أظهر الاستاذ عبد الله
الحصين جلدا بينا وحصافة محمودة ، في مناقشة الملاحظات التي كتبتها ضمن مقال
الخميس الأسبق ، تعقيبا على مقاله (لماذا الهجوم على الثوابت) المنشور في 27 جمادى
الثاني المنصرم ، وقد طوق عنقي بالاحسان إذ مدحني وأنا غير مستحق للمدح ، فيحسن بي
انتهاز الفرصة للاشادة بسعة صدره وخلقه الرفيع ، واحتماله مجادلة من هو في مقام
ابنه أو تلميذه علما وشأنا .
أثار الاستاذ الحصين في
مقاله الأول ورده التالي مسائل هامة ، تتعلق بمنهج النقد ونظرتنا إلى تراثنا
الفكري وموقفنا من المساهمات الفكرية المعاصرة ، لا سيما هذه التي تحاول وضع تشكيل
للثقافة الاسلامية ، جديد وقادر على الاستجابة لتحديات العصر ، هذه الاثارات هي
الأولى بالنقاش ، أما الشواهد التي تفضل الاستاذ بايرادها فهي مقبولة على أي حال ،
حتى لو اختلفنا في صحة الاستشهاد ببعضها ، أو التعويل عليها في اتخاذ موقف محدد من
الاساتذة الذين خصص المقال لنقد آرائهم . فليسمح لي بالتعرض لبعضها على وجه
الايجاز :
☼ أولى
المسائل هي التدرج الزمني للعلم ، يتساءل الاستاذ الحصين عما إذا كان شخص معين من
كتاب هذا العصر قادرا على كشف ما لم يكتشفه الصحابة والسلف الصالح من العلماء
الأجلاء ، ومفهوم هذا السؤال ، ان السلف لم يتركوا شيئا من العلم إلا وطرقوه
وخلصوا إلى ما فيه ، فلم يتركوا لمن بعدهم ما يستحق النظر أو ما يعول عليه ،
وبالتالي فان المواقف التي عبر عنها السالفون هي المواقف التي يجب على الخلف
تبنيها والأخذ بها ، وليس لهم نقضها أو نقدها أو البحث عن احتمالات في غيرها ،
وهذا رأي قال به كثير من أهل العلم في هذا العصر وفي الماضي ، وتدعمه نظرية
السير التراجعي للتاريخ التي يتبناها بعض
أهل العلم ، وخلاصتها ان الزمان والخيرية يسيران في اتجاهين متعاكسين ، فكل زمن
يأتي يكون أقل خيرا مما سبقه وهكذا .
وكلا الرأيين مخالف للمنطق ،
وما يهمنا هو الرأي الأول ، فالعلم قد يتوقف في أمة من الأمم زمنا ، وقد يبطيء
الحركة ، وقد يذهب موضوع معين أو اتجاه علمي معين إلى هامش الاهتمام ، لكن لا يمكن
الحكم على المحصلة العامة للعلم ، في أزمان متوالية ، بأنه تخلف أو توقف ، ولا
يخرج العلم بالدين والشريعة عن هذا التعميم .
ومهما افتقرنا إلى جرأة
الادعاء بوجود علماء في هذا العصر ، أو في سابقه ، ممن يجاوز ـ عمقا في الدين
وفهما للشريعة ـ بعض السلف ، إلا انه لا مناص من الاصرار على أن ما يتوفر في هذا
العصر ، من علوم ومناهج وأدوات بحث ، تزيد كثيرا عما توفر في الأزمان الماضية ،
وتهيء الفرصة للتوصل إلى آراء تجاوز ما
وصل اليه السلف . ان فضل السلف لا يرجع
إلى كثرة علمهم وعمق نظرهم ، بل إلى سبقهم واحتمالهم وكفاحهم في سبيل تثبيت أركان
الشريعة المقدسة ، وواضح ان هذه مسألة أخرى لا علاقة لها بالعلم على وجه الضرورة .
وأظن أن جلال قدر السابقين
قد أخذ بتلابيب أفهامنا ، فانتزع منا الجرأة التي يحتاجها صاحب العلم ، لكي يبحث
أمرا سبقه اليه من يعلوه شأنا ، ونتيجة لهذا الخوف من المخالفة ، فقد اصبح انتاجنا
العلمي مجرد جمع مكرور لما قاله السابقون ، وأصبحنا نعجب إذا سمعنا قولا يخالف ما
ينقل من آراء السابقين .
☼ الثانية
: ان الدين في معناه الأخص والدقيق هو ما في القرآن والسنة المطهرة (ما ان تمسكتم
به لن تضلوا) أما آراء الصحابة والتابعين والعلماء الأجلاء ، فهي شروح وتفسيرات
وتنزيل للنصوص على الموارد الموضوعية الخاصة ، وليس لنا ولا لغيرنا ، الحق في وضع
أحد من هؤلاء الأجلاء في مقام الرسول صلوات الله عليه ، فنأخذ كلامه كما نأخذ كلام
الرسول . ان الله سائلنا في غد عما بين دفتي كتابه ، وما وصلنا من أقوال نبيه عليه
الصلاة والسلام .
