حتى اواخر السبعينات كان الكتاب
الاسلاميون يشككون في مشروعية مشاركة الشعب في السياسة ، وكانوا يتساءلون عن امكانية
تحكيم (العامة) الجاهلة او التي لا تعرف الشريعة ، في امر الدولة التي تسيرها
الشريعة السماوية ، وكيف يستطيع (العامي) ان يختار الامام الصالح ، وكيف يمكن
السماح لهذا العامي بالتصويت (مع او ضد ) سياسة او قانون يفترض انه مطابق لاحكام
الله ؟ .
ويبدو لي ان اشكالية تدخل العامة في
السياسة ، لم تنشأ كنتيجة لافتراض (سماوية) النظام السياسي وسياساته ، وان كان هذا
الافتراض قد ساعد ـ لاحقا ـ على تبرير وجودها
، ان منشأ الاشكالية يرجع في تقديري الى غياب أي تصور ايجابي عن دور (الجمهور)
في التراث التاريخي الاسلامي ، التراث الذي هو بالدرجة الاولى نتيجة للتجربة
السياسية ، اكثر مما هو تجسيد للنظرية في تجريدها الاولي ، ولان الامر كذلك ، ولان
التراث الاسلامي يشكل الخلفية الثقافية لكل المسلمين المعاصرين ، فان الحركة
الاسلامية لم تنفرد في تغييب فكرة المشاركة الشعبية ، انه غياب مشهود عند كل
التيارات الاجتماعية العاملة في ميدان السياسة العربية .
لقد ركزت تعاليم الاسلام الاولى (كما
تظهر في الكتاب والسنة ) على انصاف الضعفاء (وهم عامة الناس يومئذ) وحق الجمهور ، ومسؤولية كل فرد منهم عن امته ،
وقيام الدين على اكتافهم ، ورجوع الامر العام اليهم ، يقول علي بن ابي طالب في
وصيته لاحد ولاته (انما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للاعداء العامة من الامة
، فليكن صغوك لهم وميلك معهم - نهج البلاغة 624)
الا ان الممارسة الفعلية للسياسة لا سيما منذ انتهاء عهد الخلافة الراشدة ،
ادت الى احياء القيم الاجتماعية القديمة التي كانت تفصل بين عامة الناس وخاصتهم ،
وتركز على التفاضل الطبيعي في المكانة والدور بين الخاصة والعامة ، بكلمة اخرى فان
التراتب الاجتماعي القديم قد اعاد بعث نفسه في اطار السياسة الاسلامية ، بينما
توارى الى حد بعيد منهج التفاضل الديني الذي يعتمد القيمة الذاتية للشخص ،
المتاتية عن علمه اوكفاءته او سبق خدمته ، بغض النظر عن انتمائه القبلي او العرقي
.
وقد جرى تنظير هذه الممارسة فاصبحت
معلما من معالم التفكير الاسلامي ، يقول د. حسن الترابي في هذا الصدد (كان الائمة
الاوائل يذكرون في كتبهم ان هذا الراي هو ما راينا عليه الجماعة ، فكان تعبيرا عن
الراي العام ، ثم اصبح الراي للشيوخ وحدهم ، وهذا يعني ان اصل الفقه قد تبدل
تماما) ولو نظرت في كتابات قدامى الفقهاء الذين تعرضوا للشأن السياسي ، لوجدتهم
ينظرون الى الدولة باعتبارها ملخصة في الوالي ، وهم مع دعوتهم الولاة الى الانصاف
والرحمة بعامة الناس ، اغفلوا الحديث عن موقع الجمهور في النظام السياسي ، بل ان
كثيرا منهم انكر حق العامة في التعبير عن خياراتهم اذا خالفت الخيارات الرسمية ،
خوفا من الفتنة ، او اختلال نظام الامة (انظر على سبيل المثال قاطعة اللجاج للكركي
، عوائد الايام للنراقي ، الاحكام السلطانية للماوردي ، السياسة الشرعية لابن
تيمية) .
