‏إظهار الرسائل ذات التسميات مدينة الله. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مدينة الله. إظهار كافة الرسائل

27/07/2022

مدينة الله


اذا كنت من قراء الروايات الكلاسيكية ، فالمؤكد ان عنوانا مثل "قصة مدينتين" سوف يشد انتباهك. هذه واحدة من أكثر الروايات شهرة في القرن العشرين. وظني ان هذا الإيحاء هو الذي جعل الفيلسوف ديفيد ميلر ، يختاره عنوانا للفصل الأخير من كتابه "العدالة لأهل الأرض= Justice for Earthlings: Essays in Political Philosophy".

القديس اوغسطين

يبدأ الفصل المسمى "قصة مدينتين: الفلسفة السياسية كنوع من العزاء" بعرض موجز لرؤية القديس أوغسطين (354-430م) وهو من ابرز صناع الفكر المسيحي. ويذكر له خصوصا مساهمته في تجسير الهوة بين تعاليم الكنيسة والفلسفة الافلاطونية ، لاسيما في كتابه "مدينة الله". رأى أوغسطين ان العدالة والكمال وبقية الفضائل ، بل حتى السعادة بالمعنى الدنيوي ، غير قابلة للتحقيق الا في مدينة الله ، التي يتزعمها السيد المسيح ، وتعيش وفق تعليماته السامية. هذه المدينة الفاضلة ليست ممكنة في عالمنا المادي ، فهي اقرب الى حالة معنوية تتمثل رمزيا في الكنيسة على الأرض ، ثم تتحقق ماديا في ملكوت الله السماوي.

-         ماذا ينبغي للناس إذن ان يفعلوا في حياتهم الدنيوية؟.

الحياة الدنيا – وفقا لرؤية أوغسطين – ممر يعبره المؤمن سريعا خفيفا ، يستعجل الوصول الى مدينة الله ، حيث يلتحق ب "الحلم المسيحي". أما الذي نراه في الدنيا فليس سوى "أثر" للسعادة والعدل و "علامة" تدل على امكانيتها وعلو قيمتها. اما السعادة الصافية والعدالة الناجزة ، فهي مستحيلة في عالم البشر الخطائين.

-         لكن لماذا يكتب أوغسطين شيئا كهذا.. الا يخشى ان يدب اليأس في قلوب المؤمنين ، وتنحدر قيمة التعاليم الإلهية؟.

يذكر العديد من الباحثين ان اوغسطين أراد تقديم نوع من العزاء لعامة المسيحيين ، الذين اصابهم القنوط ، بعدما استولت القبائل القوطية المتوحشة على مدينة روما ، ودمرت كنائسها ومبانيها الكبرى. قبل ذلك كان رجال الدين يخبرون المؤمنين بان الله معهم وسيحميهم بأي وسيلة ، وان وجود الكنيسة يشكل نوعا من الحصن الرباني لهذه المدينة.

مدينة القديس اوغسطين ، ممكنة إذن وضرورية للايمان. لكننا لن نراها على أي حال ، فهي تنتمي الى عالم آخر غير العالم الذي نعرفه.

لعل القاريء العزيز قد استنتج الآن ان الثانية في "قصة مدينتين" هي مدينة الانسان العادي ، الذي يرتكب الأخطاء والآثام ، ثم يتوب منها ، ثم يعود اليها ، ثم يتوب ، ويواصل كفاحه لتحسين الحياة على الأرض ، حتى لو آمن بأن وراء هذا العالم ، عالم آخر عند الله وفي ملكوته السماوي.

ربما نستذكر أيضا العديد من النماذج الشبيهة لرؤية أوغسطين ، في أيامنا هذه ، قريبا منا او من حولنا. ربما نعرف كتبا مثل "العدل الإلهي" او "اقتصادنا" او "هذا الدين للقرن الواحد والعشرين" وأمثالها ، وهي تعرض رؤى عن مجتمع مثالي ، ممكن في رأي كتابها ، بل وضروري للايمان ، لكنه غير قابل للتجربة ، وهو بالطبع ليس نتاج تجربة. الذين كتبوا تنظيرا لهذا المجتمع او تحدثوا عنه ، لم يستهدفوا في الأساس تقديم حلول تجريبية ، تخضع لمعايير التصحيح والتفنيد الجارية في الحياة العادية. بل أرادوا اقناع القاريء بان ما يعرضونه يفوق كل شيء في الدنيا ، فان لم ير المؤمن برهانا على هذا ، فسيراه في الآخرة ان شاء الله.  

اني أتساءل مع البروفسور ميلر: هل ننتج العلم كي نعمر الأرض ونبني المستقبل ، ام نكرر ما أراده اوغسطين: مواساة الناس المحبطين والقلقين ، وتعزيتهم بأن اخفاقهم في الدنيا سيعوض في مملكة الله؟. هل نكتب من اجل الرثاء والسلوى ، ام نسعى لاصلاح الحياة؟.

