غرض
هذه المقالة هو التنبيه على الحاجة الى تطوير منهج البحث الفقهي المتعلق بالدولة
والسياسة. وصول الاسلاميين الى السلطة في اكثر من بلد ، حرر العقل المسلم من
اشكالية المشاركة في نظام سياسي مختلط او علماني او – بشكل عام – مؤسس على منظومة تخالف
ما كان الاسلاميون يتطلعون اليه.
قبل
الثورة الاسلامية الايرانية (1979) كان بعض الاسلاميين يتطلع الى السلطة التشريعية
"البرلمان" كمجال ممكن للمشاركة في الدولة القائمة. انتصار الثورة عزز
ميل التيارات الاسلامية الى الحلول الجذرية ، اي الهيمنة الكاملة على السلطة
واقامة نظام جديد على ارضية دينية. لكن تطورات ما بعد الحرب العراقية الايرانية ،
والاشكالات التي مرت بها تجربة ايران ، اضافة الى تصاعد الميل في العالم كله نحو
منهج التحول الديمقراطي ضمن الانظمة القائمة ، دفع بمعظم الاسلاميين الى مراجعة
متبنياتهم السابقة. فلم يعودوا مقتنعين بقصر مشاركتهم السياسية على السلطة
التشريعية ، كما اصبحوا قانعين بالمشاركة الجزئية في الحكومات القائمة مع الاحزاب
والتيارات الاخرى ، بعدما شغلهم حلم الانفراد بالسلطة ، كما هو الحال في ايران.
هذا
ظرف سياسي جديد ، لم يسبق للاسلاميين التنظير له. وهو يضعهم امام اشكالات هامة
وحرجة ، لجهة الاقرار بدور "الشريك المختلف" الذي لا يتبنى - وربما لا
يقبل - فكرة الدولة الدينية. في حقيقة الامر فان بعض الاسلاميين ما عادوا يتحرجون
من القول انهم يريدون دولة مدنية ديمقراطية يكون الدين مرشدا لها في الاطار العام
دون التفاصيل[1]. هذا على الاقل ما
تحدث عنه صراحة الاخوان المسلمون في مصر ، وحزب النهضة في تونس ، وقبلهما الاحزاب
الدينية في العراق.
لكن
المشكلة لا تقف عند هذه الحدود. نحن ازاء جدل اعمق واكثر جذرية ، يتمثل في التفارق
بين مفهوم الدولة الحديثة الذي نخضع له ونسعى للاندماج فيه ، وبين نموذج الدولة
الدينية الذي نتخيله ونقرأ حوله في كتابات قدامى الاسلاميين. ويتبع هذا التفارق
جدل بين فكرة الديمقراطية والشورى ، وبين مصدر السلطة السماوي والارضي ، وبين فكرة
العدالة الاجتماعية والتكافل ، وبين مبدأ المواطنة ومفهوم الرعية او مجتمع
المكلفين.. الخ. هذه كلها اشكاليات جدية وجديرة بالنقاش. وهي بحاجة الى معالجات
توصلنا الى اعادة انتاج مفهومات جديدة عن الدولة والسياسة ، مفهومات تستجيب
لمتطلبات العصر والبشر الذين يعيشون فيه من ناحية ، وتحقق غايات الدين الحنيف في
العدل والتقدم ، من ناحية اخرى.
تؤكد
المقالة على هذه الحاجات. وتبدأ بعرض موجز لاسباب التفارق بين مفهوم الدولة
الحديثة ونظيره في التراث الفقهي. ثم تقترح توسيع نطاق البحث حول قضايا الدولة
والسياسة ، كي يتجاوزالحدود الضيقة للفقه في معناه المتعارف ، وتحرير النقاش حول
المضمون الديني للسلطة من قيود الفتوى. وتقدم اخيرا بعض الامثلة عن قضايا يتجلى
فيها التفارق بين المنظورين ، وهي في الوقت ذاته عميقة ومتشعبة بحيث لا يمكن
التعامل معها بمنطق الفتوى.
