‏إظهار الرسائل ذات التسميات كارل ماركس. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كارل ماركس. إظهار كافة الرسائل

19/10/2022

هل تعرف كارل ماركس؟


كنت في الصف الأول ثانوي حين تعرفت على العلاقة الإشكالية بين المعرفة والحرية. لقد مر الان نحو نصف قرن على هذه الحادثة ، لكنها لازالت حية في تلافيف الذاكرة. ولعلي ما كنت سأحفظها بين عشرات الأشياء الأخرى ، لولا انها نقضت قناعة راسخة ، اعتبرتها يومذاك امرا بديهيا. تتجسد هذه القناعة في المثل المشهور "من علمني حرفا صرت له عبدا". وكنا نتداولها كتأكيد على الاحترام الواجب للمعلم.

د. جون كين

الذي حصل في ذلك اليوم اننا قرأنا في كتاب الادب والنصوص ، مادة عنوانها "عبودية الحرف" تضمنت هجوما شديدا على المثل المذكور. وقال كاتب المادة ان شأن التعليم ان يحرر الانسان ، لا ان يجعله عبدا لغيره. وقد جاءت اللحظة الحاسمة ، حين أمر معلم المادة عددا من الطلاب بالحديث دفاعا عن فكرة المثل ، وأمر آخرين باتخاذ الموقف المضاد ، أي تأييد الفكرة الرافضة لعبودية الحرف. وكان من سوء حظي ان اختارني ضمن الفريق الثاني ، رغم قناعتي التامة بالموقف الأول.

لا اذكر الان ماذا قلت في الموضوع. لكني عدت اليه بعد زمن طويل نسبيا ، حين التحقت بفصل في مناهج البحث ، قدمه البروفسور جون كين ، الذي افتتح الدرس بسؤال: حين تفكر في مسألة جديدة ، فهل تستطيع التعرف على المؤثرات التي تدفعك لاختيار رأي بعينه؟. الإجابة على هذا السؤال تساعدنا في اكتشاف حدود العقل: هل نفكر بعقل مستقل حقا ، ام ان ما نسميه تفكيرا ، هو مجرد استدعاء لأحكام جاهزة من محيطنا الثقافي او تجاربنا الحياتية.

في مساء اليوم التالي ، شرحت فكرة الدرس لبعض أصدقائي ، فقدم واحد منهم نقضا للفكرة ، خلاصته انه لو لم يكن العقل مستقلا ، لما أمرنا الله بالعودة الى عقولنا واعتبر حكمها حجة علينا. فبدا ان الجميع اقتنع بهذا الرد. لكن زميلا آخر اشار الى ما اعتبره ميولا يسارية عند البروفسور كين ، وعقب بالحديث عن الدور المحوري للمذهب الماركسي في الارتقاء بنقاشات الفلسفة ، فضلا عن مساهمته الجليلة في تعميم فكرة العدالة الاجتماعية ، وتحويلها الى ثابت من ثوابت السياسة في الدول المتقدمة.

دار نقاش قصير حول هذه الفكرة ، سرعان ما انحرف نحو شخص كارل ماركس وكونه يهوديا ، وعن دور اليهود في اوربا وعلاقتهم مع المسيحية ، وهجرتهم الى أمريكا الشمالية ، ودور اللوبي اليهودي هناك.. الخ. حين وصلنا الى هذه النقطة ، تدخل الزميل قائلا: أين كنا نتحدث ، ومن الذين يتحدث الآن.. عقولنا ام خلفياتنا الذهنية ومفاهيمنا المسبقة عن الناس والأفكار والحوادث؟.

لقد لفت هذا الزميل انظارنا الى الحقيقة التي لا مراء فيها ، وهي أن رأينا في الماركسية – مثلا – ليس مبنيا على مقارنة علمية بين محاسنها ومساويها. اننا ندخل النقاش محملين بمواقف مسبقة تجاه مؤسسها ، وتجاه الدين الذي ينسب اليه (رغم انه بحسب تصنيفنا ملحد ، ولا ينتمي واقعيا الى ذلك الدين ولا غيره). ان مجرد انتسابه لعائلة يهودية ، يستدعي حمولة ضخمة تحدد اتجاه الحديث.

