28-9

[21] John Wilson, Equality, Harcourt, Brace & World, (New York 1966), p. 104

[22] دينيس لويد: فكرة القانون ، مصدر سابق ، ص 66

[23] عاصم ادريسي: "من التفاوت الطبيعي الى فكرة المساواة" ، موقع مؤمنون بلا حدود (اطلعت عليه في 10-يناير-2021) https://www.mominoun.com/pdf1/2016-06/tafawot.pdf 

[24] زكي نجيب محمود وأحمد أمين:  قصة الفلسفة اليونانية ، مؤسسة هنداوي ، (وندسور- بريطانيا 2018) ص 177. ن. إ: https://www.hindawi.org/books/84858281/

[25] دينيس لويد: فكرة القانون مصدر سابق ، ص 67

[26] دينيس لويد: مصدر سابق ، ص 68

[27] عامر الوائلي ، هادي الكعبي ، ومصطفى الخفاجي: "القانون الطبيعي" ، مجلة آداب الكوفة (جامعة الكوفة) العدد 16 ، السنة 1 (2013) ص ص 129-152 ، ص 135.    https://journals.uokufa.edu.iq/index.php/kufa_arts/article/view/376/pdf_185

[28] ارسطوطاليس: علم الأخلاق إلى نيقوماخوس ، ترجمة احمد لطفي السيد ، دار الكتب المصرية (القاهرة 1924)  ج2 ك 5 ب3 ، ص 69

[29] جمهورية أفلاطون، الكتاب الرابع ، دراسة وترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء للطباعة والنشر (الإسكندرية 2004) فقرة 415 ، ص 284

[30] جمهورية أفلاطون، المصدر السابق فقرة 434 ص 306

[31] ارسطو: كتاب السياسة ، الباب الأول ، ك 2 ، ص 101

[32] العهد الجديد ، رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية ، الأصحاح الثالث. ن. إ. موقع الكتاب المقدس (اطلعت عليه في 26-2-2021) https://www.enjeel.com/bible.php?ch=3&op=read&bk=48

[33] Raymond G Gettell, History of Political Thought, (New York, 1924) Century, p. 90

[34] Raymond G Gettell, ibid., p. 87

[35] ديفيد جونستون: مختصر تاريخ العدالة ، ترجمة مصطفى ناصر ، عالم المعرفة ـ (الكويت 2012)، ، ص 126

[36] Nicholas Capaldi: The Meaning of Equality  http://media.hoover.org/sites/default/files/documents/0817928626_1.pdf

[37] Nicholas Capaldi: ibid

[38] رواه ابن ماجة وصنفه الالباني بين الاحاديث الصحيحة. انظر  محمد بن يزيد القزويني: سنن ابن ماجة (مع تعليقات ناصر الدين الالباني)، كتاب الزهد ، باب مجالسة الفقراء ، حديث 4127 ، ص 687.  مكتبة المعارف (الرياض 1417) https://meshhoor.com/download/books/ibnmajah.pdf

وشكك الطباطبائي في الربط بين الرواية والآية قائلا ان المروي ان سورة الانعام نزلت دفعة واحدة ، فلا يصح اعتبار الحادثة المذكورة سببا لنزول جزء من السورة. راجع محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن ، تفسير سورة الانعام ، ج 7 ص 109

[39] انظر مناقشة د. محسن كديور لفكرة تطور الاحكام في محسن كديور: "مراجعة لحقوق النساء في الاسلام: من العدالة النسبية الى المساواة" ترجمة توفيق السيف قلم (مدونة شخصية 11-ديسمبر-2018) https://talsaif.blogspot.com/2018/12/blog-post_47.html

[40] صدر المتألهين محمد بن ابراهيم الشيرازي: تفسير القرآن الكريم (قم 1366 هـ.ش.) 2/299 ورأي الشيرازي هذا لا يتوافق في رؤيته للمرأة ، الذي سنذكره لاحقا.

