‏إظهار الرسائل ذات التسميات المعاصرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات المعاصرة. إظهار كافة الرسائل

12/05/2021

من الراي الواحد الى التعددية الدينية

 

حديث صاحب السمو ولي العهد في منتصف رمضان ، حول الاعتدال والاجتهاد المستمر والمتجدد ، لفت أنظار المهتمين ، حتى أن بعضهم عده "غير مسبوق".

نعلم ان هذه الأقوال او نظائرها ، قد تكررت على ألسنة كبار المسؤولين في السنوات الماضية. لكن الصراحة تقتضي القول بانها اعتبرت يومذاك نوعا من الديباجات الرسمية ، التي تقال في سياق اعتذاري او دفاعي ، ردا على النقد الذي وجه للايديولوجيا الرسمية في الاعلام الخارجي. كان الكلام المتعارف فيما سبق ، يصر على ان المنهج الديني الرسمي ، مثال على الوسطية والاعتدال ، وكان الجميع يرى في الواقع شيئا آخر.

هذا احد الأسباب المهمة التي جعلت حديث ولي العهد ، ملفتا جدا للمهتمين بالمسار الثقافي/الديني ، فقد رأوه مختلفا عما قيل في الماضي. فهو لم يأت في سياق تبريري ولا دفاعي ، ولم يكن معنيا بالرد على نقد خارجي ، بل كان ببساطة يتحدث عن نهج جديد يراه بديلا اصلح لحاضر البلد ومستقبلها.

اننا نفهم هذا الحديث في اطار سياق عام ، هو مجموع السياسات التي تبنتها الحكومة خلال السنوات الأربع الأخيرة. وهو سياق يؤكد ان ولي العهد يطرح "خطابا جديدا" وليس مجرد نسخة جديدة من الديباجة القديمة. 

ولهذه المناسبة ، يهمني الإشارة الى ان نجاح "الخطاب الجديد" رهن بترسيخ النسق الذي يخدمه. النسق المنسجم مع مباديء الحداثة وحاجات الدولة الحديثة.

وأذكر في هذا الصدد عنصرين ، لهما صلة قوية بمفهومي الاعتدال والعقلانية اللذين طرحهما الأمير محمد ، وهما مبدأ التنوع الثقافي والديني ، ومحورية العلم الحديث في التوجيه العام.

فقد أشار ولي العهد الى انه لم يعد مناسبا ان يتكل المجتمع والدولة على آراء لشخص واحد في كل قضية. لو اردنا ترجمة هذا الكلام ، فان مقصوده ليس التوسع من مذهب واحد الى أربعة او خمسة أو اكثر او اقل ، بل الانفتاح على الرأي العلمي بكل أشكاله ومصادره.

سوف نواجه هنا إشكالية معروفة ، خلاصتها ان الفقهاء التقليديين قد تعارفوا على تقديم النص على أي دليل علمي حديث (انظر مثلا قضية رصد الهلال) وتقديمه على أي مصلحة عقلائية ظاهرة ، اذا كان مفاد هذه او ذاك مخالفا لما يفهمونه من النص.

وقد ابتكروا نظرية تقول بان النقل مقدم على العقل مطلقا. وهي تتداول فيما بينهم ، كما لو كانت آية من كتاب الله او بديهية من البديهيات ، مع انها مجرد رأي اجتهادي ، قاله أحدهم ورضي به الباقون.

ان الايات الدالة على مصدرية النقل ، لا تشكل ردا على هذا ، لأنهم في الحقيقة لا يستدلون بالآية او الحديث ، بل بفهمهم لمضمونه ومراده. ومع علمنا بان فهم الشخص لأي نص ، يتأثر بالضرورة ، بخلفيته وافقه التاريخي ، فان هذا الفهم لا يمكن اعتباره ذات المعنى المنطوي في النص ، بل أحد المعاني المحتملة. ولهذا لا مبرر لتقديم الاجتهاد التقليدي على غيره ، ولا مبرر لرفض الدليل العلمي بحجة ان النص اعلى منه.

زبدة القول ان ترسيخ التنوع وتجديد الفكر الديني ، رهن بالتعامل مع الدليل العلمي كفهم معتبر للشرع ، مماثل لسائر الافهام ، إضافة الى اشتراط احتواء الراي الفقهي على مصلحة عقلائية راجحة وصريحة ، قبل تطبيقها على المستوى العام ، وأخيرا إلغاء الرقابة على مصادر الثقافة الدينية ، من مختلف الأديان والمذاهب والاتجاهات ، بما فيها المصادر الناقدة للمدرسة التقليدية.

