||الثورات
العلمية الكبرى تبدأ بنقد الأصول ومساءلة المسلمات ؛ أي إعادة موضعتها كحلقة في
سياق تاريخي وليس نهاية العلم||
يُعد كتاب توماس كون “بنية الثورات العلمية“، إضافة
بارزة إلى فلسفة العلم. وقد واجه كثيرًا من النقد يوم ظهرت طبعته الأولى في 1962؛
لكنه ما لبث أن احتل مكانة بين أكثر الكتب تأثيرًا خلال القرن العشرين، وطبع منه
ما يتجاوز مليون نسخة، كما تُرجم إلى 20 لغة؛ بينها “العربية”.
توماس كون |
فسَّر هذا الكتاب سبب مقاومة المجامع العلمية
النافذة للنقد الجذري، في مقابل ترحيبها بالنقد المستند إلى ذات المنهج والمعايير
السائدة فيه.
حين تنطلق من ذات الأرضية التي يقفون عليها، فسوف تلقى ترحيبًا
واسعًا، وستُطلق عليك أوصاف رائعة؛ سيُقال إنك إصلاحي ومجدد وعلامة، مهما كان نقدك
حادًّا. لكن الأمر سيختلف حين تشكك في سلامة البناء العلمي للمنهج السائد، أو تؤسس
لمنهج بديل، أو تنكر معيارية القواعد المتبعة في اختبار ونقد الأفكار. في هذه
الحالة سيُنظر إليك كمتطفل يهدد استقرار وسلامة النسق السائد، وسيحاربك المئات من
الناس، ليس فقط لأنك تدعو إلى أفكار مختلفة عن أفكارهم أو حتى غريبة وغير مألوفة؛
بل لأن القبول بهذه الأفكار سيؤدي -بالتبع- إلى إضعاف النفوذ الاجتماعي المرتبط
بذلك المنهج، والتهوين من قيمة الأشخاص الذين يصنفون كرموز للمدرسة الفكرية أو
القيمية القائمة على أساسه.
“الكتاب والقرآن” هو أول أعمال محمد شحرور، صدر في 1990، وأثار عواصف من الجدل لم تهدأ حتى اليوم. والحق أن
شحرور لم يكن بالخصم السهل أيضًا، فقد واصل مجادلته لقائمة طويلة من المفاهيم
والقواعد الرئيسية في التفكير الديني التقليدي؛ تبدأ من فهم النص والمصطلح، ولا
تتوقف عند إنكار العشرات من الأحكام الفقهية، اعتمادًا على إنكاره صحة الأساس
العلمي الذي قام عليه الحكم أو سلامة استنباط المجتهد من النص. بعض تلك الأحكام
يرجع إلى تفسيرات للقرآن مستقرة ومورد اتفاق بين الفقهاء في عصور متوالية؛ مثل
الأحكام المتعلقة بحجاب المرأة والمساواة بينها وبين الرجال في الميراث، ومثل
الأحكام الخاصة بأهل الكتاب والكفار، ومعنى الولاية العامة للدين ودوره في الدولة،
وكذا الحدود الفاصلة بين الديني والعرفي، ودور المجتمع في صياغة ونسخ القوانين
الشرعية.
ربما لم تكن هذه الآراء لتثير ضجة لو صدرت من خارج الدائرة
الدينية، أو أُقيمت على أرضية غير دينية؛ لأنها حينئذ لن تتحدى شرعية أو نفوذ
القوة الدينية. ما أثار العواصف حولها هو أن صاحبها أقامها على بحث عميق في
القرآن؛ بحث مختلف تمامًا عن المنهج المتعارف في المدرسة الفقهية التقليدية، لكنه
في الوقت ذاته قوي من الناحية العلمية ومقنع لعامة القراء؛ بما يجعل السكوت عنه أو
تجاوزه مستحيلًا. الحقيقة أن كثيرًا من الناس بدأوا يطرحون هذه الآراء الجديدة على
رجال الدين الذين اعتادوا متابعتهم، ويسائلونهم: لماذا لا تقولون بقول كهذا؟ هذا
يعني بصيغة أخرى: لماذا استطاع شحرور أن يستخرج ما نبحث عنه ولم تستطيعوا؟
لو اقتصر شحرور على النقد من داخل المنهج واستعمل أدواته؛
فسيقدم شيئًا كثيرًا، ولن يتعرض إلى ما تعرَّض إليه من هجوم، وصل إلى اتهامه
بالكفر والإلحاد وتأثره بالماركسية.. إلخ. لكن لو فعل هذا، فلن يكون أكثر من راوٍ
يعيد التذكير بما سبق أن قيل، وإن في صيغة مختلفة. حينئذ فإن عمله سيكون أقرب إلى
ما سمَّاه توماس كون “حل الألغاز/الكلمات المتقاطعة=puzzle_solving”، وليس اختراق جدار التقليد المزمن.
الكشوف التاريخية والثورات العلمية الكبرى تبدأ بنقد الأصول
ومساءلة المسلمات والبديهيات؛ أي إعادة موضعة هذه المسلمات في مكانها الصحيح،
كحلقة في سياق تاريخي لا كحقيقة تامة أو نهاية للعلم.
كيوبوست 23-ديسمبر-2019
qposts.com
مقالات ذات صلة
انقاذ النزعة الانسانية في الدين
تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة
ما الذي يجعل محمد شحرور مختلفا وبغيضا أيضا
ما ينبغي للتيار الديني ان يخشاه