ما يشاهد من جرأة على معارضة المؤسسات الدينية ونقد رجال الدين ، ليس ناتجا عن تراجع الايمان في نفوس الناس ، وليس سببه قيام جماعات او منظمات ، هدفها النيل من مكانة الدين ورجاله في المجتمع المسلم. خلال الثلاثين عاما الاخيرة تحولت شريحة كبيرة من العاملين في الحقل الديني ، الى العمل السياسي الصريح او الضمني ، بعدما كان همها الوحيد اخلاقيا يتمحور في الدعوة الى مكارم الاخلاق ، واحسان العمل وتعليم الناس عقائدهم وعباداتهم. تبعا لذلك نشأت حالة استقطاب متعدد في المجتمع ، بين المحاور التي تمثلها الجماعات الدينية – السياسية المختلفة ، وكذلك بين الاتجاه الجديد المائل للسياسة ، وذلك الذي يصر على الاستمرار في الطريق التقليدي.
حين تتبنى خطابا سياسيا وحين تدعو
لاهداف سياسية ، فانت بالضرورة تسعى لخلق نظام علاقة بينك وبين الناس ينطوي على
نوع من السلطة. وهذا يستدعي اوتوماتيكيا بروز معارضة من جانب الاطراف التي تشعر
بالمزاحمة او التهديد او حتى التدخل البسيط. هذه الاطراف تشمل الحكومات في المقام
الاول ، لكنها تضم ايضا المجموعات الاخرى التي تتبنى خطابا مماثلا او تتمتع بنفوذ
في المجتمع ، او تشعر بان ظهور دوائر
مصالح جديدة ينطوي على تهديد لدوائرها الخاصة.
نحن نتحدث اذن عن تطور طبيعي يمكن ان
يحدث في اي مجتمع: السعي لفرض دائرة مصالح جديدة ، يؤدي الى رد فعل من جانب
الدوائر الاخرى ، كما يؤدي الى انشقاقات
باعثها هو الاختلاف في تحديد تفاصيل المصلحة المنشودة وكيفية انجازها. وهذا وذاك
يؤدي الى ظهور صراعات بين اطراف التيار نفسه.
شهدنا مثل هذا التطور في التيار السلفي
السعودي ، خلال العقد الاخير من القرن المنصرم. اطلق الغزو العراقي للكويت في
اغسطس 1990 سلسلة من التفاعلات داخل المجتمع السعودي ، ابرزت لاول مرة تيارا يتسع
بالتدريج ويطالب بالاصلاح. بروز هذا التيار اثار رد فعل فوري وسط السلفيين ، الذي
خشي قادتهم من ان تتجه البلاد الى الليبرالية ، بسبب الضغط الاجتماعي الداخلي ، او
بسبب التحالف مع الولايات المتحدة الامريكية ، الذي عمقته الحاجات المتبادلة خلال
الحرب على العراق.
في نوفمبر 1990 نظم 47 سيدة سعودية
تظاهرة بالسيارات في شوارع الرياض ، من اجل اقرار حقهن في قيادتها . ردا على ذلك
امر الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ اعضاء هيئة الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر بوقف المظاهرة واعتقال السيدات . لكن الشيخ عزل من منصبه بامر ملكي في
منتصف ديسمبر التالي. اثارت تلك الحادثة جدلا شديدا في الوسط الديني ، وتحولت الى
موضوع رئيسي لخطب الجمعة طيلة الاشهر الثلاثة التالية. ولاحظ عدد من الخطباء ان
الحكومة لم تتخذ موقفا صارما مما اعتبروه هجوما تغريبيا ، بل على العكس من ذلك فان
عزل رئيس الهيئة كان اشارة الى عزم الحكومة تقييد المؤسسات الدينية التي تتصرف دون
اوامر رسمية مباشرة.
في يناير 1991 نشر عدد من الشخصيات
البارزة ، وثيقة مطالب موجهة الى الحكومة ، تطالبها باجراء اصلاحات رئيسية في
الادارة الرسمية وعلاقة الدولة بالمجتمع . وقع على الوثيقة مثقفون بارزون ومسؤولون
سابقون وشخصيات ذات نفوذ اجتماعي ، ولم يكن بينهم اي رجل دين. وفي مايو 1991 قدم
200 من العلماء السلفيين البارزين خطابا مماثلا الى الملك فهد ، لكنه – بدلا من
المطالبة باصلاحات سياسية – ركز على نقد
ما وصفه بالتباعد المشهود عن احكام الشريعة . وطالب الملك بتعزيز دور
العلماء والمؤسسة الدينية في الدولة والمجتمع. تلى ذلك نشر وثيقة اكثر تفصيلا ،
عرفت بمذكرة النصيحة ، وضعت في يونيو 1992 ووقع عليها 400 من المشايخ والدعاة من
الطبقة الثانية والثالثة. كانت هذه المذكرة التي تشبه في صياغتها البرامج السياسية
للاحزاب ، اول ظهور سياسي منظم وواسع النطاق للتيار السلفي المستقل والمعارض
للحكومة. ايد كبار العلماء هذه المذكرة في اول الامر ، لكنهم سارعوا بادانتها ،
كما تنصلوا من الخطاب السابق لان نشرهما يعد خروجا على تقاليد النصيحة لولي الامر.
على خلفية هذا الموقف ، جرى اعتقال معظم الموقعين على "مذكرة النصيحة"
او منعهم من السفر ، وكان هذا بداية لاوسع انشقاق في التيار السلفي.
خلال السنوات التالية تحول عدد من موقعي مذكرة
النصيحة الى رموز سياسية او شبه سياسية ، يلتف حولهم جيل الشباب ، بينما جرى تصنيف
كبار العلماء كتقليديين او حكوميين. وشهدت البلاد للمرة الاولى حالة استقطاب في
الوسط السلفي ، بين القطب الذي يدور في فلك الدولة ، وذلك الذي يحاول البقاء
مستقلا خارج اطارها.