‏إظهار الرسائل ذات التسميات الخميني. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الخميني. إظهار كافة الرسائل

01/11/2012

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد


غرض هذه المقالة هو التنبيه على الحاجة الى تطوير منهج البحث الفقهي المتعلق بالدولة والسياسة. وصول الاسلاميين الى السلطة في اكثر من بلد ، حرر العقل المسلم من اشكالية المشاركة في نظام سياسي مختلط او علماني او – بشكل عام – مؤسس على منظومة تخالف ما كان الاسلاميون يتطلعون اليه.
قبل الثورة الاسلامية الايرانية (1979) كان بعض الاسلاميين يتطلع الى السلطة التشريعية "البرلمان" كمجال ممكن للمشاركة في الدولة القائمة. انتصار الثورة عزز ميل التيارات الاسلامية الى الحلول الجذرية ، اي الهيمنة الكاملة على السلطة واقامة نظام جديد على ارضية دينية. لكن تطورات ما بعد الحرب العراقية الايرانية ، والاشكالات التي مرت بها تجربة ايران ، اضافة الى تصاعد الميل في العالم كله نحو منهج التحول الديمقراطي ضمن الانظمة القائمة ، دفع بمعظم الاسلاميين الى مراجعة متبنياتهم السابقة. فلم يعودوا مقتنعين بقصر مشاركتهم السياسية على السلطة التشريعية ، كما اصبحوا قانعين بالمشاركة الجزئية في الحكومات القائمة مع الاحزاب والتيارات الاخرى ، بعدما شغلهم حلم الانفراد بالسلطة ، كما هو الحال في ايران.
هذا ظرف سياسي جديد ، لم يسبق للاسلاميين التنظير له. وهو يضعهم امام اشكالات هامة وحرجة ، لجهة الاقرار بدور "الشريك المختلف" الذي لا يتبنى - وربما لا يقبل - فكرة الدولة الدينية. في حقيقة الامر فان بعض الاسلاميين ما عادوا يتحرجون من القول انهم يريدون دولة مدنية ديمقراطية يكون الدين مرشدا لها في الاطار العام دون التفاصيل[1]. هذا على الاقل ما تحدث عنه صراحة الاخوان المسلمون في مصر ، وحزب النهضة في تونس ، وقبلهما الاحزاب الدينية في العراق.
لكن المشكلة لا تقف عند هذه الحدود. نحن ازاء جدل اعمق واكثر جذرية ، يتمثل في التفارق بين مفهوم الدولة الحديثة الذي نخضع له ونسعى للاندماج فيه ، وبين نموذج الدولة الدينية الذي نتخيله ونقرأ حوله في كتابات قدامى الاسلاميين. ويتبع هذا التفارق جدل بين فكرة الديمقراطية والشورى ، وبين مصدر السلطة السماوي والارضي ، وبين فكرة العدالة الاجتماعية والتكافل ، وبين مبدأ المواطنة ومفهوم الرعية او مجتمع المكلفين.. الخ. هذه كلها اشكاليات جدية وجديرة بالنقاش. وهي بحاجة الى معالجات توصلنا الى اعادة انتاج مفهومات جديدة عن الدولة والسياسة ، مفهومات تستجيب لمتطلبات العصر والبشر الذين يعيشون فيه من ناحية ، وتحقق غايات الدين الحنيف في العدل والتقدم ، من ناحية اخرى.
تؤكد المقالة على هذه الحاجات. وتبدأ بعرض موجز لاسباب التفارق بين مفهوم الدولة الحديثة ونظيره في التراث الفقهي. ثم تقترح توسيع نطاق البحث حول قضايا الدولة والسياسة ، كي يتجاوزالحدود الضيقة للفقه في معناه المتعارف ، وتحرير النقاش حول المضمون الديني للسلطة من قيود الفتوى. وتقدم اخيرا بعض الامثلة عن قضايا يتجلى فيها التفارق بين المنظورين ، وهي في الوقت ذاته عميقة ومتشعبة بحيث لا يمكن التعامل معها بمنطق الفتوى.
اشير هنا الى ان القاريء سيلاحظ ان الامثلة والشواهد تنتمي للاطار الفقهي الشيعي. السبب الوحيد لهذا هو اطلاع الكاتب بشكل مفصل على هذا المجال وقلة بضاعته في فقه المدارس الاسلامية الاخرى. الامثلة تبقى ضمن حدودها ، لكن النتائج قابلة للتعميم كما يعرف المختصون. عناصر القوة والضعف في الفقه الاسلامي مشتركة بين مدارسه المختلفة وهي متشابهة الى حد كبير ، رغم بعض التمايزات.
في يناير 1988 كتب اية الله الخميني الى رئيس الجمهورية معلقا على حديث له في صلاة الجمعة :
"السلطة المتفرعة عن ولاية رسول الله المطلقة من احكام الاسلام الاصلية ، وهي مقدمة على جميع الاحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج.. سلطة الدولة الاسلامية عامة وتشمل كل جوانب الحياة الاجتماعية بما يتجاوز الحدود المتعارفة في الابحاث الفقهية"[2].
كان هذا ردا على جدل وصفه الخميني لاحقا بجدل مدرسي نظري ، لن يعين على حل اي مشكلة بل سيقودنا الى طرق مسدودة ، وينقض الدستور[3].
اعتقد ان الخميني هو واحد من ابرز مجددي الفقه الاسلامي في العصور الاخيرة. وبحسب متابعتي لتطور الفقه الشيعي في جانب السياسة والدولة بشكل خاص ، فاني لا اتحفظ عن اعتباره ابرز من عالج هذا الفرع من الفقه خلال القرون الثلاثة الاخيرة على الاقل. كان الخميني واعيا بجذور المشكلة التي واجهتها دولته. لم يكن الامر متعلقا بخلاف حول فتوى او تعريف موضوع[4].
 حتى القرن العاشر الميلادي لم يعرف الفقه الشيعي نقاشا معمقا حول مسألة السلطة والدولة – او "الولاية" كما كانت تعرف في ذلك الوقت -. معظم النقاشات دارت على حاشية النصوص الخاصة بالامامة العظمى في تصورها المثالي الذي يشير حصرا الى الائمة المعصومين ، المنصوبين من قبل الخالق سبحانه. من هنا تاثر النقاش – قسرا – بالاطار الذي تبحث فيه المسألة ، اي العقائد او علم الكلام. نعلم ان العقائد حدودها ضيقة . لذا فان البحث الفقهي تمحور حول جانب ثانوي نوعا ما ، هو مشروعية العمل مع السلطان الجائر، تجويزا او تحريما ، بسبب ارتباطه باشكالية غصب السلطة. وهو نقاش يدور في اطار الفقه لكنه يخضع للمقدمات الكلامية الخاصة بعقيدة الامامة.
المقدمة الاساسية تقول بان الحكم لا يكون شرعيا (في المعنى الديني البحت) الا اذا كان المعصوم على رأس السلطة . ولان هذا لم يتحقق منذ تنازل الامام الحسن بن علي عن الخلافة في سنة 40 للهجرة ، فقد وصمت كل الحكومات التي قامت بعدئذ بانها غاصبة . وكان العمل فيها يثير اشكالا جديا : هل يعتبر العمل مع السلطان الغاصب مشاركة في الغصب او تسويغا له او مساعدة على ترسيخه؟.
