21/12/2023

هل ترسمون الخرائط؟

روى هذه القصة زميل لديه ابنة في مدرسة ابتدائية بمدينة "أكتون" ، غرب العاصمة البريطانية لندن.  وخلاصتها ان المعلمة سألت الطالبات عما فعلن في نهاية الاسبوع ، فأخبرتها الطفلة بانها ذهبت مع امها الى مكتب البريد ومحل الخضار والمكتبة المحلية. فطلبت منها ان تعمل خلال الاسبوع الجاري على رسم خريطة الطريق الذي تسلكه من منزلها الى تلك المواقع. وهذا سيكون واجبها المنزلي الوحيد. في الاسبوع التالي اتصلت المعلمة بالمنزل وسألت الاب: هل ساعدت ابنتك في رسم الخريطة؟. فقال انه شعر بالحاجة لمساعدتها ، لأنها ما كانت قادرة على رسم الخريطة وحدها. فعاتبته المعلمة قائلة "انك للتو دربت الطفلة على الاستهانة بعقلها ، وهذا امر سيء". المراد – على اي حال – ليس الخريطة المتقنة او  المعيبة ، بل تدريب الاطفال على استعادة التفاصيل التي يمرون بها ، التوقف عندها والتفكير في علاقتها ببعضها ، ثم تخيل الخطوط التي تربط بينها. جوهر المراد هو شحذ التفكير والتذكر ، وليس رسم الخريطة. وهذا لا يتحقق اذا ساعدها احد على ذلك. واردفت ان واجبهم في المدرسة هو تعليم الاطفال فن التفكير.

يقول زميلي ان هذه القصة شغلت ذهنه لفترة طويلة. ولطالما حدث نفسه متسائلا: هل يمثل موضوعها جوهر الفارق بين ثقافة المجتمعات الصناعية ونظيرتها النامية؟. هل نستطيع القول انها نقطة البداية في بناء جيل يستوعب تحديات المستقبل؟.

بيان ذلك: جرت العادة على القول ان الدور التعليمي للمدرسة يتركز على زيادة حجم المعارف التي يستعملها التلميذ.

اذا قبلنا بهذا التوصيف ، فسيأتينا سؤال ضروري:

ماهي المعارف التي نريد تعليمها لأبنائنا؟.

هذا سؤال عريض. لهذا سيذهب الجواب – بالضرورة – الى التعريف النسبي ، الذي يعالج جانبا واحدا فحسب. ومن هنا اقترح التركيز على نسبة التعليم الى زمنه. ربط الفكرة بالزمن يعني ان جواب اليوم قد يخالف جواب الامس ، مع ان كليهما صحيح في وقته. ما يميز بين زمن وآخر هو نوعية الثقافة التي تبنى على اساسها منظومات القيم والمعايير والعلاقات الداخلية ، ولاسيما العلاقة بين الأجيال القديمة والجديدة/الآباء والأبناء. وتتفرع منها مناهج التعليم وطرق التربية وتقاليد العمل.

تمتاز العائلات العربية بالشفقة على الابناء. ولهذا يلتزم الابوان بمساعدة اطفالهم في حل الواجبات المدرسية ومذاكرة الدروس. ولان هذه الثقافة سائدة أيضا في نظام التعليم ، فقد اعتاد المعلمون تكليف الاطفال بكم كبير من الواجبات المنزلية ، مع علمهم بأن المجتهد الحقيقي هو أم الطفل وليس الطفل. ولأن المطلوب هو انتاج الأشياء البديعة وليس البشر الأذكياء ، فقد ابتكرنا حلولا سهلة للعائلات المشغولة ، فأقيمت دكاكين تبيع حلول الواجبات ورسوم الوسائل التعليمية ، وغير ذلك مما يطلب من التلاميذ.

الذي يحدث في هذه الحالة هو تعليم التلميذ كيف يتهرب من تحمل المسؤولية ، بتحويلها الى امه ، او تعليمه فنون الاستهلاك بشراء المطلوب من السوق ، وليس الاجتهاد في انجازها بنفسه.