الشرق الأوسط الأربعاء - 30 شهر رمضان 1442 هـ - 12 مايو 2021 مـ رقم العدد [15506]

https://aawsat.com/node/2968146/

مقالات ذات علاقة

تأملات في حدود الديني والعرفي

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة التجديد بغيضة.... ولكن

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

نسبية المعرفة الدينية

نقد التجربة الدينية

15/06/2009

طريق التقاليد



معظم المجتمعات التي سعت لتحديث نظامها الاقتصادي شهدت صراعات داخلية شديدة بين المحافظين الذين يدعون للتمسك بالتقاليد الموروثة والحداثيين الذين يرونها عقبة في طريق التطور المادي والثقافي. وأظن أن إنكلترا هي البلد الذي شهد أشد هذه الصراعات دموية، فقد تحول الجدل إلى حرب أهلية دامت بضع سنين. وشهدت فرنسا في وقت متأخر نسبيا، في العام 1968، ما أطلق عليه وقتها «ثورة الطلاب» واعتبره الاجتماعيون مثالا على انتفاضة الأجيال الجديدة ضد التنظيم الاجتماعي التقليدي. وفي دول أخرى من الولايات المتحدة الأمريكية وحتى اليابان، مرورا بدول أوروبية وآسيوية وعربية، شهدت المجتمعات صراعات واسعة أو محدودة، دافعها الأساس هو تمرد الجيل الجديد على تنظيمات اجتماعية ضيقة الأفق
أصبح هذا التحدي أكثر جدية منذ أواخر القرن العشرين، وهو يزداد حدة مع مرور الوقت، لأن الأجيال الجديدة تزداد قوة وجرأة، كما إن الفوارق بينها وبين الأجيال السابقة تزداد سعة وعمقا، بسبب التقدم التكنولوجي الذي وفر للشباب عناصر قوة إضافية، أبرزها المعرفة والقدرة على المقارنة وابتكار الحلول. قلت لابني يوما إن راتبه الشهري اليوم يعادل دخلي السنوي حين كنت في مثل عمره، وأعلم جيدا أن بقية الأولاد قادرون اليوم على الوصول إلى مصادر معلومات لم نكن نتخيلها قبل ثلاثين عاما، فضلا عن أن نصل إليها. بعبارة أخرى فإن ما يطلبه شبابنا اليوم يتجاوز كثيرا جدا ما كنا نطلبه حين كنا في مثل أعمارهم، لأن قدراتهم أكبر ولأن المساحات التي يستطيعون الوصول إليها أوسع وأبعد. وسيكون للجيل الآتي تطلعات ومطالب أكثر من تلك التي عند شباب اليوم


يمكننا ببساطة أن ندير ظهرنا لهذه المطالب ونعتبرها نزقا طفوليا، وربما نجد وسيلة لإقناع الشباب بالسكوت والانتظار. لكن الأمور لا تحل بهذه البساطة. حتى لو استمع الشباب إلى نصائحنا واعتذاراتنا، فإن محرك التحدي يظل فعالا في داخلهم، وهو سيعود إلى النشاط والتعبير عن ذاته غدا أو بعد غد
إهمال التحدي لوقت طويل يشدد الميل للمنازعة في نفوس الشباب. ويتجلى هذا الميل في صورة إنكار للنظام الاجتماعي والقيم التي يقوم عليها. ويتمظهر عادة في صورة سخرية من التقاليد والأعراف السائدة. وفي مراحل متقدمة، يمكن أن يتطور هذا الميل إلى تعبيرات مادية عنيفة أو لينة تندرج إجمالا تحت عنوان الخروج على القانون