استمر الربط الشديد بين الجانبين الكلامي والفقهي للمسألة حتى القرن العاشرالميلادي ، حين فصل الشيخ محمد بن النعمان المعروف بالمفيد (948-1022م) المسارين ، وتحدث عن عمل السلطان كتطبيق ممكن للحسبة (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، وهو واجب شرعي قائم مع وجود الامام ومن دونه. اجاز المفيد العمل في الحكومة غير الشرعية ، شرط التزام العامل بمنع الظلم ومساعدة الضعفاء على نيل حقوقهم ، وضمان خير الامة ، ومنع اساءة استخدام مصالحها. واعتبر هذا تطبيقا لوظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر[5]. وساعد الشريف المرتضى (966-1044م) ، تلميذ المفيد ، في تطوير المقاربة في رسالته المشهورة "رسالة عمل السلطان"[6].
كان وجود الدولة البويهية ظرفا مساعدا لتطور من هذا النوع. لكن المسيرة توقفت عند هذه الحدود. بل وحدث تراجع جدي بعودة الميل الى التشدد ازاء العمل مع السلطان . سيما خلال القرن السابع عشر والثامن عشر اللذين شهدا هيمنة الاتجاه الاخباري على المدرسة الفقهية الشيعية.
 وحين انحسر المد الاخباري في اواخر القرن الثامن عشر بجهود رجال مثل الشيخ محمد باقر الأصفهاني المعروف بالوحيد البهبهاني (1706-1791م) ، بقي تاثيره نشطا من خلال ما يمكن وصفه باتجاه مصالحة بين الاتجاه العقلاني الصريح الذي يأخذ به الفقهاء الاصوليون ، والمبالغة في تهوين مكانة العقل ، كما هو شائع بين الاخباريين. اتجاه المصالحة هذا حمل معه تراجعا عن اعتبار العقل مصدرا مستقلا للحكم الشرعي ، لصالح منظور محافظ يقصر دور العقل على كشف مفاد النص. مع هذا التحول اعيد احياء الروايات الكثيرة التي دعمت في الماضي ميلا انعزاليا يعتبر السلطة والدولة عالما فاسدا ولا اخلاقيا ، ومكانا لا يليق بالمؤمن الحريص على آخرته. وجرى تدعيم هذا الاتجاه بالروايات الخاصة بغيبة الامام الثاني عشر ومعانيها وما يترتب عليها. وهكذا اصبح العمل مع السلطان مخاطرة بالدين ، والسعي للسلطة خروجا على سيرة المؤمنين ، وادعاء الحق فيها اصطفافا مع الشيطان والطاغوت[7].
الميل لاعلاء مكانة النص يؤدي بالضرورة الى غلبة المنهج الظاهري الذي يتعبد بظاهر النص بدل اعتباره  مفتاحا لكشف الرسالة التي تنطوي في ثناياه ، والتي ينبغي – منطقيا - ان تنسجم مع روح الشريعة ، او الفلسفة العامة للتشريع ، "المدرسة الاسلامية" كما اسماها المرحوم الصدر-. ذلك الميل الاخباري واضح في تهوين الفقهاء لمكانة العقل والاجماع ، وحصر الاكثرية لدورهما في كشف مقصود النص ، بدل اعتبارهما مصدرين مستقلين للاحكام. وهو واضح ايضا في معالجة الاصوليين التي يغلب عليها التردد للمسالة المعروفة بالقبح والحسن العقليين. اظن ان معالجة جادة لهذه المسالة يمكن ان تؤسس لقبول عرف العقلاء كاداة علمية مقبولة في تكييف الحكم الشرعي وتطبيقاته ، وفي تحديد موضوعاته. وفي الموضوع السياسي خصوصا ، فان القبول بهذه القاعدة يمكن ان يؤسس لقبول الراي العام كاداة مشروعة لتشخيص المصالح العامة وتفويض السلطة.
اشكالية الامامة/الغصب فرضت حدودا ضيقة على البحث الفقهي في قضايا الولاية السياسية. وتجد هذا واضحا في معالجة الفقهاء لمسائل مثل نصب القاضي وممارسته مهام الولاية الصغرى او الخاصة ، كما تجده في معالجتهم لمسألة الخراج (المال العام) وشرعية تصرف الوالي فيه للمصالح العامة ، كما تجدها في مسائل الحدود والحقوق المالية الخ. من ذلك مثلا راي ابي الصلاح الحلبي (ت 1055م) الذي اجاز للفقيه المؤهل تولي القضاء في حكومة الجور رجوعا الى اذن ضمني/افتراضي من الامام ، في هذه الوظيفة على وجه الخصوص[8]. ومن ذلك راي الاصفهاني الذي اجاز ادارة الحاكم الجائر للمال العام في غيبة الحاكم العادل[9]. هذه امثلة عن معالجات حاولت ايجاد مخارج  لما ابتلي به الناس مع استقرار دولة الامرالواقع ، وضمور الامل في الدولة المثالية المتخيلة. لكنها بدل ان تقدم تنظيرا جديدا حول اصل الموضوع ، اي الدولة الواقعية ، وامكانية العدل النسبي او التحول نحو الحكم العادل في اطارها ، فقد اكتفى الفقهاء بمعالجات جزئية من نوع ما ذكرنا.
تقصير الفقهاء في معالجة هذه المسائل هو امتداد لعلة اوسع ، تتمثل في اغفالهم المزمن للبحوث الفقهية المتعلقة بالشان العام ، وتركيزهم الزائد عن الحاجة على الفقه الخاص بالعبادات الموجه للافراد. ويعتقد اية الله زنجاني ان موضوعات الفقه العام ، لا تحظى بقيمة اعتبارية في المجامع العلميـة والحوزات ، شبيـهة للقيـمة التي تحظى بها أبحاث في مجالات الفقـه الفردي ، مثل أبحاث الطهارة والصلاة وما إليها[10].بعض الباحثين ارجع هذا التقصير الى يأس الفقهاء من امكانية قيام دولة عادلة ، او ربما لهيمنة قناعة ضمنية فحواها ان سلطة "التغلب" قد اصبحت مصيرا نهائيا في العالم الاسلامي. لكن اية الله خامنئي ، مرشد الثورة الايرانية ، لاحظ ان هذه الحالة كانت لا تزال سائدة في المدارس الدينية بعد اكثر من عقد على قيام الحكومة الاسلامية[11]. ولهذا – ربما – يفضل باحثون اخرون نسبتها الى عيب منهجي في الدراسات الشرعية ، يتمثل في هيمنة الاتجاه الى التنظير المجرد ، وعدم اهتمام الدارسين بربط ابحاثهم مع تحولات الواقع والزاماته[12].
ايا كان السبب فقد بقي الفقه الاسلامي خلال المئتي عام الماضية ، منشغلا بقضاياه وجدالاته القديمة ، غافلا عما يجري في العالم الذي تغيرت قضاياه واسئلته ، وتغيرت معها ادوات المعالجة والنقد. وكان من بين ما تغير فكرة الدولة ومفهوم السياسة ، والمباديء التي تقوم عليها ، والقيم التي تمثل مضمونها. مفهوم ان فكرة السلطة والدولة والتنظيم السياسي وعلاقة الدولة بالمجتمع ، تعرضت لتحولات جذرية خلال القرنين الماضيين ، ولا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين. لكن هذه التحولات العميقة لم تترك اثرا على البحث الفقهي في قضايا الدولة والولاية ، يتناسب مع سعتها وعمقها ، لان البحث الفقهي كان منشغلا بغيرها وغافلا عنها.
كنتيجة لهذا فان ما يمكن وصفه بفقه الدولة او الفقه السياسي الذي ورثناه هو فقه مفكك يتعامل مع اجزاء الموضوع كدوائر منفصلة ، لا كاجزاء في صورة كاملة. بغض النظر عن الاسباب وتحديد المسؤوليات ، فان هذا الفقه الموروث ما عاد مؤهلا للمهمة التي نادى بها معظم الاسلاميين ، اعني اسلمة الدولة ، سواء على المستوى الدستوري او على مستوى القانون.

