نشر في نشرة مساواة – يناير 2009
شغل تعريف مفهوم "الحرية" جانبا عظيما من اهتمام
الباحثين في علم السياسة . ولعل اكثرها انتشارا هو تعريف توماس هوبز الذي يقرن
الحرية بعدم التدخل . فقد رأى هوبز واتباعه ان جميع القوانين تمثل قيودا على حرية
الفرد . فالقانون بطبيعته اما محدد لحركة الانسان بمعنى انه يفرض عليه السير في
طريق معين ، او كابح له من السير بحسب رغبته وارادته الخاصة[1]. ومال الى نفس الفكرة
الفيلسوف الانجليزي جيريمي بنثام في القرن التاسع عشر فقرر ان كل حرية تعطى لفرد تنطوي
ضرورة على تقييد لحرية غيره ، حتى القانون الذي تسنه الحكومة لحماية ملكي هو قيد
عليك كما ان القانون الذي يحميك هو قيد علي ، بل ان القانون الذي تسنه الحكومة
لحماية حريتي هو بشكل او بآخر قيد علي لما ينطوي فيه من الزامات ذاتية او متقابلة [2]. خلاصة هذه الرؤية اذن ان
الحرية الحقيقية تكمن في صمت القانون.
اما جان جاك روسو فقد قرر ان جميع الناس يولدون احرارا متساوين ، لكن على الانسان ان
يتخلى عن حريته الطبيعية لصالح الحرية المدنية . حرية الانسان في الحالة الطبيعية
تكمن في قوته الجسدية التي تمكنه من فعل ما يشاء ، والاكثر حرية هو الاكثر قوة
والعكس بالعكس . اما في المجتمع المدني فان حقوق الانسان وحريته محمية بالقانون
والسلطة التي تنفذه نيابة عن المجموع . بعبارة اخرى فان ما يخسره الفرد حين ينضم
الى المجتمع المدني هو حريته في استعمال قوته الجسدية لممارسة حرياته الاخرى ، وما
يربحه هو اعتراف المجتمع بحريته المدنية وملكية ما يحوزه باعتبارها حقوقا ثابتة لا
تحتاج الى قوة فردية تحميها. وحسب روسو فانه لا فرق بين الحريتين الطبيعية
والمدنية من حيث الجوهر والمحتوى، انما
تختلفان في الارضية التي تقوم عليها والحدود النهائية لكل منهما . من هنا
قد يمكن القول ان الحرية المدنية هي ذاتها الحرية الطبيعية لكن مع تاطيرها
وتحديدها بالارادة العامة المتمثلة في القانون.
يقوم
هذا المفهوم على التمييز بين الحرية والقدرة . "انا قادر على" هي شيء
مختلف عن " انا حر في". يستطيع الانسان فعل ما يشاء حين تغيب الموانع
التي تحول بينه وبين مقصوده او تزاحم فعله فيه . وما دام الفرد يعيش مع الاخرين
فان تلك الموانع حاضرة ، ان الظرف الوحيد الذي تغيب فيه الموانع والمزاحمات للحرية
الفردية تماما هو ظرف العزلة ، اي حين يعيش الفرد وحيدا وبعيدا عن اي فرد آخر ،
لان مفهوم الحرية لا يكون له موضوع الا حين يوجد آخرون تتزاحم اراداتهم مع ارادات
الفرد .
نستطيع اذن التمييز بين حرية خارج المجتمع المدني وحرية في
المجتمع المدني ، او حرية طبيعية وحرية مدنية ، وابرز سمات الاخيرة هي كونها
مضمونة ومحمية بالقانون الذي يمثل اجماع الجماعة وارادتهم العامة حسب تفسير جون
لوك.
ترى .. هل يعني هذا ان القانون هو الذي يمنح الحرية ؟. اذا كان
الامر كذلك فان القانون (اي ارادة الجماعة) اعلى من الحرية الفردية ؟.
اشرنا سابقا الى تقسيم الفلاسفة للحقوق الفردية الى صنفين : صنف
ثابت للانسان بالولادة وهو ما يسمى الحقوق الطبيعية ، وصنف يثبت له بمقتضى العقد
الاجتماعي ، اي كونه عضوا في المجتمع المدني . مرجع الصنف الاول هو
قانون الفطرة وهو اعلى من كل قانون يضعه البشر ، بل هو مرجع كل قانون بشري وحاكم
عليه . الحقوق الطبيعية - تبعا لهذا المبدأ - فوق القوانين الوضعية وحاكمة عليها ،
بمعنى انه لا يجوز للمجتمع او الدولة اصدار قانون يخرق حقوق الافراد الطبيعية
لانها جزء من جوهر انسانيتهم وضرورة لها . ولعل ابرز ما يدخل في تلك الحقوق هو حق
الحياة ، اذ يحق لكل فرد فعل ما شاء للمحافظة على حياته ، بما فيها الهرب حين يحكم
عليه القاضي العادل بالموت . ومنها المساواة مع الغير ، ويدخل فيها ايضا الحريات
المرتبطة بالضمير مثل حرية الاعتقاد والدين ، وحرية التفكير والتعبير ، والحرية في
اختيار نمط المعيشة واساليب العيش . كما يدخل فيها حق الملكية واستثمار الجهد
الشخصي.
