في
2005حلت الذكرى المئوية لصدور كتاب ماكس فيبر "الاخلاق البروتستانتية". ولهذه
المناسبة ، كتب المفكر الامريكي فرانسيس فوكاياما ان ذلك الكتاب جعل كارل ماركس
يقف على رأسه غضبا. نعلم طبعا ان ماركس لم يكن حيا يومها كي يقف على رأسه. لكن
طروحات فيبر كانت نقيضة لموقفه من الدين ،
سيما مقولته الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" وقد خدمت الاتجاه المتشكك في
الفلسفة الماركسية بمجملها.
جادل
ماركس بان غرض الاديان هو تبرير الوضع الراهن للطبقات الدنيا التي هي – في الوقت
نفسه - أكثر الطبقات تدينا. ومن هنا فهو يخدم الاثرياء والنافذين ، الذين يضاعفون قوتهم
وثرواتهم ، باستغلال جهل الفقراء وقناعتهم بما هم فيه.
خلافا
لهذا فقد ميز فيبر بين رؤيتين للعالم ، رؤية انسحابية تميل الى تضخيم قيمة الحياة
الآخرة وانكار قيمة الحياة الدنيا ، وأخرى تعتبر الآخرة امتدادا للدنيا: من ينجح
هنا يفوز هناك ، ومن يفشل هنا يخسر هناك. اطلق فيبر على الرؤية الأولى اسم
"النمط الكاثوليكي" ، بينما رأى الثانية متجسدة في العقيدة البروتستنتية، سيما في النسخة المنسوبة للقسيس الاصلاحي جون كالفين.
جوهر المسألة الدينية في راي فيير هو "الخلاص".
الأكثرية الساحقة من المؤمنين ، ان لم نقل جميعهم ، يؤمنون لأنهم يريدون الفوز
بالجنة والخلاص من النار. في "النمط الكاثوليكي" بحسب رؤية فيبر ، يتحرك
المؤمن بين الخطيئة والندم على ارتكابها ، ثم التوبة منها ، ثم الاعتقاد بنيل
الغفران ، ثم تكرار الخطيئة وهكذا. من شأن هذا المسار ان يشحن الانسان بقلق دائم على
مصيره. وحين يسائل نفسه عن سبب ارتكابه للاثم ، يخبره التراث المقدس انه الاغترار
بالمال وزينة الدنيا او السعي للقوة والنفوذ. وهي من العناصر الرئيسية المحركة
لحياة البشر. وهنا تتحول الدنيا في ذهنه الى
رمز للفساد والانحطاط الاخلاقي ، ويظهر الساعون للتفوق فيها كمن يسعى وراء السراب في
صحراء لا متناهية.
تقدم
البروتستنتية الكالفينية – في المقابل – تصويرا مختلفا ، يربط الخلاص في الآخرة بالنجاح
الدنيوي. من أراد الجنة فعليه ان يستحقها بالنجاح في دنياه. من يتعلمون كي يتقنوا عملهم
، ومن يتعلمون كي يكسبوا المال ، يسهمون مباشرة في الارتقاء بمستوى حياة المجتمع
ككل. العلماء والباحثون يعلمون الناس كيف يستثمرون الطبيعة التي سخرها الله لهم. والاثرياء
يستثمرون أموالهم فيولدون وظائف جديدة تنقذ الناس من ذل الفاقة. اولئك وهؤلاء
يسعون لمنفعتهم الخاصة ، لكنهم أيضا يجعلون حياة خلق الله أيسر واكثر نفعا لبعضهم
البعض. العمل في رأي كالفين عبادة ، ولو
كان هدفه جمع المال. واتقان العمل سبب لمرضاة الله ، وانتفاع الاخرين بنتائج العمل
وسيلة لضمان الجنة.
يعتقد
فيبر ان المباديء البروتستنتية لعبت دورا هاما في تعزيز الراسمالية والنمو
الاقتصادي. وقد رحب كثيرون بهذا الاستنتاج. لكن باحثين آخرين عارضوه بشدة. ما هو
مهم في المسألة – وهذا أيضا رأي فوكوياما – ليس تصوير فيبر للفارق بين نموذجي
الايمان ، بل تسليطه الضوء على دور الثقافة الدينية الشعبية في تعزيز العقلانية الجمعية
وتمهيد طريق التقدم ، او العكس ، أي ترسيخ صورة اسطورية للعالم ، تحيل قضاياه جميعا
الى الاخرة وتضع المؤمن في موقف المنفعل القلق على مصيره.
اظن
ان هذا التصوير الفيبري صالح للتطبيق على كل النماذج الدينية. فهو يقدم جوابا
مبدئيا على السؤال الأزلي: هل نؤمن بالدين كي نحضى بحياة كريمة ، ام لمجرد الحصول
على حياة أفضل بعد الموت.
الشرق
الاوسط الأربعاء - 5 صفر 1439 هـ - 25 أكتوبر 2017
مـ رقم العدد [14211]
http://aawsat.com/node/1062506