الإهمال هو خيار الخسارة، رغم أنه يبدو سهلا وغير مكلف ــ في بدايته على الأقل ــ، الحل السليم ــ مهما كان مكلفا ــ هو استيعاب الجيل الجديد بمطالبه وتطلعاته. طريق الاستيعاب يبدأ بتقبل فكرة التخلي عن بعض الأعراف والتقاليد الموروثة، ثم إعادة إنتاج تقاليد جديدة تتناسب مع حاجات المجتمع الجديد وظروفه المادية والثقافية. في هذا السياق نتحدث عادة عن مثال اليابان التي نجحت في الجمع بين التقاليد الموروثة وبين الحداثة. لكن ينبغي أن لا نخدع أنفسنا، فالذي فعله اليابانيون هو إعادة إنتاج تقاليدهم بما يحافظ على الشكل القديم لكن مع تحديث المضمون. يمكن تطبيق المقولة نفسها على إنكلترا والهند والولايات المتحدة وكثير من الدول الأخرى التي أعادت إنتاج تقاليدها بمضمون جديد. المحافظة على الشكل الخارجي للتقاليد ليس أمرا سيئا، بل ربما يكون ضروريا لتأمين قدر من الاطمئنان والتواصل الثقافي مع التاريخ. لكن الحياة تتطلب ــ بنفس المقدار ــ تقاليد تتناسب مع ظرف الحياة الراهن


نحن بحاجة إلى التحرر من التقاليد المعيقة، لا سيما تلك التي تفرض علينا منظورات وتصورات قديمة عن الحياة والعالم، كما تفرض علينا قيما وأحكاما تعيق طموحنا إلى مكان يتناسب مع واقعنا وقدراتنا وحاجات عصرنا. قد يكون أمرنا سهلا لأن جيلنا استسلم لأقداره وقبل بما وجد أمامه، لكني أخشى حقا أن الجيل الذي بعدنا ليس بنفس السهولة أو القابلية للاستسلام

عكاظ 15 يونيو 2009

05/06/2008

في مبررات العودة الى التاريخ

انتماء الفرد الى تاريخه ليس خيارا ، بل هو منطق الامور. هذا التاريخ ليس سيرة حياة شخصية ، بل مجموع ما استخلصه المجتمع من تجارب حياتية ، تواصلت لزمن طويل . وتتمظهر تلك المستخلصات في الحياة الاجتماعية ، على شكل قيم واعراف ومسلمات وطرق في ادارة الحياة ، اي ثقافة عامة او خلفية للتفكير في الذات والاشياء ، تحكم السلوك العفوي لافراد الجماعة .

يبدأ المجتمع في نقل ثقافته الى اعضائه الجدد منذ ولادتهم ، من خلال المعايشة واللغة والترميز وتعريف الاشياء والثواب والعقاب ، وتتواصل تلك العملية حتى يشب الفرد ويصبح عنصرا متفاعلا ، اي مستهلكا ومنتجا للعرف والثقافة الاجتماعية.

تختلف المجتمعات في المساحة التي تتركها للفرد ، كي يعيد تشكيل ثقافته – وبالتالي هويته الخاصة – بعد ان يشب عن الطوق. فالمجتمعات الاشد ترابطا هي الاقل تسامحا في هذا الجانب ، وهي تتوقع من الفرد ان يقبل بالثقافة الموروثة ، ويعيد انتاجها من دون تعديل جوهري. وفي المقابل فان المجتمعات المفككة ، تفتقر الى وسائل فعالة لالزام الافراد بموروثها الثقافي.

لكن لا ينبغي الظن بان هذه المجتمعات متحررة ، او قليلة الاهتمام بأدلجة ابنائها. فهي تقوم بذلك من خلال قنوات كثيرة ، مثل التربية العائلية والمدرسة والعمل ووسائل الاعلام ، اضافة الى نظام العلاقات الاجتماعية ، القائم اساسا على منظومة قيم واعراف مثبتة سلفا. وتلعب اللغة دورا محوريا في هذا السياق. فاللغة ليست مجرد اداة للتواصل ، بل هي ايضا اداة لتعريف الاشياء وتحديد قيمتها. وهي اضافة الى ذلك اداة لحفظ واعادة انتاج مصفوفات الرموز والقيم الاساسية ، التي يرجع اليها العقل عندما يفكر في الاشياء وعندما يتخد موقفا. وهي اخيرا اداة لتعريف الاولويات والمسلمات والمشكوكات والاشياء المألوفة والمستغربة. ولهذه الاسباب جميعا يختلف الشاب الذي ولد لعائلة امريكية ، عن ذلك الذي تعلم اللغة الانكليزية كلغة ثانية ، والامر نفسه بالنسبة للفرد المولود لعائلة عربية ، حتى لو تحدث اللغة الاجنبية مثل اهلها.