اما الصنف الثاني فيطلق عليه اسم الحقوق الدستورية او التعاقدية
، وهي حقوق يحددها القانون وترتبط بالوصف القانوني للفرد ، اي كونه مواطنا او عضوا
في مجتمع مدني . من هذه الزاوية فان الصنف الاول سابق للقانون وحاكم عليه ، اما
الصنف الثاني فهو تابع للقانون وخاضع له . وابرز ما يدخل ضمن هذا الصنف هو حق
المشاركة المتساوية في الشؤون العامة للجماعة ، بما فيها حق الوصول الى المناصب
العامة وانتخاب الغير لها . ومنها ايضا حق الاستفادة المتساوية من الموارد العامة
المادية وغير المادية الخ . ويعتبر اعلان حقوق الانسان والمواطن الذي اصدره برلمان الثورة الفرنسية (1791) من بين الوثائق المبكرة التي حددت العلاقة بين الحقوق
الطبيعية والدستورية التي يتمتع بها الفرد ، فقد اكد هذا الاعلان على تمايز
النوعين لكنه اعتبر الحقوق الطبيعية ارضية واساسا للحقوق الدستورية للمواطنين ،
واكد على الارتباط العضوي بين انسانية الفرد وتمتعه بالحقوق الطبيعية التي تشمل
"حقه في الحرية ، الملكية ، الامان ، ومقاومة الظلم" ، انها حق له حيثما
كان وفي اي ظرف عاش ، وليس للفرد التخلي عنها وليس لاحد حرمانه منها لان
"الناس يولدون احرارا متساوين"[3].
من العسير في حقيقة الامر وضع خط فاصل يحدد بدقة اين تبدأ واين
تنتهي الحقوق المنطوية في كل من الصنفين . ولعل اكثر صيغ التمييز بين الصنفين شهرة
هي تلك التي توصل اليها ايزايا برلين في كتابه المعروف "مفهومان للحرية"[4] ، والذي يصف فيه النوع
الاول كحريات سلبية والثاني كحريات ايجابية . طبقا لهذه الرؤية فان الحرية السلبية
تساوي عدم التدخل من جانب الغير ، اي "الحرية من.." ، او المساحة التي
يستطيع فيها شخص او جماعة ان يفعلوا ما يريدون دون تدخل من اي شخص اخر. بينما تساوي
الحرية في معناها الايجابي القدرة على فعل شيء يتطلب مباشرة او مداورة موافقة
الغير ، اي "الحرية في .." وينطوي هذا المعنى في جواب سؤال : من هو او
ما هي الجهة التي يمكن ان تقرر ماذا يفعل شخص ما او كيف يكون على هذا النحو وليس
سواه . اذا منعت من جانب الاخرين من فعل ما اشاء فاني الى ذلك القدر غير حر. واذا
كانت المساحة التي استطيع التصرف فيها بحرية محددة من قبل اخرين فانه يمكن وصفي
حينئذ بالمقهور coerced او يمكن ان اكون مستعبدا. القهر هو التدخل العمدي من جانب الافراد
الاخرين في المساحة التي اريد ان اعمل فيها . انت محروم من حريتك فقط حين تمنع من
الوصول الى غاياتك من جانب الغير. وليس مجرد العجز عن الوصول الى الغايات لاسباب
تتعلق بعدم كفاية الانسان نفسه مثلا او لظروف طبيعية . بطبيعة الحال لا يمكن تصور
هذه الحرية من دون حدود ، لان الحرية المطلقة تعني ايضا حرية الانسان في ان يخترق
مساحات الاخرين ، وربما تقود الى فوضى اجتماعية ، تضيع معها فائدة الحرية ،
ويستأثر بها الاقوياء على حساب الضعفاء[5]. المبرر الوحيد لهذا
التقييد هو العدالة ، فالبديهي ان الحرية حق متساو لجميع الافراد ، وتقتضي العدالة
ان يتمتع كل فرد بنفس القدر الذي يتمتع به غيره ، وهذا يؤدي بالضرورة الى تقييده.