أرى ان تبلور مفهوم "الفردية" ولاحقا مبدأ "الفردانية" هو الحجر الأساس لمبدأ "حقوق الانسان" الذي يعرفه عالم اليوم. لا ينبغي – طبعا – تناسي الخلافات الواسعة حول مبدأ "الفردانية" في المجتمعات الليبرالية والتقليدية على السواء ، سيما مع ربطه - انصافا او تكلفا – بالميل الطبيعي عند بني آدم للاستئثار بالمنافع قدر امكانهم. ونعرف ان المجتمعات قد تعارفت منذ نشأتها ، على مراعاة الجماعة ، والتضامن بين أعضائها ، واعتبروا هذه من الاخلاقيات الضرورية للعيش السليم.
عموما
، فان الموازنة بين الفرد والمجتمع في الحقوق والتكاليف ، كانت موضع جدل على
امتداد التاريخ. في مختلف الازمان ، كان الفرد مطالبا بغض الطرف عن حقوقه ورغباته
، وبالاندماج في الكتلة الاجتماعية ، كي يكسب لونها وهويتها. وفي المقابل ، كان
ثمة محاولات لأفراد ، أرادوا الانعتاق مما اعتبروه قيدا متكلفا على حياتهم أو تطلعاتهم.
اني
مقتنع تماما برؤية الفيلسوف المعاصر جون رولز ، التي
تدعو لموازنة حاسمة بين حقوق الفرد والجماعة. لكني أعتقد أيضا ان الفردانية كمبدأ
وكفلسفة ، ضرورة للتقدم والحياة الكريمة ، لا يمكن الاستغناء عنها ، وان مكانتها
وأهميتها لا تقل عن الحرية والمساواة ، سيما في المستوى السياسي والتطبيقي.
كان
آدم
سميث ، الاقتصادي الاستكتلندي المعروف (1723-1790) قد أشار في كتابه المرجعي "ثروة
الأمم" الى ما عرف لا حقا باسم "اليد
الخفية". هذه الفكرة تعالج مسألة في عمق الجدل السابق الذكر ، اعني بها
الدوافع الشخصية ، الأنانية في بعض الأحيان ، وتأثيرها على الاقتصاد المحلي ، وقدم
رؤية عميقة جدا رغم بساطة عرضها ، في بيان ان
المبادرات المنبعثة من مصلحة شخصية ، ضرورية لتحريك عجلة الاقتصاد[1].
وفقا
لهذه الرؤية فان المصلحة الشخصية هي الباعث وراء الغالبية الساحقة من تعاملاتنا مع
الآخرين ، في الاعمال والسوق وغيرها. ولو أردنا مراقبة النوايا ، فان غالبية
الافراد ينطلقون من رؤية ضيقة ، أنانية نوعا ما. لكن هذا التعامل ، أيا كان دافعه
، يؤدي بالضرورة الى منفعة عامة. خذ على سبيل المثال شخصا دخل المتجر لشراء معطف
يقيه البرد. سوف يختار هذا الشخص المعطف الأنسب لحاجته وقدرته الشرائية ، بغض
النظر عن حاجات البائع او ميول الجماعة. لكن البائع سينتفع من هذا التبادل ، حتى
لو لم يكن مقصودا من جانب الشخص الذي أنشأ المعاملة. لا يقتصر الامر على البائع ،
فالخياط الذي صنع المعطف والفلاح الذي انتج المواد الخام ، وعامل النقل الذي جلب
هذه المواد ثم جلب المعطف الى المتجر ، والحكومة التي تفرض ضرائب على المشتريات
والدخل ، سينتفعون جميعا ، بقدر قليل أو كثير ، مع انهم لم يكونوا مقصودين
بالمنفعة ، بل لم يكونوا أصلا في ذهن الشخص الأول أو الثاني اللذين اشتركا في تلك
المعاملة.
"اليد
الخفية" ببساطة ، أشبه بالحجر الصغير الذي ترميه في بركة كبيرة ، فيحرك موجة
تتسع كلما ابتعدت عن نقطة البداية. ذلك الحجر هو المبادرة الشخصية المدفوعة بمصلحة
خاصة لفرد واحد ، اما البركة فهي الاقتصاد الوطني ، والموجات هي مجموع التبادلات
التي تتولد نتيجة لتلك المعاملة الصغيرة. انها خفية لأن أحدا لم يقصدها ، مع ان
المخططين وقادة الاقتصاد ، يعلمون تماما انها ستحدث على هذا النحو ، بل ويستطيعون
تقدير حجمها وأثرها.
الواقع
ان هذا يشبه تماما دور الفرد الذي يحاول ان يصنع شيئا لنفسه ، لاشباع فضول او
صناعة ثروة او مجد. لكنه – من وراء هذا – يضع لبنة جديدة في عمارة التقدم وعمران
العالم. لو نظرنا الى ابرز التطورات التي عرفها البشر ، سنجد انها نتاج مبادرات أفراد
أرادوا منفعة انفسهم ، لكنهم أغنوا حياة البشر جميعا.
الفردانية
، رغم وصمها بالأنانية ، قد لا تكون سيئة دائما ، بل لعلي لا أبالغ لو قلت ان
قتلها وتحجيمها كان طالع سوء في أغلب الأحيان.
الخميس - 04 ذو القِعدة 1446 هـ - 1 مايو 2025
م https://aawsat.com/node/5138150
[1] لا بد من
إشارة الى ان سميث تعرض لهذه الفكرة مرتين ، احداهما في كتابه "ثروة
الأمم". ولذا ينسب اشتهار الفكرة الى الدراسات التي صدرت في النصف الثاني من
القرن العشرين. لبعض المعلومات حول هذه النقطة ، انظر اورن كاس: البحث عن اليد
الخفية ، مجلة التمويل والتنمية ، مارس 2025
. انظر أيضا تحفظات ايمون باتلر: آدم سميث
مقدمة موجزة ، ترجمة علي الحارس ، (مؤسسة هنداوي 2014) الفصل السادس
https://www.hindawi.org/books/73597191/6/