الشرق الأوسط الأربعاء - 27 ذو الحجة 1443 هـ - 27 يوليو 2022 مـ رقم العدد [15947]

https://aawsat.com/node/3781701

23/06/2021

الاثم الاصلي

 

ذكرت في مقال الأسبوع الماضي ، ان المجتمعات الشرقية تميل في مجملها ، للرؤية القائلة بأن الناس لو تركوا وشأنهم ، فالمرجح ان ينزلقوا الى النزاع ، حتى يقتل بعضهم بعضا. كما اشرت في السياق الى راي افلاطون ،  الذي قال ان خوف الناس من العقاب هو الذي يدفعهم لاحترام القانون ، وليس اقتناعهم به او ايمانهم بضرورته للحياة السليمة ، وان هذا المبدأ يتخذ عادة كمبرر للسلطة الخشنة.

والرأي القائل بالميل الفطري للشر والفساد ، هو النظرية التي بقيت شائعة حتى القرن السابع عشر. وبحسب بعض الباحثين فان اول صياغة قوية لها ، تمت على يد القديس اغسطين (354-430م) في كتابه "مدينة الله" ، الذي يعد اول تصوير متكامل للنظرية السياسية الكاثوليكية. وفقا لرؤية اغسطين فان الانسان مذنب بطبعه ، ومحكوم بالاثم الأصلي original sin الذي أنزل أبانا آدم الى الأرض. ولذا فلا بد للمجتمع الإنساني ، من سلطة قادرة على منع الآثمين من الاستغراق في خطاياهم. كما تبنى موقف ارسطو ، القائل بان نظام الكون يقتضي وجود شريحة من الناس وظيفتها الحكم ، وشرائح أخرى وظيفتها الطاعة. تقاسم الأدوار هذا ضروري لاقامة العدل من جهة ، وهو علاج للاثم الاصلي من جهة اخرى. كما رأى ان السلطة الجبرية ضرورية ، وان العدل غير قابل للتحقق الا في دولة دينية ، تقيمها الكنيسة او تخضع لتوجيه الكنيسة.

وقد لاحظت خلال أبحاث سابقة ، ان القائلين بفساد الفطرة البشرية وميل الانسان الطبيعي للشر ، يشتركون في موقف آخر هو ايمانهم بعدم التكافؤ بين البشر ، وبالتالي فانهم لا يرون المساواة ضرورة للعدالة ، بل ولا يعتقدون بضرورتها. وفقا للعلامة الحسن بن مطهر الحلي (1250-1325م) فان "الغالب على أكثر الناس القوة الشهوية والغضبية والوهمية ، بحيث يستبيح كثير من الجهال لذلك ، اختلال نظام النوع الإنساني". وراي الحلي هذا ، مطابق لرأي غالبية معاصريه من الفقهاء ومن جاء بعدهم.

ومال غالبية القدامى (ومن تبعهم من المعاصرين) الى ان التفاوت يبدا في لحظة الولادة. وحسب رأي ارسطو ، فانه "من أجل انتظام الحياة ، قضت الطبيعة للكائن الموصوف بالعقل والتبصر ان يامر بوصفه سيدا. كما قضت للكائن القوي البدن ان ينفذ الاوامر بوصفه عبدا. وبهذا تمتزج منفعة السيد ومنفعة العبد".  ويؤكد في نفس السياق ، ان الله – في لحظة الولادة – "يصب من الذهب في نفس فريق ، ومن الفضة في نفس فريق آخر ، ويصب النحاس في نفس هؤلاء الذين يجب ان يكونوا صناعا وزراعا".

وبمثل ما اختلف الناس في المكانة والمؤهلات والقيمة في لحظة الولادة ، فسيبقون على هذا النحو طوال حياتهم ، حيث قرر افلاطون ، أستاذ ارسطو  بان العدالة لا ترتبط بالمساواة. تكون الدولة عادلة في رأيه اذا رضي كل صاحب حرفة بما أهلته له طبيعته ، اذا رضي الصانع والفلاح مثلا بوضعه ، ولم يحاول ممارسة عمل غير ما هو مؤهل له طبيعيا. بعبارة اخرى فان العدالة تكمن في المحافظة على الفوارق بين الناس وليس الغاءها ، كما يميل انسان العصر الحديث.

قلت في الأسبوع الماضي ان الارتياب في الفطرة البشرية ، متصل بموقع العدالة في ثقافتنا العامة. واظن ان هذا قد اتضح الآن ، على الأقل فيما يخص أبرز أركان العدالة وتجلياتها ، أي مبدأ المساواة بين الناس.

الشرق الاوسط الأربعاء - 13 ذو القعدة 1442 هـ - 23 يونيو 2021 مـ رقم العدد [15548]

https://aawsat.com/node/3041751/

مقالات ذات صلة


رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...