اما الذي يحدث في المكان الاخر ، الذي يعيش في زمن ثقافي مختلف ، فهو التركيز على قيام التلميذ بانجاز الواجب حتى لو اخطأ فيه. لأنه - في الاساس - وسيلة لغاية اخرى ، هي تعويده على التفكير والتذكر والتأمل في العاديات والأمور البسيطة التي يمر عليها كل يوم. والذين يفكرون يخطئون كثيرا قبل ان يصيبوا أول غاياتهم.

أما وقد وصلنا الى هذه النقطة ، فلعلنا نستذكر ان واحدا من التعريفات الهامة للحداثة هو انها: تقديس اللحظة الراهنة ثم الانطلاق منها للتفكير في بقية الأزمنة. في الرؤية الحداثية للعالم ، يتحدثون اذن عن الزمن الحاضر وعن المكان الحاضر ، لأننا ننتمي اليه وننطلق منه. اذا فكرنا بعمق في الذي حولنا ، فسوف نصل الى ما وراءه ، اي الى الغيب الذي تخفيه جدران المكان او الزمان او قلة المعرفة.

حسنا ، ما الذي ستفعلون الان ، هل سترسمون الخريطة ، ام تدعون ابناءكم يتأملون في عالمهم؟.

الشرق الاوسط الخميس - 07 جمادي الآخر 1445 هـ - 21 ديسمبر 2023

https://aawsat.com/node/4741381

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التعليم والسوق.. من يصنع الآخر؟

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

مجتمع المعرفة لازال هدفا ضروريا

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

هل نسعى لتعليم يملأ المكاتب بالموظفين؟



14/12/2023

هل نسعى لتعليم يملأ المكاتب بالموظفين؟


قدمت في الاسبوع الماضي لمحة عن رؤية البروفسور غونار ميردال ، المتعلقة باقتصاديات البلدان النامية. والتي يدعو فيها للنظر الى العدالة الاجتماعية كمحفز للاقتصاد ، لا كغاية اخلاقية او ايديولوجية فحسب.

أهمية هذه الرؤية تكمن في عنصرين ، أولهما ان الرأي الغالب بين السياسيين يعتبر برامج العدالة الاجتماعية ، كلفة كبيرة على الخزينة العامة. ويدعو للتخفف منها بقدر ما نستطيع. من هذا المنطلق فان معظم الحكومات التي تتبنى هذا النوع من السياسات المكلفة ، تقيمها على اعتبارات ايديولوجية أو أخلاقية. كما ان بعضها يسعى لتضييق قنوات الانفاق ، وتحميل جانب منها على المواطنين بشكل مباشر ، مثل فرض رسوم على التعليم الجامعي او الادوية او المستشفيات  العالية التخصص .. الخ.

النظام التعليمي الفاشل يفرغ الريف ليزيد البطالة في المدن 

اما العنصر الثاني الذي يبرز أهمية تلك الرؤية ، فهو يكمن في حقيقة انها تصدر عن خبير اقتصادي معروف في الاوساط العلمية شرقا وغربا. من المعروف اجمالا ان خبراء الاقتصاد العاملين في الادارات الحكومية ، يصنفون ضمن طبقة التكنوقراط ، ويلحق بهم – تجاوزا – زملاؤهم اعضاء الاكاديميات. ونعلم ان البروفسور ميردال عمل استاذا في الجامعة ، وباحثا في مراكز ابحاث ، وناشطا حزبيا ونائبا ووزيرا ، اي انه جميع المجد من طرفيه كما يقال. لكنه مع ذلك حافظ على رؤيته القائلة بان سياسات العدالة الاجتماعية ليست مسألة ايديولوجية او اخلاقية ، بل هي في المقام الأول ضرورة لتنشيط الاقتصاد وحفز الطاقات الكامنة والمعطلة فيه ، أي انه لم ينظر الى جانب الكلف المباشرة ، كما فعل نظراؤه التكنوقراط ، بل نظر اليها على ضوء تقديره الخاص لمكانة الانسان في العملية الاقتصادية.