ثقافة الفرد – وتبعا لها هويته – هي تكثيف لتاريخ مجتمعه ، وما تشكل في طياته من ثقافة.  ومن هذه الزاوية لا تختلف المجتمعات الناهضة ، عن نظيرتها الساكنة او المتخلفة. انما تختلف هذه عن تلك في وعيها بهذه الحقيقة او غفلتها عنها. من يعي تاثير التاريخ على ثقافته وتفكيره ، يستطيع التخلص من قيوده او الموازنة  بين ضرورات الثقافة وضرورات العصر. ومن يجهل ذلك يعيش بجسده في الحاضر ، وعقله سجين في تاريخ مضى ومات اهله.

المجتمعات الناهضة قليلة الاهتمام بالماضي واحداثه ، لانها منشغلة باستثمار الحاضر وامكاناته. وهي اكثر واقعية واعتدالا في التعامل مع الغير ، اذ ان محورية الحاضر تكرس قيمة العناصر التي يشملها ، بما فيها الشراكة مع الاخرين. وفي المقابل ترى المجتمعات الهامشية والضعيفة مأخوذة بالماضي . فهي تهرب اليه من صعوبات الحاضر ، وتلجأ اليه كي تتقي مشقة الاعتراف بالعجز عن تغيير احوالها. وفي مثل هذا الحال تتحول حوادث التاريخ الى اقاصيص منتقاة ، يجري تعديلها بين حين واخر ، كي تخدم غرضا محددا مثل تبرير الفشل او تسويغ التفلت من المسؤوليات. ونجد بين المتحدثين من يغرق في اضفاء صور اسطورية على شخصيات تاريخية معينة  ، والباسها رداء القوة الخارقة ، كي تنتج رسالة محددة فحواها ان الوضع البائس غير ممكن التغيير ، الا اذا وجدت معجزة او ظهر رجل خارق .

المجتمعات المقهورة ، تطور ميلا اشد الى الاحتماء بتاريخها ، وتكرسه على صورة حد يميز بينها وبين الغير ، وفي هذه الحالة فان أهل الحاضر يعيدون تصوير التاريخ ، باهمال بعض جوانبه ، والتركيز على جوانب أخرى ، بما يخدم فكرة تميز هذا المجتمع بثقافته وهويته ، بكلمة أخرى فان التاريخ هنا لا يعامل باعتباره ميدانا لتجربة سابقة ، ينبغي دراستها والاعتبار بنتائجها ، بل باعتباره مصدرا لتبرير الحاجات الراهنة ، واهمها حاجة الحفاظ على الهوية .

وثمة في الحاضر امثلة عديدة على اتجاه المجتمعات الى التاريخ ، كوسيلة لتجذير شخصيتها الخاصة ، كرد على محاولات الغاء الهوية من جانب المحيط الاقوى. في المجادلات التي نشهدها اليوم حول التطرف الديني والمذهبي وتفاقم النزعات القبلية والقومية امثلة  كثيرة على هذا التوجه.  التاكيد على الاصل ، حتى لو كان اقل شأنا من الحاضر ، يعتبر وسيلة فعالة في استعادة الثقة بالذات ، ومقاومة اشكال الاغتراب النفسي والاجتماعي ، التي يعانيها الانسان المقهور ، وسط مجتمع يعامله باستعلاء وتفاخر.

الايام 5-6-2008

http://www.alayam.com/Category.asp?CategoryId=5   

مقالات ذات علاقة 

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

سياسة الامس وتاريخ اليوم

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

 فضائل القـرية وحقائق المدينة

 في مبررات العودة الى التاريخ

 الكراهية

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد

الهجوم على الثوابت .. اين هي الثوابت ؟


07/05/2008

رأي الفقيه .....متى يصبح حكم الله

الفقهاء يفتون بآراء مختلفة في المسألة الواحدة، مثل دعوى الاختلاط بين الرجال والنساء في أماكن العمل، المثارة حاليا. ولا بد أن القراء اطلعوا على آراء من يجيز الاختلاط ومن يحرمه ومن يضع شروطا للتجويز. فهذا مثال حي على الاختلاف في مسألة واحدة في ظرف واحد. بديهي أن حكم الله في المسألة واحد ولا يمكن أن يكون متعددا. لكن لا يستطيع أحد، فقيها كان أو غيره، أن يدعي دون تحفظ أن رأيه هو حكم الله بلا زيادة ولا نقصان. لأنه لو ادعى ذلك فكأنه قال إن علمه هو علم الله أو مساو لعلم الله. وهذا مستحيل ولا يقول به أحد.