الحاجة الى اعادة اكتشاف الموضوع

كان الامام الخميني بين الذين توصلوا الى هذه الحقيقة بعد قيام الثورة الاسلامية. حين اكتشف ان دولة حديثة لا يمكن ان يقام نظامها القانوني على ارضية الفقه الموروث. ولهذا طالب باجتهاد جديد ، ليس في الفروع ، بل في اصول المسائل ، في مسألة مثل اولوية النظام العام على الاحكام الفرعية ، مهما كانت مهمة ومحورية في التصور الديني ، ومسالة مثل جعل "المصلحة العامة" بمعناها المادي العقلائي مبرر ترجيح لحكم على حكم ، حتى لو كان المرجوح هو المستفاد الظاهر من النص.
لست مؤمنا بان الفقه هو الاطار العلمي المناسب للنقاش في مسالة الدولة وقضاياها. لكننا نواجه حقيقة واقعة ، هي هيمنة القراءة الفقهية للدين على التفكير الاسلامي في مختلف جوانبه. هذا يقودنا الى مسألة اوسع قليلا ، تتعلق باطار وغاية البحث العلمي في امور الشريعة. ثمة فهم عام فحواه ان اي بحث في العلوم الشرعية لا بد ان يستهدف التوصل الى اقرار حكم او دحض حكم او قاعدة شرعية. لعل هيمنة القراءة الفقهية هي السبب وراء هذا الربط المتكلف.
معروف ان الفقه علم احكام ، غرضه تقديم اجوبة على شكل الزامات شرعية جديدة ، او نقض الزامات قديمة. في المقابل فان البحث العلمي في معناه العام لا يستهدف بالضرورة تقديم اجوبة او انشاء الزامات ، قدر ما يستهدف معالجة الاسئلة المثارة ، بتفصيحها وتطوير نموذج ارقى منها. طبقا للفيلسوف المعاصر كارل بوبر ، فان ما نعتبره نظرية ليس سوى احتمال ذي طبيعة مؤقتة. وهو مفتاح لاحتمال نقيض او مخالف. انه اذن اشبه بسؤال ثان يقدم ايضاحات اجلى وادق لموضوع السؤال الاول[13]. البحث في مسائل مثل الولاية الشرعية والدولة الدينية لا يستهدف – بالضرورة -  تقديم فتاوى ، بل تطوير المعطيات النظرية الداخلة ضمن معالجة الموضوع. ومن هنا فان رفضنا او نقضنا لبعض ما يعتبر مسلمات في هذا الحقل ، لا يمثل انكارا لامر ديني ، لانه ليس في صدد الفتوى ، بل في صدد مناقشة الموضوع. معارضة اي فكرة ، حتى لو اجمع الناس على اثباتها شرعا ، لا ينبغي ان يعتبر معارضة لله والرسول ، بل مناقشة لموضوع واقعي ولفهم الناس له وتكييفهم لقيمته.