يعاتب ميردال خبراء الاقتصاد لكثرة كلامهم عن تحسين نظم التعليم كي تتحسن الكفاءة الانتاجية للخريجين. كما يلاحظ ان قادة النظام التعليمي ربما انزلقوا أحيانا الى نفس هذا التقدير ، فبات الامر المهم عندهم هو ان يكون الشباب الذين تخرجوا من المدارس والجامعات ، موظفين جيدين ، الامر الذي يساعد على زيادة الانتاج وكفاءة المشروع الاقتصادي بشكل عام.

هذا التفكير يشبه ذلك الوزير الذي سئل يوما عن برنامجه لمعالجة البطالة في الأرياف ، فاقترح على الباحثين عن وظائف ، الانتقال الى المدن الكبرى ، التي تعج بالفرص الوظيفية من مختلف الانواع والمستويات. هذا النوع من التفكير ، سواء تم التعبير عنه صراحة او القيت الحبل على الغارب ، حتى يتوصل اليه الناس بأنفسهم ، هو الذي أدى الى تفريغ الارياف من قوة العمل ، ونشوء المناطق العشوائية حول المدن الكبرى.

كان ميردال قد لاحظ ان العائلات التي ارسلت اطفالها الى المدارس في الريف الهندي ، وضعت في اعتبارها ان المدرسة ستكون طريقهم للخلاص من العمل اليدوي في المزرعة ، والالتحاق بوظيفة مكتبية في المدينة. ومن هنا فان التعليم لم يخدم المجتمعات الريفية ، بل ساعد في تفريغها من قوة العمل وابقاها فقيرة ، أو ربما جعلها أكثر فقرا. اي ان التعليم قد عمل ضد اغراض التنمية الاقتصادية.

نعلم ان هذا المثال تكرر في العديد من المجتمعات ، وكان سببه دائما هو ان تلاميذ المدارس يوجهون كي يكونوا موظفين في دائرة ما او شركة ما ، ولا يدربون كي يصبحوا رواد اعمال ، ينشئون اعمالهم الخاصة ، التي تفتح الباب لتوظيف آخرين وزيادة حجم المال الذي يدور في السوق المحلي.

يعتقد ميردال ان دور التعليم هو خلق القابلية للابداع الفكري والعملي ، والاستعداد للمغامرة الفردية ، وان يكون هدف التلميذ هو صناعة عمله الخاص ، وليس تأجير يديه ووقته.

بديهي ان غالبية خريجي المدارس ستفضل الوظيفة المريحة. لكن الفارق كبير بين ان نحصل على 10 رواد اعمال ومبدعين في كل 100 خريج ، او نحصل على 100 باحث عن وظيفة بين كل 100 خريج.

الشرق الاوسط الخميس - 30 جمادي الأول 1445 هـ - 14 ديسمبر 2023 م

https://aawsat.news/2vmq7

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التعليم والسوق.. من يصنع الآخر؟

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

مجتمع المعرفة لازال هدفا ضروريا

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

  

07/12/2023

التعليم والسوق.. من يصنع الآخر؟

منذ بداية القرن العشرين ، حصل 1000 من الشخصيات البارزة على "جائزة نوبل" ، من بينها 4 حالات فقط ، منحت الجائزة لزوج وزوجته بصورة مشتركة. لكنها منحت مرتين اخريين لكل من الزوج والزوجة على انفراد. وكان هذا في 1974 حين منح البروفسور غونار ميردال "جائزة نوبل التذكارية" في الاقتصاد ، ثم منحت زوجته ألفا "جائزة نوبل" للسلام عام 1982.

البروفسور غونار ميردال (1987-1898)

غونار ميردال واحد من أعلام الدراسات الاقتصادية المعاصرة. لكنه كتب وتحدث ايضا في علم الاجتماع ، وطرق احيانا ابواب الفلسفة والتاريخ. وأظن ان اهتمامه بعلم الاقتصاد على مستوى الدولة ، قد كشف له عن نقاط التعارض بين ما يصنف كنفقات عامة ، وما يعتبر استثمارا في الجيل القادم ، من اجل ضمان مستقبل البلاد.

