زميلنا
الاستاذ مرزوق العتيبي كتب قبل اسبوعين ناقدا التفكير المثالي ، الذي يتخيل مدينة
تخلو من الآثام والنواقص. ليس باعتباره مستحيل التحقق ، بل لأنه يرسي أرضية
للاستبداد والاحادية ، التي تحول المجتمع الطبيعي الى ما يشبه السجن الكبير.
لعل كتاب
"الجمهورية" الذي وضعه الفيلسوف اليوناني افلاطون هو أشهر النماذج التي
وصلت الينا عن فكرة "المدينة الفاضلة". لكني احتمل انه لم يكن بصدد
الدعوة الى مدينة واقعية يقيمها الناس. فقد صب جل اهتمامه على التعريف باراء
استاذه سقراط ، وما أدخله من تعديلات عليها. انه في ظني مثال للمقارنة الفلسفية ،
وليس برنامج عمل يمكن تطبيقه. لكنه مع ذلك ، شكل مدخلا لمنهج في العمل السياسي
والاجتماعي اصبح له فيما بعد رواد وأنصار كثيرون.
انطلق
افلاطون من مقدمة بسيطة ، اعتبرها بديهية ، خلاصتها ان البشر عاجزون فطريا عن
الاجتماع السليم. لو وجدوا صدفة في مكان واحد فالمرجح انهم سيكونون أميل الى
التنازع والعدوان. ولذا فهم يحتاجون دائما الى رئيس يقسرهم على التسالم.
تبنى هذا
الفكرة الفيلسوف المسلم ابو نصر الفاربي وشرحها بالتفصيل في كتابه "آراء أهل
المدينة الفاضلة" ، ويبدو انها صادفت هوى في المجال الثقافي الاسلامي عموما ،
حيث تجد ظلالها في غالبية البحوث الفقهية ، سيما ما يتعلق منها بالولايات والحسبة.
وتبناها القديس توما الاكويني الذي اضاف اليها لمسة دينية ، حولتها الى تعبير
معياري عن المفهوم الكاثوليكي للدولة.
وفي
أيامنا هذه نجد ظلال الفكرة عند شريحة كبيرة من العاملين في حقل الدعوة الدينية.
وهي تتضح في جانبين: في الكلام الكثير عن الالتزام بالدين كحل وحيد ونهائي لكافة
المشكلات ، وفي تحبيذ القسر والاجبار كوسيلة لالزام الناس بالفضائل.
تعرضت
فكرة "المدينة الفاضلة" لكثير من النقد. بل ان الفيلسوف المعاصر كارل
بوبر اعتبرها من أسوأ ما فكر فيه الفلاسفة عبر التاريخ. وكرس جانبا كبيرا من كتابه
"المجتمع المفتوح واعداؤه" لنقد هذه الفكرة في شخص افلاطون. كما وجه
نقدا شديدا الى الماركسية ، واعتبرها نموذجا للايديولوجيات الشمولية التي تريد –
في نهاية المطاف – اعادة سجن البشر في أقفاص جميلة الالوان ، بدل تمكينهم من
التحرر واختيار نمط الحياة التي يريدها كل منهم.
ويشير
بوبر في طيات كتابه الى خطورة الفكرة لانها – حسب تعبيره – من ذلك النوع من
الافكار التي تلامس نزوعا مثاليا عند كافة البشر، فيتناسون انها مجرد تخيل غير
قابل للتحقيق ، ويسلمون قيادهم لبعض المغامرين الذين يستعملون الفكرة كمركب لصناعة
النفوذ السياسي ، أو لأنهم وقعوا مثل أولئك أسرى لهذا الوهم.
ويعرض في
مفتتح الكتاب نموذجا مما كتبه افلاطون حول استحالة الحياة الفاضلة من دون قائد:
"
المبدأ الاعظم هو ان اي شخص ، ذكرا كان او انثى ، لا ينبغي ان يعيش بلا قائد.....
لا ينبغي لعقل اي شخص ان يعوده على فعل اي شيء على الاطلاق بمبادرته الخاصة....
حتى في اصغر المسائل شأنا ، عليه ان يمتثل للقائد... عليه ان يروض نفسه طويلا على
ان لا يأتي بفعل مستقل ، وان لا يصبح قادرا عليه بأي معنى.."
اختار بوبر هذا النموذج لانه يجسد جوهر التفكير
الشمولي/المثالي ، الذي يتجلى في الغاء الفرد ككائن عاقل مستقل وقادر على
الاختيار. القائد او المرشد او المعلم عند افلاطون ليس جسرا يحمل المتعلمين الى
الجانب الاخر من النهر ، ثم يطلقهم كي يواصلوا الطريق بمفردهم ، بل هو أشبه بالراعي
الذي يأخذ ماشيته الى المرعى ، كي ترى العالم ، ثم يعيدها في اخر النهار الى
الحظيرة.
الشرق
الاوسط 28-10-2015