وقد بقي اشكال التفاضل الطبيعي سائدا
حتى في وسط الحركات النهضوية المعاصرة ، وفي اوائل القرن العشرين ، كان الشيخ محمد
عبده يرى ان الخطوة الاولى لاخراج الامة الاسلامية من مأزقها ، هي اقامة مدرسة
لتخريج نخبة جديدة (اي خاصة بديلة) تقود المجتمعات الاسلامية ، ولا يزال كثير من
المثقفين يتحدث عن المستبد العادل باعتباره خيارا مثاليا ، كما نستطيع ملاحظة ان التاريخ المسجل عن
المحاولات الاصلاحية ، ومحاولات النهوض التحرري في العالم الاسلامي ، لا تتحدث عن
دور لعامة الناس خارج الدور الاساسي والمطلق للخاصة .
ويظهر انعكاس هذا التفكير حتى اواسط القرن
العشرين ، حينما تحدثت فصائل حركة التحرر العربية عن تحرير الاوطان واستنقاذ حقوق
الشعب ، ودعت الى الاطاحة بالطبقات المتنفذة (الخاصة) فانها توجهت في وقت لاحق الى
ممارسة لا تختلف كثيرا عن تلك التي ورثناها عن التجربة القديمة ، فالذي جرى بالفعل
هو تاسيس نخبة (خاصة) جديدة بدلا عن النخبة القديمة ، بينما لم يحصل الجمهور
(باعتباره عامة) على أي من الحقوق المقررة له ، او المزعوم السعي لاعادتها اليه .
العام ، تابعا للسياسة اليومية للدولة
متاثرا بما يقوله اهل الخاصة الجدد ، او
سلبيا قانعا بحياة هي الى قتل الوقت اقرب منها الى استثماره ، ان التجربة الناصرية
التي لعب الشعب خلالها دورا بارزا في الدفاع عن سياسات الدولة ، لم تؤد الى اعادة
تنظيم الحياة السياسية بحيث يصبح المجتمع سيدا للدولة ، وقبلها تجربة الثورة
الجزائرية ، ومثلهما جميع تجارب النهوض التي جرت في اكثر من قطر عربي او مسلم .
وتظهر هذه التجارب جميعا ان دور العامة
في الحياة السياسية ، ليس من الافكار التي تتمتع بامتداد تاريخي في ثقافة المسلمين
، ان وجود هذه الفكرة وممارستها الراهنة ، انما هي احد وجوه التاثير الثقافي للغرب
على العالم الاسلامي ، فنحن قد استوردناها كما استوردنا الكثير من عناصر التفكير ،
وعناوين الممارسة السياسية والاجتماعية التي نتداولها اليوم او ندعو اليها ،
ولانها كذلك فسوف تبقى مورد جدل بين اصحاب الفكر والسياسيين ، لفترة طويلة ، حتى
تعثر على اطار نظري يعيد تشكيلها ضمن النسيج الثقافي الاسلامي ، ولانها كذلك ايضا
، فان رفعها كشعار في ميدان السياسة لا يعني ـ بالضرورة ـ انها ستوضع قيد التطبيق
من جانب الدعاة اليها ، حينما يصبح بيدهم الامر والنهي والحول والطول ، انهم قد لا
يرون الجمهور ـ بالنظر الى الخلفية الثقافية التي سبق ذكرها ـ الا تابعا او مؤيدا
متأثرا ، لا سيدا للسياسة وصاحب قرار قادر على المحاسبة والنقد والترجيح ، كما هو
مفترض اذا اخذنا بعين الاعتبار جوهر فكرة
المشاركة السياسية .
لكي تتحقق المشاركة الشعبية في السياسة
فلا بد من مقدمات ، اهمها العلنية وحرية الوصول الى المعلومات ، وحرية التعبير ،
واعتبار الحزب السياسي ، سواء كان في المعارضة او السلطة ، مسؤولا امام جمهوره ، وتقرير ارجحية الشعب
كمجموع على الدولة او الحزب ، وهذا ما يتعارض مع التقليد المتفق عليه في جميع
المجتمعات المسلمة ، والقاضي باعتبار السياسة كنزا للاسرار ، واعتبار التعبير الحر
عن الراي ذريعة للفتنة .