اشير
هنا الى ان القاريء سيلاحظ ان الامثلة والشواهد تنتمي للاطار الفقهي الشيعي. السبب
الوحيد لهذا هو اطلاع الكاتب بشكل مفصل على هذا المجال وقلة بضاعته في فقه المدارس
الاسلامية الاخرى. الامثلة تبقى ضمن حدودها ، لكن النتائج قابلة للتعميم كما يعرف
المختصون. عناصر القوة والضعف في الفقه الاسلامي مشتركة بين مدارسه المختلفة وهي
متشابهة الى حد كبير ، رغم بعض التمايزات.
في
يناير 1988 كتب اية الله الخميني الى رئيس الجمهورية معلقا على حديث له في صلاة
الجمعة :
"السلطة المتفرعة عن
ولاية رسول الله المطلقة من احكام الاسلام الاصلية ، وهي مقدمة على جميع الاحكام
الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج.. سلطة الدولة الاسلامية عامة وتشمل كل جوانب
الحياة الاجتماعية بما يتجاوز الحدود المتعارفة في الابحاث الفقهية"[2].
كان
هذا ردا على جدل وصفه الخميني لاحقا بجدل مدرسي نظري ، لن يعين على حل اي مشكلة بل
سيقودنا الى طرق مسدودة ، وينقض الدستور[3].
اعتقد
ان الخميني هو واحد من ابرز مجددي الفقه الاسلامي في العصور الاخيرة. وبحسب
متابعتي لتطور الفقه الشيعي في جانب السياسة والدولة بشكل خاص ، فاني لا اتحفظ عن
اعتباره ابرز من عالج هذا الفرع من الفقه خلال القرون الثلاثة الاخيرة على الاقل. كان
الخميني واعيا بجذور المشكلة التي واجهتها دولته. لم يكن الامر متعلقا بخلاف حول
فتوى او تعريف موضوع[4].
حتى القرن العاشر الميلادي لم يعرف الفقه الشيعي
نقاشا معمقا حول مسألة السلطة والدولة – او "الولاية" كما كانت تعرف في
ذلك الوقت -. معظم النقاشات دارت على حاشية النصوص الخاصة بالامامة العظمى في
تصورها المثالي الذي يشير حصرا الى الائمة المعصومين ، المنصوبين من قبل الخالق
سبحانه. من هنا تاثر النقاش – قسرا – بالاطار الذي تبحث فيه المسألة ، اي العقائد
او علم الكلام. نعلم ان العقائد حدودها ضيقة . لذا فان البحث الفقهي تمحور حول
جانب ثانوي نوعا ما ، هو مشروعية العمل مع السلطان الجائر، تجويزا او تحريما ،
بسبب ارتباطه باشكالية غصب السلطة. وهو نقاش يدور في اطار الفقه لكنه يخضع
للمقدمات الكلامية الخاصة بعقيدة الامامة.
المقدمة
الاساسية تقول بان الحكم لا يكون شرعيا (في المعنى الديني البحت) الا اذا كان
المعصوم على رأس السلطة . ولان هذا لم يتحقق منذ تنازل الامام الحسن بن علي عن
الخلافة في سنة 40 للهجرة ، فقد وصمت كل الحكومات التي قامت بعدئذ بانها غاصبة .
وكان العمل فيها يثير اشكالا جديا : هل يعتبر العمل مع السلطان الغاصب مشاركة في
الغصب او تسويغا له او مساعدة على ترسيخه؟.
استمر
الربط الشديد بين الجانبين الكلامي والفقهي للمسألة حتى القرن العاشرالميلادي ، حين
فصل الشيخ محمد بن النعمان المعروف بالمفيد (948-1022م) المسارين ، وتحدث عن عمل
السلطان كتطبيق ممكن للحسبة (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، وهو واجب شرعي
قائم مع وجود الامام ومن دونه. اجاز المفيد العمل في الحكومة غير الشرعية ، شرط
التزام العامل بمنع الظلم ومساعدة الضعفاء على نيل حقوقهم ، وضمان خير الامة ، ومنع
اساءة استخدام مصالحها. واعتبر هذا تطبيقا لوظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر[5]. وساعد الشريف
المرتضى (966-1044م) ، تلميذ المفيد ، في تطوير المقاربة في رسالته المشهورة
"رسالة عمل السلطان"[6].