امثلة على النقاشات المطلوبة

منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطور البحث في "السياسة" كحقل علمي متخصص.  وظهرت تبعا لذلك حقول فرعية عديدة ساهمت في تطوير نقاشاته. الفلسفة السياسية ، القانون ، الاقتصاد السياسي ، هي بعض الامثلة عن حقول علمية اتخذت قضايا الدولة والسلطة موضوعا لنقاشاتها. على نفس المنوال فان التفكير الديني في السياسة والدولة لن يستطيع اقامة حقل علمي متطور اذا بقي محصورا في  الاطار الفقهي ، المعني اساسا بالجانب القانوني من الحياة. 
نحن بحاجة الى معالجة دينية للجوانب القانونية . لكننا ايضا بحاجة الى معالجة الجوانب الاخرى السابقة للقانون. من ذلك مثلا مفهوم السلطة. لازالت مناقشات الاسلاميين – حتى يومنا هذا – تقارن بين سلطة الشعب وسلطة الفقيه. وهي تنطلق من فرضية التعارض بين الاثنين. هذه الفرضية قائمة بدورها على مسلمة سابقة فحواها ان الولاية في جوهرها هي مجموع الصلاحيات او السلطات التي يتمتع بها رئيس الدولة. واقع الامر ان الرئيس في الدولة الحديثة ليس سوى كبير الموظفين. الدولة الحديثة هي مؤسسة قانونية ووظيفية قائمة بذاتها ، مستقلة عن شخص الرئيس. واذا كان الامر الواقع في بلداننا ينحو الى تلخيص الدولة في رئيسها ، فاننا بحاجة الى هجر هذا الفهم الذي يمهد للاستبداد ، الى فهم ارقى يدور حول الدولة كمؤسسة قانونية يملكها المجتمع.
ومن ذلك ايضا مصادر الشرعية السياسية. يركز المفهوم القديم على "عمل" الوالي الذي يجب ان يكون مطابقا للحق ، ومن هنا فان شرعية سلطانه مستمدة من صحة عمله. بينما يركز المفهوم الحديث للدولة على "تمثيل" الوالي للارادة العامة. ما هو مشروع هنا هو ما يلبي الارادة الشعبية وما يطابق القانون. الوالي هو ممثل للشعب ومن هذا التمثيل يستمد مشروعية سلطته.
ومنها ايضا حقوق الانسان التي تعتبر اليوم احد ابرز معايير العدالة. حقوق الانسان تتضمن مباديء لازالت غير محسومة في الاطار الفقهي مثل حرية الاعتقاد والراي والتعبير ومخالفة الحاكم العادل ..الخ.
وتتحدث النقاشات الفقهية عن صلاحيات مطلقة للحاكم الشرعي ، لا يقيدها سوى عدالته النفسية . بينما يقوم بناء الدولة الحديثة على اعتبار الدولة منحازة ، واعتبار ملكيتها لوسائل الجبر المادي سبيلا محتملا للفساد او الاستئثار ، وعادة ما يستشهد بمقولة السياسي والمفكرالانجليزي اللورد اكتون "لا تتعلق المسالة بان طبقة معينة عاجزة عن الحكم . المسالة ان السلطة بذاتها مظنة للفساد والسلطة المطلقة مظنة للفساد المطلق"[14]
 لهذا السبب فان النقاشات السياسية المعاصرة لا تعول ابدا على اخلاقيات الحاكمين في منع انزلاق الدولة الى الفساد او الاستبداد ، بل على ادوات الردع الخارجي ، مثل المعارضة القانونية والصحافة الحرة والبرلمان المنتخب ، فضلا عن القيود الدستورية على السلطات.
مبدأ المواطنة يشكل هو الاخر مثالا على التفارق بين مفهوم الدولة الحديثة ومفهوم الولاية الشرعية المتعارف في البحوث الفقهية. المفهوم الدارج في مجامع العلم الشرعي يعرف الفرد كعضو في الجماعة الدينية ، كمتدين او مكلف ، لا كمواطن[15]. وطبقا لاية الله يزدي فانه "في الوقت الذي يعتبر المواطنون - من حيث المبدا - متساوين ، فان حقوقهم ولا سيما الحق في اشغال المناصب العامة ليس على هذا النحو "[16].
هذه أمثلة عن نوعية النقاشات التي نحتاج لاثارتها وتقديم معالجات دينية لها ، تتناسب مع معطيات العصر الحاضر وحاجات الناس فيه. قبول الناس بالقيم الدينية كمضمون للنظام السياسي او ارتيابهم في المضمون الديني للدولة يتوقف – الى حد كبير – على قدرة الاسلاميين على تطوير منظومة مفاهيم جديدة تستلهم القيم العليا للدين الحنيف ولا تتنكر لتجربة الانسان المعاصر. هذا يتطلب بالتاكيد التحرر من السياق المنهجي الموروث للبحث الديني في قضايا الدولة والولاية.