وبالنسبة للحركة الاسلامية الحديثة ،
فقد كان يبدو ان الجميع متفق ـ تصريحا او تلويحا ـ على الافتراضات السابقة
ونتائجها ، ما يتعلق منها خصوصا بعدم امكانية وضع الجمهور العام ، في موضع الحكم
على الاشخاص المرشحين للولاية ، والمناهج المقترحة لقيادة الحياة السياسية ، لكن
الامر لم يكن موضع جدل ، حتى منتصف السبعينات على الاقل ، بالنظر الى عدم وجود
مصاديق للموضوع ، اما في السنوات اللاحقة ، ولا سيما منذ اوائل الثمانينات ، فقد
اصبح الامر موضوعا لجدل حقيقي ، بعد ان ظهر لكثير من الاسلاميين ان بامكانهم
الاعتماد على الجمهور (العامي) في رفع كلمة الاسلام ، واقامة دولته المنشودة ،
وظهر ان تعبئة الجمهور هي الخيار الوحيد ـ في معظم الاحوال ـ المتاح لهؤلاء
السياسيين الطامحين الى الفوز في ميدان السياسة ، ويبدو ان الجدل قد حسم عند
الجميع لصالح فكرة الاعتماد على القوة الشعبية ، كبديل عن القوى الاخرى التي
احتكرها المنافسون ، مثل قوة الاعلام والتنظيم فضلا عن القوى التي يتيحها امتلاك
الدولة .
لكن الامر الذي لم يحسم هو المكانة
الحقيقية لهذا الجمهور في المعادلة السياسية ، فهل سيقتصر دوره على تقديم التضحيات
من اجل انتصار الحزب الذي يرفع الشعار الديني ، ام سيكون هذا الانتصار اشارة
الانطلاق نحو المرحلة الاهم والاكثر جذرية ، في السباق من اجل تجديد الحياة
السياسية ، المرحلة التي عنوانها استعادة المجتمع لمكانته الطبيعية كسيد للدولة ،
بعد ان بقي طوال قرون تابعا لها في احسن الاحوال ، واسيرا في معظم الاحوال .
وفي ايامنا هذه ، تثار قضية المشاركة
الشعبية في وسط الحركة الاسلامية ، تحت عنوان الشورى والديمقراطية ، لقد اصبح من
المعتاد مشاهدة فريق من الاسلاميين المعاصرين ،
من اصحاب الاتجاه التجديدي خصوصا ، يتحدثون عن الديمقراطية باعتبارها الصيغة
العصرية لفكرة الشورى التي وردت تكرارا في المصادر الاسلامية ، والتي ينظر اليها
كأساس للعلاقة بين الحاكمين والمحكومين في
النظام السياسي الاسلامي .
وعلى الطرف الاخر تجد اسلاميين يتحدثون
عن الديمقراطية باعتبارها ضربا من الكفر ، بحجة انها فكرة مستوردة ، وان الدعوة
اليها تنطوي على تهوين من قدرة الاسلام على ابداع ادوات عمله الخاصة ، اذ
ان الاعتقاد ـ يقول بعض اصحاب هذا الراي ـ بان ما في غير الاسلام من الافكار ، هو افضل
مما في الاسلام او ان في الاخذ به غنى عما في الاسلام ، هو جحود لعلو التشريع الاسلامي
ومطلقية الحق فيه .