لكن آراء الصحابة والعلماء
قد تعامل معاملة الدين في معناه الأعم ، إذا اطمأن المكلف إلى كون الشرح أو
التفسير أو الاجتهاد أو الارشاد ، مطابقا لمقاصد النص القرآني أو النبوي . والمكلف
نوعان المجتهد والعامي ، فالمجتهد يأخذ برأي من سبقه إذا وافق على مبانيه وأدلته ،
والعامي يأخذ بهذا الرأي إذا اطمأنت نفسه إلى قول محدد لعالم ، أو جملة ما قاله
عالم معين ، فهو لعجزه عن البحث عن الادلة ، محتاج إلى ابراء ذمته بأخذ الرأي ممن
يمكن الاحتجاج برأيه يوم السؤال ، ولا شك ان اجلاء الصحابة والتابعين والعلماء ،
كثير منهم ، من هذا النوع ، فالاخذ بأقوالهم وتفسيراتهم على الوجه الأول أو الثاني
، لا غبار عليه .
لكن إذا استثنينا الحاجة
الشخصية المحددة زمنا وموضوعا ، فان هذه الآراء تبقى في مكانها الطبيعي كآراء
علمية ، ولا ترقى إلى مستوى النص المعصوم ، الملزم لكافة الناس في كل الأزمان
والأمكنة ، وقد وضع الأصوليون لها تعريفا خاصا ، فأدرجوها تحت عنوان (الاحكام
الظاهرية) لتمييزها عن (الأحكام الواقعية)
التي هي المراد الواقعي للخالق سبحانه ، بكلمة أخرى فان تلك الاراء هي فهم اصحابها للدين ، وليست دينا
بالمعنى الخاص . والفهم البشري ـ كما نعلم بالضرورة ـ قاصر عن بلوغ المراد الرباني
، فهو يصيب مرة ويخطيء أخرى ، وفي الأزمان السابقة اختلف العلماء في تحديد القيمة
الشرعية لرأي المجتهد ، فقال الأكثر بالتخطئة ، وقال بعضهم ـ كالامام الغزالي في المستصفى
ـ بالتصويب ، بل اعتبر قول المجتهد خلقا لخطاب التكليف ، لكن لم يذهب إلى هذا
الرأي غير القليل
.
والخلاصة ان أقوال العلماء
السابقين ، في كل أزمانهم ، لها قيمة رفيعة ومرجعية ، لكنها قيمة علمية ومرجعية
علمية ، فمخالفتها لا ترقى إلى مرتبة الخلاف في الدين ، ومن خالفها لا يعتبر خارجا
عن الدين .
☼ الثالثة
: لكل من العلم والايمان مكانه الخاص ، الايمان مستقره القلب ، والعلم محله العقل
، طبيعة الايمان التمكن من النفس والتداخل مع نسيج العاطفة ، حتى يتحول المؤمن وما
يؤمن به إلى شيء واحد ، والعاطفة قد تتحول في فروعها ويبقى الأساس ثابتا مكينا ،
يحوم الانسان محاولا الابتعاد عنه ثم يعود ، وقديما قالت العرب (كم منزل في الأرض
يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل).
أما العلم فهو دائم التحول ،
لا يستقر على حال ، وهذه طبيعة العقل وما يحل فيه ، وتجد الانسان منذ نعومة أظفاره
إلى أن يبلغ من الكبر عتيا ، مستقر الايمان بما عرفه أولا ، بغض النظر عن مصادر
هذه المعرفة ، لكن لا تجد أحدا توقف عند حد معين في العلم ، فهو يتعرف كل يوم على
جديد يحل في مكان ما حصل عليه بالأمس .
أردت من هذا ، الاشارة الى
ان ايمان الناس لا يتزعزع لمجرد قراءتهم كتابا لمؤلف ، أو تعرفهم على رأي لعالم ،
ما حصل في العالم الإسلامي من انسلاخ بعض أبنائه عن الالتزام بالدين القويم ، لم
يكن نتيجة كتب قرأوها ، بل لأنهم لم يقرأوا ، ولو بكرنا قليلا في طرح مختلف الاراء
تحت مظلة الاقرار بمرجعية القرآن وقطعيته ونهائيته ، لربما ساهمنا في الحفاظ على
كثير ممن تباعد أو اتخذ طريقا آخر ، هؤلاء الذين ذهبوا بعيدا لم يجدوا سعة فيما هو
متعارف ، فبحثوا عن غيره ، ولو تركنا فسحة لربما بقوا ضمن الاطار . وأخشى ان تؤدي
المبالغة في التحوط والقلق إلى مزيد من التضييق . خاصة وأن ما نريده من الناس هو
الاتفاق على الأصول ، أما الفروع ففيها سعة ، ولا يلام على الخلف فيها مخالف .
5 نوفمبر 1998
مقالات ذات علاقة
-------------------