 أيضا راشد الغنوشي: الحريات العامة في الدولة الاسلامية ، مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت 1993) ص. 52

[41] انظر تفاصيل هذه القضية في صحيفة "اخبار 24" (02-مارس-2018) https://bit.ly/3kwyBom

[42]  فاطمة آل دبيس: "16 طلب فسخ نكاح لعدم تكافؤ النسب خلال عشرة أشهر" ، الشرق (17 سبتمبر 2013) http://bit.ly/3r7eiAm

لشرح موجز عن وجوه الاختلاف بين الفقهاء في تحديد موضوع التكافؤ بين الزوجين ، انظر الشيخ حسن الصفار: "الكفاءة في الزواج" (28-يونيو-2001) https://www.saffar.org/?act=artc&id=950

وللتوسع في المقارنة بين آراء الفقهاء ، انظر نورة الرشود: "الخلاف الفقهي في کفاءة النسب وموقف نظام المرافعات الشرعية" مجلة الدراسات الإسلامية والبحوث الأکاديمية ، مجلد 11، عدد 75، ديسمبر 2016، ص.ص. 103-196 https://mdak.journals.ekb.eg/article_156918.html

[43] فاطمة السلمي: "أبرز قضايا عدم تكافؤ النسب في المحاكم السعودية" ، موقع الامل (19 مارس 2017) http://alamalnews.org/?p=619

[44] محمد حسين الطباطبائي: الميزان ، مصدر سابق، 4/35 http://ar.lib.eshia.ir/12016/4/135

[45] صدر الدين الشيرازي: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ، ط4 ، دار احياء التراث العربي (بيروت 1990). 7/136

[46] حول حياة الرازي واعماله ، انظر سيرته في ويكيبديا. اطلعت عليها في 10 اغسطس 2018. https://goo.gl/rs3jLh

[47] محمد بن عمر الرازي: تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب ، دار الفكر (بيروت 1981) 25/111

[48] ابراهيم المطرودي: "المرأة بين يدي الرازي وابن حجر والمناوي" ، الرياض العدد 16354 (3 ابريل 2013م) http://www.alriyadh.com/822837

[49] محسن الكاشاني: المحجة البيضاء في تهذيب الاحياء. صححه علي اكبر الغفاري ، دار التعارف للمطبوعات (بيروت 1983) 3/93  https://ia800406.us.archive.org/8/items/23894378933/almuhja-albyda3.pdf

وذكر الفتني هذه الرواية بصيغ مختلفة ، ضعفها جميعا. محمد طاهر الفتني: تذكرة الموضوعات ، إدارة الطباعة المنيرية (القاهرة 1343 ه) ص 127 https://goo.gl/ESQfrM

[50] أحمد بن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ، تحقيق : محمد حامد الفقي ، ط 2 مطبعة السنة المحمدية – (القاهرة 1369)  ص 148. http://islamport.com/w/tym/Web/3202/149.htm

[51] بكر ابو زيد: صفة جزيرة العرب ، ط3 ، مطابع اضواء البيان (الرياض 1421ه) ص 92 https://ia800202.us.archive.org/3/items/jseraarb/jzeaarb.pdf

[52] عبد الرحمن بن الجوزي: الموضوعات ، تحقيق عبد الرحمن عثمان. المكتبة السلفية (المدينة 1966) 2/232-235 https://ia801303.us.archive.org/26/items/FP15210/02_15211.pdf

[53] محمد بن يعقوب الكليني: الكافي ، منشورات الفجر ، (بيروت 2007) 5/212 http://alfeker.net/library.php?id=1443

[54] محمد باقر المجلسي: مرآة العقول ، تصحيح محمد علي الاخوندي، دار الكتب الاسلامية (طهران 1408)  20/56 https://ia800408.us.archive.org/1/items/2347847389333/miraat20.pdf

[55] مونتسكيو: روح الشرائع ، ترجمة عادل زعيتر ، كلمات عربية للترجمة والنشر (القاهرة 2012) ، 1/589