كانت السنوات التالية لنهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945) قد شهدت جدالات واسعة بين تيارين في السياسة الاوربية ، يدعو احدهما الى "دولة الرفاه welfare-state "  التي تضمن للمواطن كافة الخدمات الاولية الضرورية ، بينما يدعو الثاني الى "دولة الحارس الليلي night-watchman state" التي يقتصر دورها على حفظ الامن الاجتماعي وتمثيل البلاد في الخارج. واختار ميردال النموذج الأول ، لأنه – أولا - يؤمن بان العدالة الاجتماعية تتحقق من خلال التوزيع العادل للثروة ، وان هذا يعني تحديدا قيام الدولة بتوفير الحاجات الاساسية ، التي لا يستطيع الناس توفيرها بمفردهم ، مثل التعليم الاساسي والصحة وأمثالها. لكن مجادلته الأساسية تكمن في المبرر الثاني ، وهو اقتصادي بحت ، خلاصته ان توفير الحاجات الاساسية للمواطنين ، ولو من خلال زيادة الضرائب ، اشبه بالمال الذي يستثمره التاجر او الصانع ، كي يربح لاحقا. حين توفر الدولة الخدمات العامة الاساسية ، فان الكفاءة الانتاجية للمجتمع سترتفع ، ويرتفع تبعا لها الدخل القومي والفردي ، لا سيما عند الاجيال الآتية.

يرجع اهتمامي بالاستاذ ميردال الى دراساته القيمة عن اقتصاديات النمو ، ولا سيما الارضية الاجتماعية للاقتصاد وملاحظاته على العلاقة بين الثقافة والاقتصاد ، في كتابه الشهير "الدراما الاسيوية: تحقيق في اسباب فقر الامم". وأريد الاشارة بالخصوص الى رؤيته حول دور التعليم في صناعة السوق ، وهي تخالف - من حيث المبدأ - الرأي القائل بان على التعليم ان يعمل بحسب حاجات السوق. والتي يبررها اصحابها بان الشباب يتعلم كي يضمن وظيفة ، فلا بد له ان يكيف دراسته ، على النحو الذي يريده أرباب الأعمال. هذه الرؤية جزء من منصور أوسع يركز على الانتاج وكسب المال كغاية. لكن ماذا عن الغاية الاعلى ، اي الانسان نفسه؟.

يبدو لي ان الجدل في الفكرة سيقودنا الى نوع من الدوران في حلقة مفرغة. فسواء اخذنا بهذا الرأي أو ذاك فسوف نصل الى الثاني ، اما كوسيلة او كغاية. ومن هنا فان المسألة مجرد جدل لفظي. لكن الجانب الذي يستحق الاهتمام هو حقيقة ان التعليم استثمار في العقول. وان العقول الناضجة بذاتها مصانع للثروات ، وليس مجرد خبرات تؤجر لرب عمل ما. تؤكد هذا المعنى تجربة بنغالور ، المدينة الشهيرة بانها وادي السليكون الهندي ، فقد تجاوزت صادراتها من الخدمات التقنية في العام الماضي 38 مليار دولار. هذه الاموال جاءت بشكل رئيسي من عمل العقول. وهي مثال واقعي واحد على دور التعليم كصانع للسوق ، وليس خادما للسوق. سياسات التعليم التي اختارتها الهند ، وفرت فرصة كي يتحول شبابها الى قنوات تستقطب الأموال من أسواق العالم.

لمعرفة القيمة المقارنة لهذه الصادرات ، أذكر ان مجموع العاملين في قطاع الخدمات التقنية بمدينة بنغالور يبلغ مليونين تقريبا. بالمقارنة فان مجموع صادرات الهند الزراعية تبلغ 33.5 مليار دولار ، ويعمل فيها 152 مليون شخص. اي ان كل عامل زراعي يوفر 220 دولار من الصادرات ، بينما نظيره العامل في مجال التقنية نحو 19,000 دولار.

اظن ان هذه مجادلة مقنعة بأن توجيه التعليم كي يخلق السوق وبالتالي الاقتصاد ، خير من الاتجاه المعاكس ذي الطبيعة الانكماشية.

الشرق الاوسط الخميس - 23 جمادي الأول 1445 هـ - 7 ديسمبر 2023 م https://aawsat.com/node/4713026

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

مجتمع المعرفة لازال هدفا ضروريا

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

 

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...