صورة ذات صلة
تنبه الفقهاء إلى هذه الإشكالية منذ القدم، فميزوا بين نوعين من العلم هما: العلم بالواقع والعلم بالظاهر. وحصروا العلم الواقعي في الله سبحانه. أما علم البشر فهو جميعه علم بالظاهر ، وهو قد يطابق الواقع وقد يجانبه. والفقه هو واحد من هذه العلوم، لذلك عرفه بعضهم بالظن الغالب.
والحق ان جميع العلوم هي ظنون غالبة، او احتمالات، بعضها يستند الى أدلة أقوى، وبعضها يجمع بين الدليل العلمي والإمكان العملي. وطور الأصوليون مجموعة أدوات منهجية لحصر تلك الإشكالية وتحديد ما يصح وما لا يصح الاعتماد عليه من الأدلة. بديهي أن جميع الأدلة مؤقتة، بمعنى أنها مرتبطة بحيثياتها الظاهرة للفقيه في وقت البحث. وقد تظهر له أو لغيره أدلة أخرى في وقت مختلف أو ظرف مختلف فيعدل عن الرأي الأول إلى غيره، وهذا من الأمور الجارية والمتعارفة بين جميع دارسي الشريعة. هذا من جهة.
لكن من الجهة الثانية، فإن الناس بحاجة إلى العلم حتى لو كان ناقصا. ويقضي العقل الطبيعي بالعودة إلى صاحب العلم المتخصص، مثلما نعود الى المهندس حين نبني بيتنا وإلى الطبيب حين نحتاج للعلاج. الفقيه في هذا المقام مصدر للعلم. وحين يعطيك العالم علمه فأنت تأخذ به، حتى لو علمت باحتمال تغير رأيه بعد زمن. لأن الناس لو انتظروا كمال العلم لما وصلوا الى شيء أبدا، فالعلم بطبعه ناقص وهو يتكامل بالتدريج، لكنه يبقى الى الأبد ناقصا، وهذا هو السر في كفاح الإنسان من أجله.
في مثال الطب، يخبرنا الطبيب بأن بعض علاجات اليوم ستلغى في المستقبل لوجود أخرى تحت التطوير والبحث. لكننا مع ذلك نأخذ بالأولى لأننا نحتاجها اليوم، مع علمنا بنقصانها. من هنا قال الأصوليون بأن الأخذ برأي الفقيه وتطبيقه مبرئ لذمة المكلف لأنه يسد حاجة قائمة ولو كان ناقصا. ولا يجب على المكلف دراسة جميع الأراء ولا تقييم أدلتها. واعتبروا ذلك من أنواع التيسير الذي يأمر به الشرع.
المكلف اذن، يأخذ برأي الفقيه لأنه علم، تقوم الحجة بوجوده، وتبرأ الذمة بتطبيقه. فاذا أخذ المكلف بذلك الرأي، تغيرت صفته من نظرية علمية الى حكم ديني. بعبارة أخرى فإن التزام المكلف برأي الفقيه يسبغ على هذا الرأي قيمة دينية، فيصبح (حكم الله) بالنسبة لذلك المكلف على وجه الخصوص. مع أنه يبقى رأيا علميا عاديا بالنسبة لبقية المكلفين الذين لم يقبلوه أو لم يلتزموا به.
ومثل ذلك رأي القاضي الذي يتحول إلى حكم واجب التنفيذ على أطراف القضية التي نظرها، دون بقية الناس. فهو بالنسبة لأولئك قانون ملزم وهو بالنسبة للآخرين مجرد رأي علمي. ومن هنا نفهم أن القيمة الدينية لرأي الفقيه ليست منبعثة من داخله، بل من مصدر خارجي هو تبعية المكلف له، أي قرار هذا المكلف بالرجوع الى ذلك الفقيه. وكذلك الأمر بالنسبة لحكم القاضي الذي يستمد قيمته من القانون العام للبلد الذي فرض على المتخاصمين الالتزام بحكم القاضي الذي نظر دعواهم.
خلاصة الكلام اذن:
1ـ ان رأي الفقيه هو في الأصل نظرية علمية محترمة لكنه ليس حكم الله ولا ينطوي على الزام.
2ـ بالنسبة للمكلفين الذين يطمئنون الى رأي فقيه معين، فان أخذهم برأيه، يضفي عليه قيمة الحكم الديني، حتى لو بقي رأيا عاديا بالنسبة لغير هؤلاء.