الخلاصة:

شهدت السنوات الاخيرة نموا كبيرا للمد الاسلامي ، تجلى في وصول الاسلاميين الى السلطة في عدد من الدول العربية . كشف هذا التطور عن تنامي الميل العام بين المسلمين الى دولة جديدة تحقق قدر معقولا من العدل في تطبيقاته المعاصرة ، مثل سيادة القانون ، المشاركة الشعبية ، والضمان القانوني لحقوق الانسان . مع هذه التحولات ، تزداد الحاجة الى مراجعة المفاهيم الخاصة بالدولة والسلطة التي ورثناها عن الاسلاف.
من المفهوم ان لكل جيل من اجيال المسلمين حق المشاركة في صنع تصوره الخاص للفكرة والممارسة الدينية ، تطبيقا لجوهر فكرة الاجتهاد وتاثير الزمان والمكان في تشخيص المصالح الشرعية وانتاج الحكم الشرعي المتناسب مع الزاماتها. تطبيق هذا المعنى يقتضي العمل على اعادة انتاج فهمنا الخاص للتحديات التي نواجهها ، وفي طليعتها بالتاكيد تحدي العدالة والدولة العادلة.
ما ورثناه من الفكر الديني الخاص بالسلطة والدولة لا ينسجم مع واقعها اليوم ، ولا يخدم كثيرا حاجاتنا ، وهو – بالتالي – لا يستجيب لتحديات عصرنا. لا يكفينا اذن ان نعود الى ذات المقولات وذات المنهج الذي اتبعه الاسلاف كي نستعمله في معالجة اسئلة العصر. سيكون هذا - مثلما وصفه الامام الخميني - مجرد نقاش مدرسي لا يوصلنا الى اي مكان. نحن بحاجة الى مطالعة الاسئلة الرئيسية لدولة اليوم ، على ضوء القيم العليا التي يريد الدين الحنيف اقامتها ، مهما بدا انها تتفارق مع المفهومات والنتائج التي توصل اليها الاسلاف. نحن بحاجة الى سؤال انفسنا عما نريد وعما نراه صلاحا لامرنا في هذا اليوم وفي هذا المكان بالتحديد. اجوبة الامس كانت مناسبة لاسئلة الامس ، ولدينا اليوم اسئلة جديدة مختلفة وواقع جديد مختلف.




[1] انظر مثلا عصام العريان: الإخوان المسلمون ومفهوم الدولة ، موقع اون اسلام (7-11-2007)  http://www.onislam.net/arabic/madarik/concepts/102465-2007-11-07%2016-12-32.html#8
[2] اية الله الخميني : صحيفه نور ، ج 20 ، ص 233.ن.إ:  http://www.islamicecenter.com/ketaabkhaaneh/sahifeh_noor/sahifeh_noor_jeld_20_khomeini_08.html#link63
[3] اية الله الخميني ، رسالة الى اعضاء مجمع تشخيص مصلحة النظام ومجلس صيانة الدستور في 1 يناير 1989.  صحيفه نور  ج 21 . ن.إ http://www.islamicecenter.com/ketaabkhaaneh/sahifeh_noor/sahifeh_noor_jeld_21_khomeini_02.html#link27
 [4] لتفصيل حول هذه النقطة ، انظر : توفيق السيف : دور الخميني في تعديل نظرية السلطة عند الشيعة (2006) http://talsaif.blogspot.com/2006/01/blog-post_30.html
[5]  الشيخ المفيد محمد بن محمد النعمان : المقنعه ، مؤسسة النشر الاسلامي ، (قم 1990) ،  ص 810
[6] الشريف المرتضى : "رسالة عمل السلطان" ، في السيد مهدي رجائي (محرر) : رسائل المرتضى ، دار القرآن الكريم ، (قم 1405) 2/89
لتفصيل حول هذا التطور وظروفه ، انظر توفيق السيف : نظرية السلطة في الفقه الشيعي ، المركز الثقافي العربي (بيروت 2002) ص 101
[7] انظر طائفة من هذه الروايات في: كاظم الحائري : ولاية الأمر في عصر الغيبة ، (قم 1994) ، ص. 77
[8] ابو الصلاح الحلبي: الكافي في الفقه، تحقيق رضا استادي ، مكتبة الإمام أمير المؤمنين العامة (اصفهان 1403) ، ص 423. ن. إ http://www.yasoob.com/books/htm1/m001/00/no0023.html
[9] يقول الشيخ الاصفهاني في سياق حديثه عن ولاية الامام والفقيه على الخراج "له الولاية بما هو رئيس المسلمين وحافظ حوزة المؤمنين ، ومع عدم التمكن من التصرف على الوجه المزبور يرجع الامر إلى من يقوم بهذا الامر ، وان كان متغلبا لان فوات مصلحة قيامه بالامر لا يسوغ تفويت مصالح المسلمين". محمد حسين الاصفهاني : حاشية المكاسب ، تحقيق عباس آل سباع ، انوار الهدى (قم 1418 هج)، 2/397
[10] آية الله عز الدين زنجاني ، مقابلة ، حوزة 23 ، آذر 1366 هـ.ش
[11] السيد على خامنئي : خطاب أمام مسئولي المدارس الدينية 25-9-1991
[12] محمد جواد مغنية : تجارب محمد جواد مغنية بقلمه ، دار الجواد ، بيروت. ص 52
[13]  For more on Popper's theory, see Herbert Keuth, The Philosophy Of Karl Popper, Cambridge University Press, 2005, p. 166
[14] G. B. Madison,  The Logic of Liberty, (Greenwood Press, 1986(,p. 9
[15] عباس قائممقامي : قدرت ومشروعيت (تهران 2000) ، ص 112
[16] محمد تقي مصباح يزدي : نظريه سياسي اسلام ، مؤسسه امام خميني (قم 2001) ، ص 311

06/10/2012

تعقيب على مقالة د. فرح كوثراني


"العلامة محمد مهدي شمس الدين ونظرية ولاية الامة على نفسها"

6 اكتوبر 2012
للتعرف اكثر على شخصية المرحوم شمس الدين ، انقر هنا
 
اطار النقاش:
السؤال البديهي الذي يبرز قبل النقاش في "ولاية الفقيه" او اي نظرية اخرى عن السلطة في الاسلام او اي ايديولوجيا اخرى ، هو : ما الذي نرمي اليه من وراء النقاش : هل اهتمامنا نظري بحت ، مقطوع الصلة عن الزمان والظرف السياسي – الثقافي. ام  اننا نسعى لاستكشاف افاق ممكنة لحل مشكلة الدولة في اطارنا العربي او الاسلامي.
جواب هذا السؤال الاولي يترتب عليه ثلاث مسائل منهجية :

المسألة الاولى:

 وضوح الفارق بين الخيارين سوف ينعكس تلقائيا على فهمنا وتقديرنا لقيمة العناصر والنظريات الداخلة ضمن مسار النقاش. اشارت د. كوثراني مثلا الى ان النقاش حول "ولاية الفقيه" في العصور السابقة كان في جانب رئيسي منه نظريا بحتا ، لان الامل في تطبيق الفكرة كان مستبعدا. بخلاف نقاش اية الله الخميني الذي تحدث عن النظرية وهو يرقب امكانات تطبيقها في اطار دولة.
من هذه الزاوية تحديدا فاني اجد فارقا كبيرا بين تصور الخميني لموضوع المسألة وتصور الفقهاء السابقين. لا نستطيع فهم رؤية الخميني دون الاخذ بعين الاعتبار مجموع احاديثه وكتاباته عنها. دعنا نأخذ مثالا عن تعريفه لعنصر "الولاية العامة المطلقة" التي كانت المورد الرئيسي للجدل ضد نظريته. في يناير 1988 كتب اية الله الخميني الى رئيس الجمهورية معلقا على حديث له في صلاة الجمعة :
"السلطة المتفرعة عن ولاية رسول الله المطلقة من احكام الاسلام الاصلية وهي مقدمة على جميع الاحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج.. سلطة الدولة الاسلامية عامة وتشمل كل جوانب الحياة الاجتماعية بما يتجاوز الحدود المتعارفة في الابحاث الفقهية"[1].
الواضح انه يتحدث هنا عن الولاية العامة والمطلقة للدولة التي يرأسها الفقيه وليس عن ولاية شخص الفقيه. لو تابعنا تفاصيل الجدل الذي حمله على هذا التحديد ، لوجدنا انه اراد معالجة مشكلة عويصة في المجتمع الديني الشيعي ، خلاصتها عدم الاقرار للدولة بالحق في فرض الزامات مالية او التدخل في التعاقدات بين الافراد. بدأ الجدل حين وافق مجلس الشورى على مشروع حكومي يسمح لوزارة العمل بفرض شروط في عقود التوظيف لصالح العاملين ، من بينها تحديد ساعات العمل ومعادلة تحديد الاجر الخ. فاعترض عدد من الفقهاء ومن بينهم اعضاء في مجلس صيانة الدستور. لاحقا كتب لهم الخميني واصفا اعتراضاتهم بجدل " نظري ، لن يعين على حل اي مشكلة بل سيقودنا الى طرق مسدودة ، وينقض الدستور"[2].كان الخميني مدركا لاشكالية الدولة في التفكير الفقهي ، واشكالية التفكير الفقهي في السياسة والدولة. وقد اتخذ الكثير من القرارات التاسيسية بناء على اجتهاده الخاص ، مخالفا اعرافا ومسلمات فقهية راسخة.

المسألة الثانية:

فكرة "الاسلام هو الحل" الذي تتبناه التيارات الاسلامية صراحة او ضمنيا ، قائمة على ارضية مضمرة فحواها ان تحقيق العدل الاجتماعي ممكن فقط او على الاغلب في اطار التعاليم الاسلامية. بعبارة اخرى فان العدل في تجلياته المختلفة هو جوهر النقاش في مسالة الدولة. لو اردنا استعمال المنهج الفقهي فسوف نقول ان العدل - في هذه المسالة - مطلوب لذاته ، بينما التعاليم الاسلامية مطلوبة لغيرها. هي اذن طريق الى غاية وليست غاية بذاتها.
اذا صحت هذه الفرضية فان السؤال الذي ينبغي ان نبدأ به هو : ما هي النظرية التي يعين تطبيقها على تحيق العدل الاجتماعي . نحن اذن نجادل اراء الفقهاء المسلمين مثلما نجادل غيرهم رجوعا الى معيار الغاية التي نريدها. هذا يدعونا الى البحث في تطبيقات العدالة الاجتماعية ، التطبيقات التي تعتبر كونية وصحيحة ا والتطبيقات التي تتناسب فقط مع ظروف محددة زمانية او مكانية[3]. وبعد تحديد هذه التطبيقات نناقش قابلية النظريات المطروحة كحل ، لايصالنا الى غايتنا او اعاقتنا عنها. هذا يستدعي في حقيقة الامر تخفيف هالة القداسة التي تحيط باراء الفقهاء لاسيما القدامى منهم ، والتي تلعب دورا مقيدا لتفكير الاسلاميين المعاصرين. صحيح ان استذكارهم هو تاكيد على قيمة التجربة الثقافية وتعميق لها ، كما انه اقرب الى نفوس المتلقين. لكن تنزيهها عن التعامل النقدي قد يحولها الى غاية بديلةن الغاية الحقيقية اي اقامة العدالة الاجتماعية. في تجربة ايران المعاصرة راينا بوضوح ان موقف السياسيين والمفكرين كان اقرب الى تفهم حاجات العامة والطبقات الاجتماعية الضعيفة من موقف الفقهاء ، رغم ان هؤلاء يدعمون طروحاتهم بحشود من الادلة من النص والسيرة وسيرة المتشرعة واراء الفقهاء السابقين.