لقد وصلنا بالنقاش حول العنوان الى حد
التكفير او التبديع ، وما سياتي بعد تجاوز
العناوين الى
الموضوع ذاته ، سيكون بلا شك ادهى وامر . واذا اردنا الاخذ بصيغة الشورى كما وردت
في الادبيات الاسلامية القديمة ، فلا ريب ان الديمقراطية بصورتها الراهنة شيء آخر
مختلف ، لا علاقة له بالشورى التي عرفناها
في تاريخنا ، انها بكلمة اخرى نظام قائم بذاته ، كما ان الشورى نظام او جزء من
نظام قائم بذاته ، واذا كنا سنقول ان الديمقراطية هي
الصيغة المعاصرة للشورى الاسلامية ، فلنقل من باب اولى ان
الصيغ الموروثة من الشورى
القديمة ، ليست صالحة للتطبيق في هذا العصر ، وان الاخذ بالنظام الديمقراطي ، ياتي
من باب حق المسلمين في الاخذ من اسباب الحياة بما يرونه صلاحا لحالهم ، وهذا حق
ثابت لهم في الشريعة ، فلا صلاح للاسلام اذا لم يصلح حال ابنائه ، ولا صلاح لحال
المسلمين مالم ينظروا في ادوائهم ويتفقوا على سبيل العلاج . اردنا القول بان
المماهاة بين الشورى والديمقراطية لا يخلو من الافتعال والتكلف ، وانه اذا ثبت كون
الديمقراطية صحيحة كنظام سياسي ، فليس لانها صورة عن نظام الشورى القديم ، بل
لاسباب اخرى .
هذه ناحية اما الناحية الثانية فانه من
الصعب البرهنة على ان الصيغة القديمة لنظام الشورى ، كما طبقت في
عصور السلف المتقدمين ، هي النظام الذي اراده الاسلام لسياسة البلاد ، في كل
الازمنة والامكنة ، وعند التطبيق قد لا تختلف هذه الصيغة النظرية ، عن الصورة التي
يمارسها الحكام الجبريون ، لا سيما اهل الاستبداد منهم في سياسة الدولة ، لقد كانت
صورة الشورى التي طبقت في تلك العصور ـ
على ما يؤخذ عليها ـ الحد الممكن مع ظروف الانقطاع
الجغرافي بين
العاصمة والاطراف ، وعدم القدرة على تدوير المعلومات بالسرعة
المناسبة بين
المركز وخارجه ، بل بين عدد كبير من الناس في المركز نفسه ، ان المعلومات
هي القاعدة الاساس في صناعة القرار والمشاركة فيه ، ضمن دائرة اوسع نطاقا
من العدد المحدود من الخاصة القريبين او المقربين من دائرة القرار ، الذين يمكن
تشبيههم اليوم بالنخبة السياسية ، ان ظرف الانقطاع هذا لم يعد له وجود في عالم
اليوم ، مع تحول الكرة الارضية الى قرية صغيرة ، تنتشر فيها المعلومات بسرعة كافية لتمكين
ابعد الناس عن المركز ، من المشاركة الفاعلة في صناعة الموقف من قضية معينة
، كما لو كان حاضرا في مكان اتخاذ القرار .
لقد اوردنا هذه الاشكالات لكشف حقيقة
ان هناك حاجة الى تحديد الموقف الاسلامي من
القضايا
الراهنة ، لا سيما القضية الاكبر والاخطر وهي قضية السلطة ، ان العرض السابق
يكشف ايضا عن الحاجة لتفكير جديد غير متقيد بالعناوين ، وغير خاضع لجبر التاريخ
.
ان الاسماء كما هو متفق عليه جسور الى
المعاني ، فلايصح اتخاذها بديلا عن مضامينها ،
ان تقرير
النموذج الاسلامي في السياسة ، هو اليوم اشد ضرورة من أي وقت سابق ، بالنظر الى ان
العالم الاسلامي يتعرض مثل غيره من العوالم لتيارات التجديد في السياسة ، وهي
في المجمل متجهة نحو اقرار النموذج الغربي الذي ينطوي تحت عنوان الديمقراطية ،
واظن ان تحديد بديلنا ، اجدى من اثبات شوروية الديمقراطية او ضرورة الشورى ، او المحافظة
على الاسم حتى ، قد نذهب بعيدا في الجدل حول مضامين التاريخ ، بما يجعلنا نغفل
عن متطلبات الحاضر ، فلا نصحو الا وقد اصبحنا واسلامنا خارج التاريخ .
مقالات ذات
علاقة