عكاظ  7 مايو 2008
 https://www.okaz.com.sa/article/182937



مقالات ذات علاقة



07/11/1994

علم الوقوف على الاطلال



ينتمي كل انسان الى تاريخه بدرجة من الدرجات ، بحيث يندر ان تجد شخصا ، منفصلا عن تاريخه تمام الانفصال ، والمقصود بالتاريخ هنا ليس سيرة حياة الشخص على وجه التحديد ، بل مجمل التجربة التاريخية للبيئة الاجتماعية ، التي تربى وسطها وتشرب ثقافتها ، ومقومات نظرتها الى الحياة والاشياء .
ان ثقافة المجتمع لاتتكون دفعة واحدة ، بل عبر مسايرة طويلة الامد للتحديات المختلفة التي تواجهه ، يقوم خلالها بتشكيل نظرته الى من حوله وماحوله ، كما يقرر على ضوئها اسلوب عمله ، ومواجهته لمتطلبات الحياة ، وبدوره يحصل الفرد على هذه الثقافة بصورة تدريجية ، من خلال معايشته المستمرة لمحيطه الاجتماعي ، منذ ان يفتح عينيه على الحياة ، وحين يشب ويستوي رجلا ، فيتمثلها على صورة سلوك يومي ، او وعي اجتماعي ، او نمط في التفكير والتصور .
فلننظر الآن الى ثمرة هذا الموضوع ، وقد اخترت منه زاوية محددة ، تتعلق بنظرة الشخص الى تاريخه وتعامله معه ، والظروف التي تدفعه للعودة اليه .

تجربة متنوعة
ينتمي المسلمون الى تاريخ مليء بأسباب الفخر والاعتزاز ، لكنه كأي مسيرة طويلة الامد ، لاي أمة من الامم لايخلو من عناصر الضعف ومسببات الاذى النفسي ، نتذكر على سبيل المثال ان الامتداد الاسلامي الى الاندلس ، قد أوجد اساسات متينة للتقدم العلمي في اوربا ، ونتذكر في موازاة هذا ان اسلافنا قد اضاعوا هذا المجد ، بسبب نزاعاتهم الشخصية ، ومحاولة بعضهم الاستبداد بالامر ونفي الغير ، ونتذكر ان الحقبة الاولى من العصر العباسي ، قد شهدت وصول الدولة الاسلامية الى قمم من الحضارة ، غاية في العظمة والسمو ، لكن هذه الحقبة لم تخل من كثير من المنغصات ، ليس اقلها اضطهاد العديد من ائمة العلم ، وبينهم معظم رؤساء المذاهب الفقهية المعروفة ، فهذا الجانب وذاك هو الصورة الكاملة للتاريخ ، وأيا كان مرادنا من النظر فيه ، فان رغباتنا لاتغير من حقيقة كونه قد حدث ، واصبح جزء من الصورة .

وتحتاج كل امة الى قراءة تاريخها بين حين وآخر ، ليس لمجرد التسلي بالقصص والغرائب التي قد يحتويها في طياته ، بل للبحث عن عناصر للتعبئة واعادة شحن الههمم الخائرة ، فضلا عن استثمار مرجعية التاريخ ، في اضفاء المشروعية على توجه مرغوب ، او نزعها عن توجه مرفوض ، ان التاريخ بالنسبة لاي مجتمع هو النسب وشجرة العائلة ، التي من دونهما يشعر المجتمع بانه مستفرد وبلا جذور .

 ونلاحظ ان ثمة تناسبا طرديا ، بين تصاعد التحديات الخارجية في وجه المجتمع ، وبين سعيه لاستعادة تاريخه ، وأمامنا ثلاثة نماذج تمثل حالات لمجتمعات في ظروف مختلفة :

1/ محورية الحاضر
المجتمعات المستقرة المنشغلة بالتقدم هي اقل اهتماما بما مضى ، واشد تركيزا على استثمار عناصر الحاضر وامكاناته ، وهي لهذا اكثر واقعية واعتدالا في التعامل مع الغير ، اذ ان محورية الحاضر تكرس قيمة العناصر التي يشملها ، بما فيها الشراكة مع الاخرين .