المسألة الثالثة

الاطار الفقهي للبحث : مع بعض التحفظ يمكن القول ان جميع ماكتب حول السلطة السياسية والدولة في التراث الاسلامي القديم ومعظم المعاصر كتب في اطار علم الفقه. السبب الرئيس لهذا هو هيمنة المدرسة الفقهية على التفكير الاسلامي منذ القرن الحادي عشر الميلادي وحتى اليوم. الفقه – في جانب المعاملات – يقابل القانون في العلوم الحديثة. بالمقارنة فان الابحاث التي تناولت المسألة في العلوم المعاصرة تدور في اطار الفلسفة السياسية ، علم الاجتماع والسياسة ، القانون. وهذه تعتمد بدروها على مجموعة علوم مثل الانثروبولوجيا وعلم النفس والاقتصاد.
السؤال الذي يراودني : هل الفقه هو المكان الصحيح لبحث مسالة الدولة؟
علم الفقه لا يفسر وقائع اجتماعية ولا يضع نظريات ارشادية ، بل يتعامل مع الوقائع القائمة على الارض كما هي ويكيفها ضمن اطاري الحسن والقبيح ثم يقرر قيمة عمل المكلف فيها (حلال ، واجب ، مستحب ، حرام ، مكروه). ليس من المتعارف في تقاليد الفقهاء دراسة الموضوعات بذاتها (كما هو الشان عند الباحثين الاجتماعيين) ولا نقد الموضوعات القائمة والتنظير لبدائل (كما يفعل الفلاسفة). ولا النظر في الحقوق والواجبات والاثار المترتبة على الحكم عند تقريره.
اضف الى ذلك ان علم الفقه المعاصر اكثر انشدادا الى الماضي منه الى الحاضر. لا زال فقهاؤنا – بقدر ما اعرف – يدورون في اطار التعريفات القديمة للموضوعات وتمثيلات الحسن والقبح . لهذا فهم يقفون موقف المتردد تجاه فكرة الوطن ومبدا المواطنة كاساس للنظام الاجتماعي الجديد وكذا في مسالة الحريات الفردية والمدنية والانتخاب وفصل السلطات وسيادة الامة الخ.
للسببين السابقين – ربما – نجد انفسنا مضطرين لاعتماد الانتاج المعرفي الغربي حين نفكر في الدولة  والسياسة. وهذا هو الذي يضعنا امام مفارقات واشكالات عند المقارنة بين ما نراه فاضلا في عالم اليوم (الديمقراطية مثلا) وما نشعر بالتزام نحوه (التعاليم الدينية).
اعتقادي الشخصي ان الجيل الجديد من الفقهاء والمفكرين الاسلاميين يتحملون مسؤولية اخراج مسألة الدولة والنظام الاجتماعي من دائرة الفقه الضيقة الى دائرة الفلسفة السياسية وان يتحرروا من قيود الراي الفقهي القديم. الاستمرار في مناقشة ما توصل اليه السابقون سيفيدنا على المستوى العلمي المجرد . لكنه لن يقودنا لتصور يلبي – في آن واحد - حاجات المسلم المعاصر والقيم العليا في الاسلام.

فيما يتعلق بورقة د. كوثراني خصوصا:

لاحظت ان الباحثة لم تناقش نظرية المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين بذاتها ، بل وضعتها في مقابل نظرية الخميني وناقشت الاخيرة.
بقدر ما اطلعت عليه من كتابات المرحوم شمس الدين ، فقد وجدت الملاحظات التالية:
محمد مهدي شمس الدين

1-   لم يكن شمس الدين محددا في نقده لأدلة ولاية الفقيه. بل اتبع منهجا يمكن وصفه بالاعتذاري الذي يستعمل نفس التكييف الفقهي ومنظومة الادلة الخاصة بولاية الفقيه ، بوضع حدود لتسلسل الدلالة ، بدلا من نقد الادلة ذاتها ، وهو نقد متعارف وقوي في التراث الفقهي. مثلا مقبولة عمر بن حنظلة ضعفها واضح من اسمها ، وهي غير متينة من حيث السند (خبر واحد) ولا نصها قطعي الدلالة. فهل يمكن حمل قضية بهذا الحجم (التصرف في دماء الناس واموالهم واعرضهم) على دليل كهذا؟.

ومثل ذلك دليل اللابدية الذي غاية ما يدل عليه وجوب قيام نظام عام للمجتمع وفسر بانه الحكومة ، لكنه لا يدل على ابعد من هذا القدر. بقية الالزامات قامت على ما افترض الفقهاء انه تسلسل منطقي ، مثل اذا قام نظام كهذا فمن يتولى عليه الخ.

2-   لسبب ما لم يناقش المرحوم اراء الفقهاء الذين خالفوا السياق العام ، وهي – رغم قلتها - تعتبر اضافة هامة للبحث في المسالة ، مثل راي الشهيد الاول العاملي (ت 1384م) والمقداد السيوري (ت 1425م) القائل بان الحاكم الشرعي يستحب له التخلي عن السلطة اذا كان الشعب غير راض بحكمه لانه يحكم لمصلحتهم ، وليس من المصلحة ان يفرض نفسه عليهم دون رضاهم[4]. وراي الشيخ الانصاري (ت 1281 هح) الذي قرر ان موضوع الولاية هو "مال المولى عليه وليس نفسه" ، وانها مشروطة بمصلحته. وراي بحر العلوم (ت 1326 هج) الذي رجح اقتصار ولاية الامام على معنى وجوب طاعته ونفوذ امره ، لا ان له التصرف في نفوس الناس واموالهم بمطلق ارادته كما هو الراي الشائع بين الفقهاء[5]. وكذلك نقاشات العلماء اثناء الثورة الدستورية في مطلع القرن العشرين ، فضلا عن نقاشات العلماء الايرانيين بعد الثورة ، سيما اية الله الخميني واية الله منتظري اللذين قدما تعديلات هامة على نظرية ولاية الفقيه في صيغتها الاصلية.

3-   بدا لي حين قرات كتاب الشيخ شمس الدين انه استخدم ما يشبه الهندسة العكسية. نظر الى الصورة المتداولة عن تطبيق ولاية الفقيه وفكر في نزع اشكالاتها . لهذا لم يتعمق في مناقشة فكرة "الولاية" بذاتها ، ولم يناقش المصادر البديلة او الموازية لشرعية السلطة ولا معنى المكون الديني للسلطة. كما لم يتوسع في مناقشة الصلاحيات المدعاة للحاكم.

