خلال
عقدين من عمر مجلس التعاون الخليجي ، توصلت الدول الاعضاء إلى عشرات من الاتفاقيات
والمواثيق الثنائية والجماعية ، صرف لاجلها المسؤولون من الدول الاعضاء وقتا غاليا
، لانها في نظرهم كانت ضرورية لتوثيق العلاقة بين دول المجلس ، وبغض النظر عما طبق
فعلا من تلك الاتفاقيات ، وما لم يطبق ، وبرغم النقد الذي يوجه عادة لتباطؤ العمل
الخليجي المشترك ، فان معظم الخليجيين حريصون على الدفاع عن تجربة المجلس وتطويرها
.
وكنت
اتمنى دائما ان يتبنى المجلس ميثاقا خليجيا لحقوق المواطن ، فهذا هو الحقل الوحيد
الذي لم يطرق في اي من اجتماعاته ، وكان سمو امير الكويت قد اقترح في ديسمبر 1996 ،
تشكيل هيئة استشارية تشكل اساسا للدور الشعبي في المجلس ، لكن من المؤسف اننا لا
نسمع كثيرا عن دور هذه الهيئة ، ولا نعلم ان كانت توصل صوت شعوب المنطقة إلى
المجلس ، أم انها تكتفي بتاييد ما تقترحه الحكومات ، وعلى اي حال فان ممثل الشعب
لا بد ان ياتي بتفويض شعبي كي يستطيع
ممارسة عمله ، أما إذا عين بقرار حكومي ،
فان من ياكل على مائدة السلطان يضرب بسيفه ، كما قيل في الامثال .
(حقوق
المواطن) هي الغائب الكبير في التداول السياسي والاعلامي على امتداد الخليج ،
والغريب ان احدا من السياسيين وصناع القرار لا ينكر ايا من هذه الحقوق ، ولا ينكر
الحاجة إلى رعايتها ، بل انهم يفاخرون عادة بتجذرها في التراث الاسلامي والتقاليد
الاجتماعية ، بحيث يخيل للسامع ان دول المنطقة هي التي وضعت الميثاق الدولي لحقوق
الانسان ، واجبرت دول العالم على ضمه إلى دساتيرها .
لكن
اولئك السياسيين لا يقبلون ابدا بتحويل مباديء حقوق الانسان إلى نصوص قانونية
ملزمة ، ولا يوافقون على قيام هيئات اهلية تراقب الالتزام بمضمون تلك المباديء ،
بل ولا يقبلون ممارسة المواطن لما يفترض انه حق لـه ، ولنأخذ مثلا حرية التعبير
التي تقول بها الانظمة والدساتير ، فهي لا تحترم اطلاقا لعشرين سبب وسبب ، وهي
تخرق بعشرين وسيلة ووسيلة ، ومن ابسطها دوائرالرقابة ، في معرض الكتاب العربي
بالكويت مثلا منعت الرقابة عشرات من الكتب ، رغم ان بعضها كان موجودا قبلئذ في
الاسواق ، وفي دول خليجية أخرى ، يعتبر اي كتاب ممنوعا في الاصل إلا إذا ثبت خلافه
، ولانه لا يوجد اساس منطقي ومعياري لتحديد المسموح والممنوع ، فان الامر يتعلق
كليا بنفسية الرقيب وثقافته ، ومزاجه الخاص في اليوم الذي وصله الكتاب ، ومن طريف
ما يذكر هنا انني جمعت عددا من مقالاتي المنشورة في صحف محلية وطبعتها في كتاب ،
وحين عرضته على الرقابة للحصول على ترخيص النشر ، ابلغت بان الكتاب ممنوع ، فاخبرت
مدير الرقابة بان محتويات الكتاب منشورة جميعها في الصحف المحلية ، فرد علي بان
"مسمى" الكتاب يختلف عن " مسمى " المقال ، وهذه قاعدة
قانونية لا اظن احدا في العالم كله قد توصل اليها من قبل ، فهي تستحق ان تكتب بماء
الذهب وتعمم على جميع الدول الاعضاء في الامم المتحدة كوثيقة دولية ، ومنعت
الرقابة ديوانا لشاعر معروف وكان التبرير ان بعض القصائد غير مفهومة ، وعدم فهم
الرقيب حجة شرعية تستحق ان يضيفها الفقهاء ورجال القانون إلى الادلة المعتمدة في
استنباط الاحكام .