كان وجود
الدولة البويهية ظرفا مساعدا لتطور من هذا النوع. لكن المسيرة توقفت عند هذه
الحدود. بل وحدث تراجع جدي بعودة الميل الى التشدد ازاء العمل مع السلطان . سيما
خلال القرن السابع عشر والثامن عشر اللذين شهدا هيمنة الاتجاه الاخباري على
المدرسة الفقهية الشيعية.
وحين انحسر المد الاخباري في اواخر القرن الثامن
عشر بجهود رجال مثل الشيخ محمد باقر الأصفهاني المعروف بالوحيد البهبهاني (1706-1791م)
، بقي تاثيره نشطا من خلال ما يمكن وصفه باتجاه مصالحة بين الاتجاه العقلاني
الصريح الذي يأخذ به الفقهاء الاصوليون ، والمبالغة في تهوين مكانة العقل ، كما هو
شائع بين الاخباريين. اتجاه المصالحة هذا حمل معه تراجعا عن اعتبار العقل مصدرا
مستقلا للحكم الشرعي ، لصالح منظور محافظ يقصر دور العقل على كشف مفاد النص. مع
هذا التحول اعيد احياء الروايات الكثيرة التي دعمت في الماضي ميلا انعزاليا يعتبر
السلطة والدولة عالما فاسدا ولا اخلاقيا ، ومكانا لا يليق بالمؤمن الحريص على
آخرته. وجرى تدعيم هذا الاتجاه بالروايات الخاصة بغيبة الامام الثاني عشر ومعانيها
وما يترتب عليها. وهكذا اصبح العمل مع السلطان مخاطرة بالدين ، والسعي للسلطة خروجا
على سيرة المؤمنين ، وادعاء الحق فيها اصطفافا مع الشيطان والطاغوت[7].
الميل
لاعلاء مكانة النص يؤدي بالضرورة الى غلبة المنهج الظاهري الذي يتعبد بظاهر النص
بدل اعتباره مفتاحا لكشف الرسالة التي
تنطوي في ثناياه ، والتي ينبغي – منطقيا - ان تنسجم مع روح الشريعة ، او الفلسفة العامة
للتشريع ، "المدرسة الاسلامية" كما اسماها المرحوم الصدر-. ذلك الميل
الاخباري واضح في تهوين الفقهاء لمكانة العقل والاجماع ، وحصر الاكثرية لدورهما في
كشف مقصود النص ، بدل اعتبارهما مصدرين مستقلين للاحكام. وهو واضح ايضا في معالجة الاصوليين
التي يغلب عليها التردد للمسالة المعروفة بالقبح والحسن العقليين. اظن ان معالجة
جادة لهذه المسالة يمكن ان تؤسس لقبول عرف العقلاء كاداة علمية مقبولة في تكييف
الحكم الشرعي وتطبيقاته ، وفي تحديد موضوعاته. وفي الموضوع السياسي خصوصا ، فان
القبول بهذه القاعدة يمكن ان يؤسس لقبول الراي العام كاداة مشروعة لتشخيص المصالح
العامة وتفويض السلطة.
اشكالية
الامامة/الغصب فرضت حدودا ضيقة على البحث الفقهي في قضايا الولاية السياسية. وتجد
هذا واضحا في معالجة الفقهاء لمسائل مثل نصب القاضي وممارسته مهام الولاية الصغرى
او الخاصة ، كما تجده في معالجتهم لمسألة الخراج (المال العام) وشرعية تصرف الوالي
فيه للمصالح العامة ، كما تجدها في مسائل الحدود والحقوق المالية الخ. من ذلك مثلا
راي ابي الصلاح الحلبي (ت 1055م) الذي اجاز للفقيه المؤهل تولي القضاء في حكومة
الجور رجوعا الى اذن ضمني/افتراضي من الامام ، في هذه الوظيفة على وجه الخصوص[8]. ومن ذلك راي الاصفهاني
الذي اجاز ادارة الحاكم الجائر للمال العام في غيبة الحاكم العادل[9]. هذه امثلة عن
معالجات حاولت ايجاد مخارج لما ابتلي به
الناس مع استقرار دولة الامرالواقع ، وضمور الامل في الدولة المثالية المتخيلة.
لكنها بدل ان تقدم تنظيرا جديدا حول اصل الموضوع ، اي الدولة الواقعية ، وامكانية
العدل النسبي او التحول نحو الحكم العادل في اطارها ، فقد اكتفى الفقهاء بمعالجات
جزئية من نوع ما ذكرنا.