[56] علي بن الحسين المسعودي: التنبيه والاشراف ، مراجعة عبد الله الصاوي ، مكتبة الشرق الاسلامية (القاهرة 1938) ص 22 https://ia601805.us.archive.org/21/items/al-tanbih_walichraf/al-tanbih_walichraf.pdf

[57]  هذا الراي مشهور بين فقهاء السنة والشيعة على السواء. انظر مثلا محمد تقي الخوئي: المباني في شرح العروة الوثقى ، كتاب النكاح ، تقرير بحث السيد ابو القاسم الخوئي ، مؤسسة الخوئي الاسلامية 2009، ج 33/ ص 92 -93   https://www.al-khoei.us/books/pdf/Mowsoah33.pdf

[58] عبد العزيز بن البراج الطرابلسي: المهذب ، مؤسسة النشر الإسلامي (قم 1406 هـ) 2/218  http://lib.eshia.ir/10052/2/218

[59] الميرزا على التبريزي الغروي: التنقيح في شرح العروة الوثقى ، تقرير بحث السيد ابو القاسم الخوئي ، كتاب الطهارة ، ط 3 ، دار الهادي (قم 1410 ه) ج 2 ص ٧١. ن.إ: http://ar.lib.eshia.ir/10134/2/71

[60] محمد تقي فلسفي: الطفل بين الوراثة والتربية ، ترجمة فاضل الحسيني الميلاني ، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات (بيروت 2002) 1/56

[61] لعل أبرز المبادرات الدولية لابطال الرق هو اصدار "الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق وتجارة الرقيق والأعراف والممارسات الشبيهة بالرق" التي صدرت في إطار "الامم المتحدة" في 30 أبريل 1957. انظر نصها على موقع جامعة مينيسوتا http://hrlibrary.umn.edu/arab/b030.html.

حول تحرير العبيد في السعودية ، انظر محمود صباغ: "خمسون عاماً على إبطال الرقيق: قصة تجارة العبيد في الحجاز 1855 -1962م. مدونة شخصية 07-سبتمبر-2012    https://mahsabbagh.net/2012/09/07/slavery-in-hejaz/

وحول الوضع المماثل في مصر ، انظر  محمود الدسوقي: "في اليوم العالمي لتحرير الرق.. تعرف كيف انتهت أسواق الجواري في مصر" بوابة الاهرام(03-ديسمبر-2019) https://gate.ahram.org.eg/News/2333130.aspx

وحول تجارة العبيد في الشرق الاوسط ، انظر عبد الجبار السامرائي: "تصدير الرقيق الى الخليج والجزيرة العربية" ، مجلة الواحة ، العدد 49 (21-مايو-2008) https://www.alwahamag.com/?act=artc&id=348

 [62] ارسطو : كتاب السياسة ، ترجمة احمد لطفي السيد ، الدار القومية للطباعة – (القاهرة). الكتاب الاول ، الباب الاول. ص. 94 http://ia601703.us.archive.org/17/items/alseyasa-arsto/alseyasa-arsto.pdf

[63] فرانز ليوبولد نويمان: البهيموت: بنية الاشتراكية القومية (النازية) وممارستها 1944- 1933 ، ترجمة: حسني زينه ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (بيروت 2017)

[64] Mark A. Rothstein: ‘Legal Conceptions of Equality in the Genomic Age’, (2011) (accessed 17-Sept. 2018). https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3111066/

[65] J. R. Pole: The Pursuit of Equality in American History, University of California Press, (Berkeley 1979) p. 232.

[66] ريتشارد لوينتون: البيولوجيا حين تكون أيديولوجيا ، ترجمة أسامة خالد  ، القسم الاول. (مدونة شخصية اطلعت عليها في 15 سبتمبر 2018) https://osamakhalid.com/translations/biology-as-ideology/1.html

[67] Gregory Claeys: ‘The "Survival of the Fittest" and the Origins of Social Darwinism’, Journal of the History of Ideas, Vol. 61, No. 2 (Apr., 2000), pp. 223-240  http://www.jstor.org/stable/3654026  (Accessed 30-Oct-2021).