في الدروس التالية من ذلك الفصل ، تعرفت على رؤية هانس-جورج غادامر ومارتين هايدجر ، ولاسيما تشديد الأخير على دور الخلفيات الذهنية المسبقة ، كوسيط لفهم المعلومات الجديدة وتحديد قيمتها. وهو يقول في هذا الصدد ان كل فهم جديد مشروط بفهم مسبق. نعلم طبعا ان هذا نسبي وليس مطلقا ، فالوعي الإنساني متحرك وهو – حسب تعبير غادامر – افق مفتوح. بقدر ما يكون الوعي السابق مؤثرا ، فانه - في الوقت نفسه - عرضة للتلاشي ، بتأثير المشاهد والمعلومات ، بل وحتى المصالح الجديدة. ان أبرز علامات كون العقل عقلا ، هو هذه القدرة على التغير والتغيير المتواصل.

الشرق الاوسط الأربعاء - 24 شهر ربيع الأول 1444 هـ - 19 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد [16031]

https://aawsat.com/node/3939046

مقالات ذات صلة

ان تكون عبدا لغيرك

الأيديولوجيا السياسية للتيار الاصلاحي في ايران

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التأصيل

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

في علاقة الزمن بالفكرة

كهف الجماعة

مسار التمايز بين الدين والمعرفة الدينية

نسبية المعرفة الدينية

17/11/2021

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

 

يرجع اهتمامي بعالم الاجتماع الامريكي مانويل كاستلز الى تحليله البارع لمفهوم "الشبكة" ، ودورها المحوري في تشكيل عالم اليوم. وقد تعرفت عليه خلال دراستي لتحولات الهوية الفردية ، ودور انظمة الاتصال الجديدة والصراعات السياسية ، في تفكيك الهويات الموروثة.

يمتاز المفكرون الأذكياء بهذه القدرة الباهرة على التقاط الافكار العميقة ، واستخدامها مفتاحا لمسار او نسق فكري جديد. اميل الى الاعتقاد بأن كاستلز التقط فكرة "الشبكة" من كتابات كارل ماركس. فهي تمثل عنصرا محوريا في تحليل ماركس لنشوء الراسمالية ، ولا سيما في شرحه لدور التواصل الفعال بين قوى الانتاج ، في تكوين فائض القيمة ، ومن ثم اعادة تكوين راس المال ، وهي المعادلة التي اعتبرها مفتاحا لفهم الاقتصاد الرأسمالي.

كارل ماركس

التقط كاستلز فكرة الشبكة ، واتخذها مدخلا لنقاش مبتكر ، حول الصيغ والاشكال الجديدة لقوى الانتاج (التكنولوجيا) ، لاسيما مع حلول الاجهزة الالكترونية محل نظيرتها الميكانيكية في الصناعة والسوق ، خلال الربع الأخير من القرن العشرين.

 احد الاسئلة المحورية التي طرحها كاستلز يتناول العلاقة بين قوى الانتاج والمكان. فقد لاحظ ان موقع الانتاج ، سواء كان مصنعا او مزرعة او سوقا تجارية ، يمثل قيدا على حجم ومستوى التواصل بين أطراف العملية الانتاجية. إذا كنت (في اوائل القرن العشرين) تصنع المحركات في وسط انجلترا على سبيل المثال ، فان وصولها الى اي نقطة في العالم خارج الجزر البريطانية ، مشروط بحجم الناقل (السفينة) وزمن الوصول ، فضلا عن القيود المرتبطة بالأمن والسلامة.