2/ الهروب الى الماضي
المجتمعات الهامشية او الضعيفة ، تعود الى التاريخ هروبا من صعوبات الحاضر ، وملجأ يقيها مشقة الاعتراف بالعجز عن تغيير احوالها ، وفي مثل هذا الحال تتحول حوادث التاريخ الى اقاصيص منتقاة ، ومعدلة بما يناسب المزاج الشعبي ، ويكرس عدم مسئولية الجيل الحاضر عن اوضاعه ، باضفاء صورة الاسطورة على شخصيات تاريخية معينة  ، اتصفت بالبطولة والاقدام ، والباسها رداء القوة الخارقة ، بحيث تتشكل الرسالة الاخيرة لهذا التحوير ، على صورة ان الوضع البائس ، غير ممكن التغيير ، الا اذا وجدت معجزة او ظهر رجل خارق ، وتجد مثال هذه الحالة في المجتمعات التي تنتشر فيها اقاصيص الرجال الاقوياء ، كعنترة بن شداد وابي زيد الهلالي .

 3/ مقاومة الاغتراب
المجتمعات المقهورة ، تطور ميلا اشد الى الاحتماء بتاريخها ، وتكرسه على صورة حد يميز بينها وبين الغير ، وفي هذه الحالة فان أهل الحاضر يعيدون تصوير التاريخ ، باهمال بعض جوانبه ، والتركيز على جوانب أخرى ، بما يخدم فكرة تميز هذا المجتمع بثقافته وهويته ، بكلمة أخرى فان التاريخ هنا لايعامل باعتباره ميدانا لتجربة سابقة للاسلاف ، ينبغي دراستها والاعتبار بنتائجها ، بل باعتباره مصدرا لتبرير الحاجات الراهنة ، واهمها حاجة الحفاظ على الهوية .

وثمة في الحاضر امثلة عديدة على اتجاه المجتمعات الى التاريخ ، كوسيلة لتجذير شخصيتها الخاصة ، والتاكيد على خصوصيتها ، في مقابل محاولات الغاء الهوية ، التي يقوم بها المحيط الاكثر قوة ، في القارة الامريكية على سبيل المثال ، كان من الوسائل التي اعتمدتها جماعات الحقوق المدنية للزنوج ، هو اعادة تأكيد الاصل الافريقي لزنوج القارة الامريكية ، ومايتضمنه هذا من تعظيم مبالغ فيه احيانا ، لقيمة الثقافة ووسائل التعبير الخاصة بالشعوب الافريقية .

لايمكن الادعاء ـ بطبيعة الحال ـ ان تاريخ الامم الافريقية ، قابل للمقارنة بحاضر الافارقة الذين اصبحوا امريكيين ، بالنظر الى المعاني الحقيقية للحضارة وموقع الانسان الفرد في مجتمع متحضر ، لكن التاكيد على الاصل ، حتى لو كان اقل شأنا من الحاضر ، يعتبر وسيلة فعالة في استعادة الثقة بالذات ، ومقاومة اشكال الاغتراب النفسي والاجتماعي ، التي يعانيها الانسان المقهور ، وسط مجتمع يعامله باستعلاء وتفاخر .

من هذا وذاك نستنتج ان الناس يعودون الى تاريخهم بين حين وآخر ، بحثا عن تعضيد لتوجهاتهم الراهنة ، أو هروبا من معاناة غير محتملة لهذا الراهن ، وتتعاظم هذه العودة عندما يتفاقم التصارع بين الحاجات النفسية للانسان ، والمتطلبات الصعبة للتعايش العادل مع المحيط.

التاريخ والايديولوجيا
في بعض الحالات ، يجري تبرير العودة الى التاريخ على اساس ايديولوجي بحت ، بل يجري تصوير التاريخ ، باعتباره جزء من الايديولوجيا حينا ، ومصدرا لقواعدها في بعض الاحيان ، ويعرض العائدون للتاريخ انفسهم في صورة المثال الحي المعاصر لاسلافهم ، وهم في هذه الحالة يستلبون عمومية الشخص التاريخي ، ويفرغونها في فرد واحد معاصر ، ثم يستعملون هذا التحويل القسري لمحاكمة الاخرين ، وما يتضمنه هذا من ادعاء الانفراد بالقدرة على عرض الحقيقة المطلقة ، ومنح المشروعية او حجبها عن الغير .

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...