تقصير
الفقهاء في معالجة هذه المسائل هو امتداد لعلة اوسع ، تتمثل في اغفالهم المزمن للبحوث
الفقهية المتعلقة بالشان العام ، وتركيزهم الزائد عن الحاجة على الفقه الخاص
بالعبادات الموجه للافراد. ويعتقد اية الله زنجاني ان موضوعات الفقه العام ، لا تحظى بقيمة اعتبارية
في المجامع العلميـة والحوزات ، شبيـهة للقيـمة التي تحظى بها أبحاث في مجالات
الفقـه الفردي ، مثل أبحاث الطهارة والصلاة وما إليها[10].بعض الباحثين ارجع هذا
التقصير الى يأس الفقهاء من امكانية قيام دولة عادلة ، او ربما لهيمنة قناعة ضمنية
فحواها ان سلطة "التغلب" قد اصبحت مصيرا نهائيا في العالم الاسلامي. لكن
اية الله خامنئي ، مرشد الثورة الايرانية ، لاحظ ان هذه الحالة كانت لا تزال سائدة
في المدارس الدينية بعد اكثر من عقد على قيام الحكومة الاسلامية[11]. ولهذا – ربما –
يفضل باحثون اخرون نسبتها الى عيب منهجي في الدراسات الشرعية ، يتمثل في هيمنة الاتجاه
الى التنظير المجرد ، وعدم اهتمام الدارسين بربط ابحاثهم مع تحولات الواقع
والزاماته[12].
ايا كان السبب فقد بقي الفقه الاسلامي خلال
المئتي عام الماضية ، منشغلا بقضاياه وجدالاته القديمة ، غافلا عما يجري في العالم
الذي تغيرت قضاياه واسئلته ، وتغيرت معها ادوات المعالجة والنقد. وكان من بين ما
تغير فكرة الدولة ومفهوم السياسة ، والمباديء التي تقوم عليها ، والقيم التي تمثل
مضمونها. مفهوم ان فكرة السلطة والدولة والتنظيم السياسي وعلاقة الدولة بالمجتمع ،
تعرضت لتحولات جذرية خلال القرنين الماضيين ، ولا سيما في النصف الثاني من القرن
العشرين. لكن هذه التحولات العميقة لم تترك اثرا على البحث الفقهي في قضايا الدولة
والولاية ، يتناسب مع سعتها وعمقها ، لان البحث الفقهي كان منشغلا بغيرها وغافلا
عنها.
كنتيجة لهذا فان ما يمكن وصفه بفقه الدولة او
الفقه السياسي الذي ورثناه هو فقه مفكك يتعامل مع اجزاء الموضوع كدوائر منفصلة ، لا
كاجزاء في صورة كاملة. بغض النظر عن الاسباب وتحديد المسؤوليات ، فان هذا الفقه
الموروث ما عاد مؤهلا للمهمة التي نادى بها معظم الاسلاميين ، اعني اسلمة الدولة ،
سواء على المستوى الدستوري او على مستوى القانون.
الحاجة
الى اعادة اكتشاف الموضوع
كان الامام الخميني بين الذين توصلوا الى هذه
الحقيقة بعد قيام الثورة الاسلامية. حين اكتشف ان دولة حديثة لا يمكن ان يقام
نظامها القانوني على ارضية الفقه الموروث. ولهذا طالب باجتهاد جديد ، ليس في
الفروع ، بل في اصول المسائل ، في مسألة مثل اولوية النظام العام على الاحكام
الفرعية ، مهما كانت مهمة ومحورية في التصور الديني ، ومسالة مثل جعل
"المصلحة العامة" بمعناها المادي العقلائي مبرر ترجيح لحكم على حكم ،
حتى لو كان المرجوح هو المستفاد الظاهر من النص.