اختلف الامر تماما في أواخر القرن العشرين. حيث باتت الاجهزة "الالكترونية" قاطرة التطور التقني على مستوى العالم. هذه الاجهزة الصغيرة الحجم الخفيفة الوزن ، تعمل بشكل رئيسي في معالجة البيانات ، وليس الحركة الميكانيكية للاجزاء. ومع وصولنا الى عصر الانترنت ، فقد أمست البرامج والتطبيقات "البيانات/السوفتوير"  قوة الانتاج الرئيسية في كل أجزاء الاقتصاد ، من المصارف والمؤسسات المالية الى المصانع الى انظمة الاتصال والنقل ، الى التعليم والصحة والاعلام والترفيه.. الخ.

لاحظ كاستلز ان قوة الانتاج الجديدة (البيانات) ليست مشروطة بالمكان ولا تحتاجه ، مثلما كان الحال في عهد الاجهزة الميكانيكية. كل ما تحتاجه قوة الانتاج هذه هو "مساحة" للتدفق ، مساحة يمكن صناعتها أو تطويرها في العالم الافتراضي. ومن هنا فان المسافات لم تعد ذات اهمية أو تأثير. اذا كنت تستطيع الدخول على شبكة الانترنت في الرياض مثلا ، فانت قادر على التواصل مع اي شخص لديه حساب على الشبكة في ساوباولو او لوس انجلس او نيودلهي ، حتى أصغر مدينة في قلب سيبريا. المسألة لا تنحصر في التواصل الشخصي ، بل بات بالامكان القيام بعمل كامل في عالم يسمونه افتراضيا ، لكنه يصنع العالم الواقعي. الشبكة تحولت الى نسيج هائل الحجم ، يماثل العالم الحقيقي. كما ان قوى الانتاج لم تعد محصورة في اطراف السوق ، بل بات كل شخص في العالم جزء من شبكة المعلومات ، فاعلا او متفاعلا او منفعلا.

على هذه الارضية ، تساءل كاستلز: كيف يؤثر هذا التحول على مفهوم الدولة ، وعلى الرابطة الاجتماعية وهوية الفرد؟.

انتبهت اليوم الى سؤال لم اجده عند كاستلز ، يتناول العلاقة بين اتساع الاعتماد على سلاسل البيانات المشفرة (البلوكشين) ، وبين الضمور المتوقع لدور الدولة كضامن للملكية الخاصة. البلوكشين يلغي الحاجة الى "كاتب العدل/الشهر العقاري" وسجلاته ,، فهل سيؤثر هذا على مفهوم الدولة وادوارها؟.

الشرق الأوسط الأربعاء - 12 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 17 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [15695]

https://aawsat.com/home/article/3307956/

مقالات ذات صلة

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

هل تعرف "تصفير العداد"؟

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

حان الوقت كي يتوقف الحجب الاعتباطي لمصادر المعلومات

استمعوا لصوت التغيير

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

العولمة فرصة ام فخ ؟

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

 

23/05/2021

ايلاف .. قصة رؤيا صادقة



أبدأ بتوجيه التحية الى الصديق العزيز الأستاذ عثمان العمير ، والى جميع الزملاء العاملين في صحيفة ايلاف ،  في عيدها العشرين. انظر اليوم اليها كتحد استطاع صانعوه ان يثبتوا انهم يسايرون الزمن ، واتذكر الشهور الأولى من صدورها ، حين كتب اكثر من شخص ، ان الصحافة الالكترونية لن تستطيع ابدا ، ان تأخذ مكان الصحافة الورقية التقليدية. وجرد بعضهم قائمة أسباب ، من بينها ان "الناس تحب رائحة الورق"! ، أو ان "القراءة ارتبطت بالورق ، ولن يترك القراء الورق حتى يتركوا القراءة"!. ومثله القول بان الصحيفة اليومية اعظم من فرقة عسكرية ، وهذا لن يعوض بصحافة الانترنت .. الخ.