خلاصة

1) طبقا للنتائج التي توصلت اليها في بحوث سابقة ، فقد كانت "ولاية الفقيه" اداة لحل اشكالية عميقة في التفكير الديني عند الشيعة تتمثل في انكار شرعية أي سلطة قائمة ، حتى مع الاقرار بجواز التعامل معها او تخويلها سلطات ادارية لا تختلف كثيرا عن سلطة الامام المعصوم لو حكم فعلا. ذلك الانكار أدى سابقا الى قيام عالمين منفصلين : عالم ديني يتبرأ من السياسة ويعتبرها موطنا للاأخلاقية وعالم سياسي ضروري ونشط ، لكنه فاقد للشرعية. هذه الثنائية اعاقت أي مشاركة ايجابية للجمهور في تطوير الدولة او نقدها على ارضية قبول مبدئي بشرعية النظام.

قبل الخميني كانت الفكرة السائدة في المجتمع الديني هي ان التدخل في السياسة لا ثمرة فيه دنيويا ولا هو طريق للاخرة. بعد الخميني اصبحت السياسة جزءا من الحياة اليومية لمعظم الناس ، واصبح الناس يشاركون في العمل السياسي دون ان يشعروا بتفارق بين دنياهم واخرتهم.

ادت النظرية دورها كاملا ونقلت الشيعة الى عصر جديد. لكن الواضح انها غير قادرة على تجاوز هذه المرحلة. بنيانها النظري لا يحتمل اكثر من هذه المهمة . الاصرار عليها بتفاصيلها هو السبب – كما يبدو لي – في التفارق المشهود اليوم بين الجيل الجديد من الايرانيين والحركيين الشيعة وبين الزعامة الدينية. وهو تفارق يضع ايران امام واحد من طريقين: اما تخلي النظام عن التصوير الحالي للنظرية (وهو تصور يتجاوز كثيرا رؤية اية الله الخميني) ، وهذا امر متوقع بعد رحيل المرشد الحالي ، او تحولها الى دولة قمعية كاملة شبيهة بتركيا او باكستان ايام حكم العسكر.

يعتقد التيار الاصلاحي في ايران ان الخيار الاول ضروري للحفاظ على المضمون الديني للدولة وصيانة ثقة الجمهور بالدين ، بينما يرى المحافظون التقليديون ان الفقهاء هم وحدهم المخولون بمراجعة الجوانب النظرية ، وهم الذين سيخبرونا ان كنا بحاجة الى تعديل في ولاية الفقيه او التخلي عنها.

ب) معظم نقاشاتنا الحالية حول النظام السياسي المأمول تعتمد على المنجز المعرفي الغربي. ونحن نقول عادة ان الفكر الانساني هو تجربة مشتركة لجميع البشر. لكن مباديء وقيم الدولة الحديثة هذه لا تزال اشبه بجسم غريب في الثقافة السياسية في مجتمعاتنا. كثير من الناس ينادون بالحرية ، لكنهم في الوقت نفسه يتحدثون عن ضوابط تفرغ مبدا الحرية من مضمونه . انهم يريدونها ويخافونها. الناس غاضبون من تغول الدولة وتدخلها في حياتهم لكنهم في الوقت نفسه يطالبونها بالمزيد من الخدمات وبالحزم في مراقبة الخارجين على القانون والسرعة في اتخاذ القرار ، وهذه كلها من سمات الحكم الفردي.

هذا يشير الى ان الثقافة السياسية ، والتفكير  في الدولة لم يتشكل بشكل منظومي بل على شكل اجزاء مقتطعة من سياقاتها. واظن ان احد الاسباب وراء هذا هو النقل غير المتبصر للتراث ، وقلة البحث في القضايا النظرية في السياسة والتلقي المندهش او الانفعالي للمنتج التراثي والغربي على حد سواء.
اذا كنا نطمح الى دولة جديدة يحميها الشعب ويقرر الشعب مسارها ومصيرها ، فاننا نحتاج الى كثير من النقاشات على مستوى النخبة والشارع ، حتى نرسخ ثقافة سياسية جديدة ، تربط بين القيم الروحية والمعرفة الجديدة التي كسبناها بالتجربة والاتصال بالعالم.
نحن بحاجة الى الايمان باننا مثل اسلافنا نستطيع صياغة نموذج ايماني – معرفي يعمر دنيانا ويضمن اخرتنا. بحاجة الى الانطلاق من اسئلة يومنا هذا ، والبحث عن اجابات تتناسب مع هذا اليوم. كلام الاسلاف كان جوابا على اسئلة زمنهم ، وهي لا تفيدنا كثيرا في يومنا ، لان موضوع السؤال مختلف باختلاف افقه التاريخي والبيئة الاجتماعية التي شهدت مولده.




[1] اية الله الخميني : صحيفه نور ، ج 20 ، ص 233.ن.إ:  http://www.islamicecenter.com/ketaabkhaaneh/sahifeh_noor/sahifeh_noor_jeld_20_khomeini_08.html#link63
لتفاصيل حول الدور الوظيفي لنظرية ولاية الفقيه في الدولة ، انظر توفيق السيف :

دور الخميني في تعديل نظرية السلطة عند الشيعة ، في هذه المدونة

http://talsaif.blogspot.com/2006/01/blog-post_30.html
[2] اية الله الخميني ، رسالة الى اعضاء مجمع تشخيص مصلحة النظام ومجلس صيانة الدستور في 1 يناير 1989.  صحيفه نور  ج 21 . ن.إ http://www.islamicecenter.com/ketaabkhaaneh/sahifeh_noor/sahifeh_noor_jeld_21_khomeini_02.html#link27
[3] يعتقد ديفيد ميلر مثلا ان لكل مجتمع مفهوم خاص للعدالة مرتبط بنمط الحياة ونظام العلاقات الخاص به ، ينعكس على قيمة العلاقات والتبادلات وتحديدها كتحسيدات للعدل او العكس.  David Miller, Social Justice, (Oxford, 1979), p. 255 .
[4]  العاملي ، محمد : القواعد والفوائد (قم د. ت) ج 1 ، ص 406. ايضا السيوري، المقداد : نضد القواعد الفقهية (قم 1982) ص 492
[5] محمد بحر العلوم : بلغة الفقيه ، تحقيق حسين آل بحر العلوم ، ط 4 مكتبة الصادق ، طهران،  3/215

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...