لست
مؤمنا بان الفقه هو الاطار العلمي المناسب للنقاش في مسالة الدولة وقضاياها. لكننا
نواجه حقيقة واقعة ، هي هيمنة القراءة الفقهية للدين على التفكير الاسلامي في
مختلف جوانبه. هذا يقودنا الى مسألة اوسع قليلا ، تتعلق باطار وغاية البحث العلمي
في امور الشريعة. ثمة فهم عام فحواه ان اي بحث في العلوم الشرعية لا بد ان يستهدف
التوصل الى اقرار حكم او دحض حكم او قاعدة شرعية. لعل هيمنة القراءة الفقهية هي
السبب وراء هذا الربط المتكلف.
معروف
ان الفقه علم احكام ، غرضه تقديم اجوبة على شكل الزامات شرعية جديدة ، او نقض
الزامات قديمة. في المقابل فان البحث العلمي في معناه العام لا يستهدف بالضرورة
تقديم اجوبة او انشاء الزامات ، قدر ما يستهدف معالجة الاسئلة المثارة ، بتفصيحها
وتطوير نموذج ارقى منها. طبقا للفيلسوف المعاصر كارل بوبر ، فان ما نعتبره نظرية
ليس سوى احتمال ذي طبيعة مؤقتة. وهو مفتاح لاحتمال نقيض او مخالف. انه اذن اشبه
بسؤال ثان يقدم ايضاحات اجلى وادق لموضوع السؤال الاول[13]. البحث في مسائل
مثل الولاية الشرعية والدولة الدينية لا يستهدف – بالضرورة - تقديم فتاوى ، بل تطوير المعطيات النظرية
الداخلة ضمن معالجة الموضوع. ومن هنا فان رفضنا او نقضنا لبعض ما يعتبر مسلمات في
هذا الحقل ، لا يمثل انكارا لامر ديني ، لانه ليس في صدد الفتوى ، بل في صدد
مناقشة الموضوع. معارضة اي فكرة ، حتى لو اجمع الناس على اثباتها شرعا ، لا ينبغي
ان يعتبر معارضة لله والرسول ، بل مناقشة لموضوع واقعي ولفهم الناس له وتكييفهم
لقيمته.
امثلة
على النقاشات المطلوبة
منذ
النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطور البحث في "السياسة" كحقل علمي
متخصص. وظهرت تبعا لذلك حقول فرعية عديدة
ساهمت في تطوير نقاشاته. الفلسفة السياسية ، القانون ، الاقتصاد السياسي ، هي بعض
الامثلة عن حقول علمية اتخذت قضايا الدولة والسلطة موضوعا لنقاشاتها. على نفس
المنوال فان التفكير الديني في السياسة والدولة لن يستطيع اقامة حقل علمي متطور
اذا بقي محصورا في الاطار الفقهي ، المعني
اساسا بالجانب القانوني من الحياة.
نحن
بحاجة الى معالجة دينية للجوانب القانونية . لكننا ايضا بحاجة الى معالجة الجوانب
الاخرى السابقة للقانون. من ذلك مثلا مفهوم السلطة. لازالت مناقشات الاسلاميين –
حتى يومنا هذا – تقارن بين سلطة الشعب وسلطة الفقيه. وهي تنطلق من فرضية التعارض
بين الاثنين. هذه الفرضية قائمة بدورها على مسلمة سابقة فحواها ان الولاية في
جوهرها هي مجموع الصلاحيات او السلطات التي يتمتع بها رئيس الدولة. واقع الامر ان
الرئيس في الدولة الحديثة ليس سوى كبير الموظفين. الدولة الحديثة هي مؤسسة قانونية
ووظيفية قائمة بذاتها ، مستقلة عن شخص الرئيس. واذا كان الامر الواقع في بلداننا
ينحو الى تلخيص الدولة في رئيسها ، فاننا بحاجة الى هجر هذا الفهم الذي يمهد
للاستبداد ، الى فهم ارقى يدور حول الدولة كمؤسسة قانونية يملكها المجتمع.
ومن
ذلك ايضا مصادر الشرعية السياسية. يركز المفهوم القديم على "عمل" الوالي
الذي يجب ان يكون مطابقا للحق ، ومن هنا فان شرعية سلطانه مستمدة من صحة عمله.
بينما يركز المفهوم الحديث للدولة على "تمثيل" الوالي للارادة العامة.
ما هو مشروع هنا هو ما يلبي الارادة الشعبية وما يطابق القانون. الوالي هو ممثل
للشعب ومن هذا التمثيل يستمد مشروعية سلطته.