وقد
تحدثت هنا عن انتهاك حرية التعبير بواسطة الرقابة ، واغفلت انتهاك هذا الحق بواسطة
الاجهزة الامنية والسياسية ، فهناك لا يتوقف الامر عند المنع ، بل يصل إلى
الاستجواب والتحقيق وتوجيه التهمة ، وربما
الحبس أو المنع من السفر ، فضلا عن الخروج من دائرة الموالين أي المرحومين .
على
اننا في الخليج نتميز عن غيرنا بنوع آخر من الرقابة ، يلخصها المثل المشهور عندنا
(العين من العين تخجل) ومضمونه ـ لمن لا يعرف - ان من يرفع صوته ، أو يتحدث فيما
لا يخصه ـ اي الشان العام الذي لا يخص شخصا معينا - يستدعى من قبل مسؤول ما أو
شخصية رفيعة ، فيعاتب ويسأل ان كان ينقصه شيء ، وقد يحصل على بعض الاحسان ، وعندئذ
فان آليات العرف والتقاليد تتدخل لتقرر الخطوة التالية ، وهي ان يرد المستدعى على
احسان داعيه بالسكوت عما يسبب الازعاج لـه أو لمن يليه ، وهكذا تحل المسائل باللطف
واللين ومن دون ضجيج ، واظن ان قليلا من الناس في العالم يعرفون هذه السياسة أو
يمارسونها في الوقت الحاضر ، ولهذا فانها يمكن ان تعتبر ابتكارا خليجيا يثير
الاهتمام.
ربما
يرتاب بعض الناس في فاعلية هذه السياسة أو تاثيرها ، لكني اجد انها شديدة التاثير
، خاصة إذا انضمت إلى الوسائل الأخرى المعروفة ضمنا أو الظاهرة في خلفية الصورة ، فالذي يستدعى يعرف ان عدم
الاستجابة تؤدي إلى الحرمان من الترقية أو ربما خسارة الوظيفة ، أو ربما العقاب
الجسدي والمعنوي في مستويات أخرى .
لكن
المسؤولين لا يجدون الوقت الكافي لمواجهة كل صاحب لسان ، لهذا لجأوا إلى الحلول
الجماعية ، ففي أحد اقطار المنطقة قالت الانباء ان اساتذة الجامعة يتحدثون عن
"حرم جامعي" اي مكان يتمتع فيه الاستاذ والطالب بحرية التعبير ، وبعد
نحو ثلاثة اشهر من تاكيد وجود هذه الاحاديث ، امر ولاة الامر بتخصيص قطعة ارض
سكنية لكل استاذ جامعي ، وجرى النص في الامر المذكور على الحد الادنى لقيمة المنحة
، وهي تعادل راتب الاستاذ في اربع سنوات .
واعتقد
ان المركب الكامل للسياسة في الخليج ، هو السر وراء تأخر ظهور مطالبة شعبية بحقوق
الانسان على مستوى المنطقة ، هذا المركب يضم التلويح بالقوة وعدم قانونية المطالبة من جهة ، وبالمكاسب
المادية للانصياع من الجهة الثانية .
والحقيقة
ان احدا لا يرغب في الحديث عن هذه الامور ، فالكلام فيها موجع لكل الاطراف ، لكن
مراسلا اجنبيا سأل خبيرا ماليا عن السر في انتعاش سوق المنطقة فور نهاية حرب
الخليج الثانية ، فاجابه الخبير ببساطة ان الحكومة تدخلت بائعا وشاريا في سوق
الاسهم ، كما صرفت مبالغ كبيرة بغرض تحريك السوق ، لانها ارادت تخليـص الناس من
" الهمـوم " التي اثارتها الحرب ، فسأل المراسل : هناك تقارير عن عجز
مالي كبير لدى الحكومة ، فمن اين جاءت بهذه الاموال ، فاجابه الخبير برقة :
الحكومات تعرف دائما اين يوجد المال ومتى يستخدم .
وخلاصة
القول اننا نحصل على الرفاه المادي ، ولدى الكل أو الاكثرية حرية كاملة في البحث
عن المال ، وكلنا يعرف هذا كما ان حكوماتنا تعرفه ، ولهذا فقد اكرمتنا بما يكفي
ويزيد عن الحاجة ، وفي المقابل فقد اكرمناها بالسكوت عن حقوقنا الاساسية ، ليس حق
الاكل والشرب والتنعم في المسكن والملبس ، بل حقنا في التفكير والتعبير عما نفكر
فيه ، وحقنا في فرص متساوية امام القانون ، وحقنا في تقرير الطريقة التي تدار بها
حياتنا ، وحقنا في تقرير صورة مستقبل
ابنائنا .
الرأي
العام 8 فبراير 2001