عثمان العمير

أتذكر هذه الآراء ، بينما تمر في ذاكرتي أسماء الصحف الكبرى التي توقفت اصداراتها الورقية ، بدء من كريستيان ساينس مونيتور الى الاندبندنت ، والطبعة الدولية من وول ستريت جورنال ، إضافة الى صحف عربية شهيرة مثل السفير والانوار البيروتيتين ، والشرق والحياة السعوديتين ، والنهار الجزائرية.. الخ.

لدي اعتقاد عميق بأن الصحافة الورقية شمس غاربة ، ليس فقط بسبب التكاليف ، وليس فقط لأن أدوات الانترنت باتت أقدر على ايصال الخبر في ساعته. بل لأن العالم يمر بتحول جذري لم يسبق له مثيل في تاريخه ، وهو يتضمن تغييرا في بعض المفاهيم التي تلعب دور أداة الفهم او مفتاح الفكرة ، والتي نستعملها في فهم ذواتنا والعالم المحيط بنا. احد تجسيدات هذا التحول هو تحول الفعل الثقافي الى تفاعل ثقافي ، ودخول المتلقي كشريك في صنع الفكرة او تطويرها ، ومنه أيضا تحول الاطار الموضوعي للفكرة (ربما نسميه الافق التاريخي ) من المحلي المتصل ماديا بالفرد ، الى اطار عالمي او معولم. كلا العنصرين يجعل الصحيفة الورقية (وكافة وسائل التواصل التي يقتصر دورها على نقل الفكرة في اتجاه واحد) غير فعالة ، لانها غير قادرة على تلبية تطلعات انسان هذا العصر ، الذي يتحول سريعا في نفس السياق.

كان كارل ماركس يعتقد ان الأدوات الناقلة للثقافة ، بل كل أداة جديدة يستعملها البشر ، تلعب دورا في تحديد طبيعة الثقافة وموضوعاتها وأولوياتها. وأظن ان البروفسور مانويل كاستلز هو أفضل من شرح دور الشبكة الدولية للمعلومات ، اي الانترنت ، في تشكيل ثقافة العالم الجديدة وتحديد طبيعتها واولوياتها وأدواتها ، على نحو مختلف تماما عما عرفناه حتى اواخر القرن العشرين.

مبروك اذن لصحيفة ايلاف التي وفقت في التقاط الخيط الابيض ، روح العالم الجديد ، وركبت أمواج المغامرة التي ارتاب الكثيرون في عواقبها ، وبرهنت على ان الفكرة الذكية تصنع الفرق.

ايلاف  23  مايو 2021 

https://elaph.com/Web/News/2021/05/1329056.html?

  

13/11/2019

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة


مر الان نحو 130 عاما على وفاة كارل ماركس. ونعرف ان النموذج الايديولوجي الذي اقترحه كطريق للتطور الاجتماعي لم يحقق نجاحا. كما لم يصمد اساسه الفلسفي أمام النقد العلمي ، رغم أنه بقي نافذا في الاكاديميا الاوروبية حتى الربع الثالث من القرن العشرين. هذا لا يقلل من قيمة مقارباته الفلسفية ، التي لاشك انها أسهمت في تقدم العلم من جهة ، والحياة السياسية من جهة أخرى.

من بين افكار ماركس التي تلفت الانتباه ، رؤيته عن تأثير المكائن والالات على ذهنية الاشخاص الذين يتعاملون معها. فهو يرى ان عمال المصانع اكثر قابلية للتطور والمساهمة في تنمية المجتمع ، لأنهم – حسب اعتقاده – اكثر التصاقا بتيار التطور في العالم ، الذي يتجلى في الآلات الصناعية. وهو يقارن هؤلاء العمال بنظرائهم الفلاحين المنعزلين عن تيار الحياة الحديثة.

قفزت الى ذهني هذه الفكرة ، بينما كنت اقرأ مقالة للبروفسور كلاوس شواب ، رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي عن "الثورة الصناعية الرابعة" ، التي يقول ان تاثيرها لن يقتصر على تغيير نظام الحياة والعمل والعلاقات بين الاسواق ، فهي ستغير ايضا كيفية تفكيرنا في الاشياء وفي انفسنا وعالمنا. ان الطريقة التي يتبعها الانسان والادوات التي يستعملها كي يفكر في ذاته ومحيطه ، وعلاقته مع البشر الاخرين ، سوف تتنحى لصالح مفاهيم جديدة غير التي نعرفها اليوم.