ومنها
ايضا حقوق الانسان التي تعتبر اليوم احد ابرز معايير العدالة. حقوق الانسان تتضمن
مباديء لازالت غير محسومة في الاطار الفقهي مثل حرية الاعتقاد والراي والتعبير
ومخالفة الحاكم العادل ..الخ.
وتتحدث
النقاشات الفقهية عن صلاحيات مطلقة للحاكم الشرعي ، لا يقيدها سوى عدالته النفسية
. بينما يقوم بناء الدولة الحديثة على اعتبار الدولة منحازة ، واعتبار ملكيتها
لوسائل الجبر المادي سبيلا محتملا للفساد او الاستئثار ، وعادة ما يستشهد بمقولة السياسي
والمفكرالانجليزي اللورد اكتون "لا تتعلق المسالة بان طبقة معينة عاجزة عن
الحكم . المسالة ان السلطة بذاتها مظنة للفساد والسلطة المطلقة مظنة للفساد
المطلق"[14].
لهذا السبب فان النقاشات
السياسية المعاصرة لا تعول ابدا على اخلاقيات الحاكمين في منع انزلاق الدولة الى
الفساد او الاستبداد ، بل على ادوات الردع الخارجي ، مثل المعارضة القانونية
والصحافة الحرة والبرلمان المنتخب ، فضلا عن القيود الدستورية على السلطات.
مبدأ
المواطنة يشكل هو الاخر مثالا على التفارق بين مفهوم الدولة الحديثة ومفهوم
الولاية الشرعية المتعارف في البحوث الفقهية. المفهوم الدارج في مجامع العلم
الشرعي يعرف الفرد كعضو في الجماعة الدينية ، كمتدين او مكلف ، لا كمواطن[15]. وطبقا لاية الله يزدي
فانه "في الوقت الذي يعتبر المواطنون - من حيث المبدا - متساوين ، فان حقوقهم
ولا سيما الحق في اشغال المناصب العامة ليس على هذا النحو "[16].
هذه
أمثلة عن نوعية النقاشات التي نحتاج لاثارتها وتقديم معالجات دينية لها ، تتناسب
مع معطيات العصر الحاضر وحاجات الناس فيه. قبول الناس بالقيم الدينية كمضمون
للنظام السياسي او ارتيابهم في المضمون الديني للدولة يتوقف – الى حد كبير – على
قدرة الاسلاميين على تطوير منظومة مفاهيم جديدة تستلهم القيم العليا للدين الحنيف
ولا تتنكر لتجربة الانسان المعاصر. هذا يتطلب بالتاكيد التحرر من السياق المنهجي
الموروث للبحث الديني في قضايا الدولة والولاية.
الخلاصة:
شهدت
السنوات الاخيرة نموا كبيرا للمد الاسلامي ، تجلى في وصول الاسلاميين الى السلطة
في عدد من الدول العربية . كشف هذا التطور عن تنامي الميل العام بين المسلمين الى
دولة جديدة تحقق قدر معقولا من العدل في تطبيقاته المعاصرة ، مثل سيادة القانون ،
المشاركة الشعبية ، والضمان القانوني لحقوق الانسان . مع هذه التحولات ، تزداد
الحاجة الى مراجعة المفاهيم الخاصة بالدولة والسلطة التي ورثناها عن الاسلاف.
من
المفهوم ان لكل جيل من اجيال المسلمين حق المشاركة في صنع تصوره الخاص للفكرة
والممارسة الدينية ، تطبيقا لجوهر فكرة الاجتهاد وتاثير الزمان والمكان في تشخيص المصالح
الشرعية وانتاج الحكم الشرعي المتناسب مع الزاماتها. تطبيق هذا المعنى يقتضي العمل
على اعادة انتاج فهمنا الخاص للتحديات التي نواجهها ، وفي طليعتها بالتاكيد تحدي
العدالة والدولة العادلة.