[68] لتفاصيل اوفى ، راجع مكرم شكارة: علم الوراثة ، ط5 ، دار المسيرة (عمان 2012) الفصل الاول.

ولاحظ باحثون ان كلا من مندل وداروين أعلنا عن نظريتيهما في وقت متقارب ، لكن لا يظهر ان داروين قد اطلع على اعمال مندل ، التي تؤكد تجريبيا  بعض استنتاجاته. انظر مثلا

Peter J. Vorzimmer: ‘Darwin and Mendel: The Historical Connection’, Isis (The University of Chicago Press on behalf of The History of Science Society), Vol. 59, No. 1 (Spring, 1968), pp. 77-82. (Accessed 30-Oct.-2021) http://www.jstor.org/stable/227854

[69] ريتشارد لوينتون: البيولوجيا حين تكون ايديولوجيا ، مصدر سابق

[70] Edward O. Wilson, Sociobiology: The New Synthesis, Harvard University Press (Massachusetts 1975)

[71] ورد في روث والاس واليسون وولف: النظرية المعاصرة في علم الإجتماع: تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية ، ترجمة محمد الحوراني ، دار مجدلاوى للنشر (عمان 2010) ص 627

[72] John Alcock, The Triumph of Sociobiology, Oxford University Press.(New York. 2003), p. 18

 [73] Edward O. Wilson, op.cit., p. 271

[74] Edward O. Wilson, ibid., p. 271

[75] Edward O. Wilson, ibid., p. 273

[76] ستيفن روز واخرون: علم الاحياء والايديولوجيا والطبيعة البشرية ، ترجمه مصطفى فهمي ، عالم  المعرفة (الكويت 1990) ص 70

[77] In this regard, See Ross Wolfe, Moscow Brain Institute, The Charnel House (personal blog, May 2016) https://thecharnelhouse.org/tag/moscow-brain-institute/

[78] ستيفن روز: المصدر السابق ، ص 70

[79] لبعض المعلومات عن لمبروزو واعماله، انظر : "نظرية لومبروزو  Lombroso's theory " الموسوعة السياسية (اطلعت عليها 30-اكتوبر-2021) https://tinyurl.com/3wpx79uk

[80] ستيفن روز ، المصدر السابق ، ص 71

[81] ستيفن روز: المصدر السابق ، ص 84

[82] اظهرت دراسة اجراها فريق من ثلاث جامعات امريكية ، على البيانات الاحصائية بين 2005-2010 ان المهاجرين الى الولايات المتحدة ، اقاموا شركات وخلقوا وظائف ، أكثر من نظرائهم المولودين فيها. وتؤكد مستخلصات هذه الدراسة ، ان الهجرة تمثل فرصة في حقيقة الأمر وليس عبئا ، كما يروج اليمين المحافظ. انظر:

‘Immigrants to the U.S. Create More Jobs than They Take’, Based on the research of: Pierre Azoulay, Benjamin F. Jones, J. Daniel Kim, and Javier Miranda, Kellogg Insight, (5-Oct-2020) https://insight.kellogg.northwestern.edu/article/immigrants-to-the-u-s-create-more-jobs-than-they-take

[83] جمهورية افلاطون ، ص 330. للمزيد حول موقف افلاطون وارسطو من المرأة وحقوقها ، انظر سوزان موللر اوكين: النساء في الفكر السياسي الغربي. ترجمة امام عبد الفتاح امام ، دار التنوير (بيروت 2009) الفصول الاول حتى الرابع.

[84] Robert P. Kraynak:’Thomas Hobbes: From Classical Natural Law to Modern Natural Rights’, Natural Law, Natural Rights, and American Constitutionalism, 2011, http://www.nlnrac.org/earlymodern/hobbes

[85] دينيس لويد: فكرة القانون ، مصدر سابق 78

[86] ستيفن تانسي ونايجل جاكسون: اساسيات علم السياسة ، ترجمة محي الدين حميدي ، دار الفرقد (دمشق 2017) ص. 98

[87] دينيس لويد : فكرة القانون ، مصدر سابق 79

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...