يقرن شواب الثورة الصناعية الاولى باعتماد المكينة البخارية في مجال النقل والصناعة (ميكنة الانتاج). ويقرن الثانية بدخول الكهرباء التي ادت الى التحول نحو الانتاج الواسع النطاق. كما ترتبط الثالثة بدخول تكنولوجيا المعلومات في الحياة اليومية للبشر. أما الثورة الرابعة فأبرز ملامحها هو نفوذ التقنيات الرقمية ، الى أدق تفاصيل حياة البشر  ، على نحو يقلص المسافة بين المادي والرقمي والبيولوجي. بل ربما نشهد في العقد القادم اول نموذج (بروتوتايب) للتفاعل المستقل بين الالة والكائنات الحية. ثمة كلام يدور حاليا عن ابحاث غرضها تمكين الكمبيوتر من تلقي اوامر مباشرة من دماغ الانسان ، وهذا يشكل خطوة مهمة في الاتجاه المذكور.

رؤية شواب هذه تطابق – ضمنيا – رؤية ماركس ، في معنى ان "أداة" الفهم تسهم في تحديد نطاق التفكير واتجاهاته ، مثلما يسهم الميكروسكوب في تحديد طريقة البحث عن الفيروسات ، ويسهم بالتالي في تحديد نتائج البحث. فهم الاشياء في عصر انترنت الاشياء (القادم) سيعتمد على ادوات مختلفة كليا عن تلك التي اعتمدت في عصر المحرك البخاري. حين نحتاج للتفكير في اي مسألة ، في هذه الايام ، فاننا نقف على ساحل بحر من المعلومات والبيانات والصور ، التي لم يكن اي منها متوفرا لاسلافنا الماضين. وبعد عقد او اثنين ، سيحصل احفادنا على فرص اوسع كثرا مما نتخيله اليوم.

هذه البيانات ليست مجرد كميات اضافية ، قياسا بما توفر للاسلاف ، بل هي ايضا فلسفة مختلفة ، وطريقة تفكير وعلاقة بين الذات والغير ، متباينة. ان عالما باكمله قد زال مع ظهور مكائن الاحتراق الداخلي ، وزال عالم ثان مع ظهور الجيل الثاني من الهواتف الذكية. بمعنى ان بعض ما كان الانسان يفكر فيه قد زال ، او انتقل الى الهامش ، وظهرت نطاقات تفكير جديدة.  

الذهنية المتولدة عن التفكير في محيط محدود ، تختلف كثيرا عن تلك الذهنية التي تطورت في محيط مفتوح وسريع التفاعل مع العالم المحيط.


الشرق الاوسط الأربعاء - 16 شهر ربيع الأول 1441 هـ - 13 نوفمبر 2019 مـ رقم العدد [14960]

07/09/2016

ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق الآيديولوجي والثقافي؟


كرس كارل بوبر كتابه "المجتمع المفتوح واعداؤه" لنقد الرؤية المثالية ، التي وجدها أساسا للايديولوجيات السياسية الشمولية. وأظن ان هذا الكتاب هو الذي منح بوبر الشهرة الواسعة ، وجعله واحدا من اكثر الفلاسفة تأثيرا في الوسط الاكاديمي ، خلال الربع الاخير من القرن العشرين.

في هذا الكتاب الذي نشر عام 1945 تتبع بوبر جذور النزعة التسلطية -الشمولية في فلسفة افلاطون ، كارل ماركس ، وفريدريك هيغل. واظن انه ساهم في كبح الاتجاه الذي تعاظم في منتصف القرن العشرين ، والداعي الى الاخذ بنموذج معدل للاشتراكية في غرب اوربا.