ما
ورثناه من الفكر الديني الخاص بالسلطة والدولة لا ينسجم مع واقعها اليوم ، ولا
يخدم كثيرا حاجاتنا ، وهو – بالتالي – لا يستجيب لتحديات عصرنا. لا يكفينا اذن ان
نعود الى ذات المقولات وذات المنهج الذي اتبعه الاسلاف كي نستعمله في معالجة اسئلة
العصر. سيكون هذا - مثلما وصفه الامام الخميني - مجرد نقاش مدرسي لا يوصلنا الى اي
مكان. نحن بحاجة الى مطالعة الاسئلة الرئيسية لدولة اليوم ، على ضوء القيم العليا
التي يريد الدين الحنيف اقامتها ، مهما بدا انها تتفارق مع المفهومات والنتائج
التي توصل اليها الاسلاف. نحن بحاجة الى سؤال انفسنا عما نريد وعما نراه صلاحا
لامرنا في هذا اليوم وفي هذا المكان بالتحديد. اجوبة الامس كانت مناسبة لاسئلة
الامس ، ولدينا اليوم اسئلة جديدة مختلفة وواقع جديد مختلف.
[1]
انظر مثلا عصام العريان: الإخوان المسلمون
ومفهوم الدولة ، موقع اون اسلام (7-11-2007)
http://www.onislam.net/arabic/madarik/concepts/102465-2007-11-07%2016-12-32.html#8
[2]
اية الله الخميني : صحيفه نور ، ج 20 ، ص 233.ن.إ: http://www.islamicecenter.com/ketaabkhaaneh/sahifeh_noor/sahifeh_noor_jeld_20_khomeini_08.html#link63
[3]
اية الله الخميني ، رسالة الى اعضاء مجمع
تشخيص مصلحة النظام ومجلس صيانة الدستور في 1 يناير 1989. صحيفه نور ج 21 . ن.إ http://www.islamicecenter.com/ketaabkhaaneh/sahifeh_noor/sahifeh_noor_jeld_21_khomeini_02.html#link27
[4]
لتفصيل حول هذه النقطة ، انظر : توفيق
السيف : دور الخميني في تعديل نظرية السلطة عند الشيعة (2006) http://talsaif.blogspot.com/2006/01/blog-post_30.html
[6]
الشريف المرتضى : "رسالة عمل
السلطان" ، في السيد مهدي رجائي (محرر) : رسائل المرتضى ، دار القرآن الكريم
، (قم 1405) 2/89
لتفصيل حول هذا
التطور وظروفه ، انظر توفيق السيف : نظرية السلطة في الفقه الشيعي ، المركز
الثقافي العربي (بيروت 2002) ص 101
[7]
انظر طائفة من هذه الروايات في: كاظم الحائري
: ولاية الأمر في عصر الغيبة ، (قم 1994) ، ص. 77
[8]
ابو الصلاح الحلبي: الكافي في الفقه،
تحقيق رضا استادي ، مكتبة الإمام أمير المؤمنين العامة (اصفهان 1403) ، ص 423. ن.
إ http://www.yasoob.com/books/htm1/m001/00/no0023.html
[9]
يقول الشيخ الاصفهاني في سياق حديثه عن ولاية الامام والفقيه على الخراج "له
الولاية بما هو رئيس المسلمين وحافظ حوزة المؤمنين ، ومع عدم التمكن من التصرف على
الوجه المزبور يرجع الامر إلى من يقوم بهذا الامر ، وان كان متغلبا لان فوات مصلحة
قيامه بالامر لا يسوغ تفويت مصالح المسلمين". محمد حسين الاصفهاني : حاشية
المكاسب ، تحقيق عباس آل سباع ، انوار الهدى (قم 1418 هج)، 2/397
[10] آية الله عز الدين زنجاني ، مقابلة ، حوزة 23 ،
آذر 1366 هـ.ش
[11] السيد على خامنئي : خطاب أمام مسئولي المدارس الدينية 25-9-1991
[12]
محمد جواد مغنية : تجارب محمد جواد مغنية بقلمه ، دار الجواد ، بيروت. ص 52
[13]
For more on Popper's theory, see Herbert Keuth,
The Philosophy Of Karl Popper, Cambridge University Press, 2005, p. 166
[14]
G. B. Madison, The Logic of Liberty, (Greenwood
Press, 1986(,p. 9
[15]
عباس قائممقامي : قدرت ومشروعيت (تهران 2000) ، ص 112
[16]
محمد تقي مصباح يزدي : نظريه سياسي اسلام
، مؤسسه امام خميني (قم 2001) ، ص 311