رغم المسافة الشاسعة التي تفصل بين افلاطون وماركس وهيجل ، الا ان رؤية الفلاسفة الثلاثة تشكل أساسا لاتجاه عريض يركز على على أولوية "الصالح العام" ، على نحو يسمح بالغاء المصلحة الخاصة في حال التعارض. ان القبول المبدئي بهذه الرؤية التي تبدو في - الوهلة الاولى - معقولة ، ينتهي الى اضعاف المبادرة الحرة ، التي يحركها الميل الفطري عند البشر للكسب والاستزادة. كما يوفر تبريرا للتهوين من حقوق الافراد وحرياتهم.

وكما رأينا في التجربة الاشتراكية ومعظم التجارب العربية ، فان هذا الاتجاه قد ينتهي الى دولة بوليسية شديدة القسوة ومستعدة لاختراق كل الخطوط ، بما فيها الحقوق الأولية للافراد. وطبقا لوصف هما كاتوزيان ، فان دولة من هذا النوع لا تتوقف عند الفرض المتعسف لقانونها الخاص ، بل ربما تعطي لنفسها الحق في فرض اللاقانون ايضا ، حين تصبح أهواء رجالها وآراؤهم الشخصية واجتهاداتهم الخاصة أوامر لا تناقش.

ان التسلط مشكل بحد ذاته. لكن استناده الى ايديولوجيا حاكمة ، تجعله اكثر من مجرد سوء تقدير للعواقب او شخصنة للسلطة. كل صاحب ايديولوجيا ، ايا كان مصدرها او قاعدتها الفلسفية ، يتلبس – بالضرورة – دور الداعي الى ما يراه حقا او قيمة فوقية. وهذا يعني منطقيا تمييزه لنفسه ورفعها فوق من يدعوهم. في الحقيقة فانه يرى نفسه متفضلا عليهم حين يدعوهم ، وقد يستغرب من بجاحتهم حين يجادلونه ، او يلوم جهلهم اذا رفضوا دعواه.

لو كان داعية الايديولوجيا شخصا من عامة الناس ، فسوف يتوسل – كما هي العادة – بلين الكلام والجدل المعقول. وقد يعدهم خيرا او يحذرهم من سوء المآل لو اعرضوا عن رأيه. وفي نهاية المطاف ، فان غاية ما يصل اليه هو الابتعاد عن طريق الرافضين والتركيز على المستجيبين لدعوته.

لكن الامر مختلف تماما حين تكون الايديولوجيا خطابا تتبناه الدولة وتوجه سياساتها. الدولة – بطبيعتها - لا تعرف ، كما لاحظ الكسيس دو توكفيل ، سوى املاء قواعد صارمة ، وفرض الرأي الذي تميل اليه مهما كان كريها. بل حتى الارشاد والتوجيه العام ، يتحول في سياق عملها الى أوامر لا تقبل الجدل.

نعرف ان الدولة خادم للشعب ، وكيل عنه ، وأمين على ماله. فاذا تحولت الى داعية ايديولوجي ، تغيرت المعادلة ، وتحول شغلها الى تحديد من يقف مع الحق (اي خطابها) ومن هو منحرف عنه او معارض له. بطبيعة الحال فان المجتمع سينقسم الى موال مخلص ومعارض صريح ومعتزل مرتاب كاره للسياسة وأهلها.

واذا استعملت قوتها في فرض الحق الذي تتبناه ، اي الخطاب الايديولوجي الخاص ، فان جانبا مهما من رد الفعل الاجتماعي سينصرف الى تأليف ايديولوجيا نقيضة تبرر موقف الرفض او الاعتزال. وفي هذه النقطة يتحول التمايز الطبيعي بين الحاكم والمحكوم الى تفارق ايديولوجي وثقافي ، ومن ثم انشقاق اجتماعي.

الشرق الاوسط 7 سبتمبر 2016
 http://aawsat.com/node/732576

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...