بالنسبة للعديد من الناس ولاسيما
الفاعليات السياسية الوطنية في بلداننا ، فان
السؤال الذي
لا يزال مطروحا وبالحاح ، هو حقيقة ايمان الحركات الاسلامية بالتداول السلمي
للسلطة مع القوى الاخرى المنافسة ، في
اطار نظام ديمقراطي مبني على القبول
بالتعددية السياسية والثقافية ، فهل يقبل الاسلاميون بالالتزام المستمر بنظام كهذا
، ام ان القبول بالديمقراطية وشعاراتها مجرد طريق يسلكونه
لنيل الغلبة
والسلطان ، ثم هل تحقق الشورى التي يدعو لها بعضهم ، الحد الادنى من متطلبات
وفضائل الديمقراطية ، ونعني بها حرية الراي والتعبير والتعددية في اطار
المجتمع الواحد ؟ بل هل ثمة ضمان لان يحفظ الاسلاميون اذا امسكوا بزمام الامور ،
الحد الادنى من الفرص التي تحققت لعامة الناس في ظل النخب القائمة على قواعد فكرية
اخرى غير اسلامية ، والتي سبق ان جاءت الى الحكم عن طريق الوراثة او الانقلاب العسكري
، بل حتى تلك التي تعتبر وريثة للعهد الاستعماري ؟ .
تتردد هذه الاسئلة ،
كصيغة اتهام
من جانب المخالفين للمشروع السياسي الاسلامي ، بهدف التشكيك في صدقية
دعاوى الاسلاميين ، باستعدادهم للدخول في حلبة المنافسة السلمية على الحكم جنبا
الى جنب مع الاخرين . لكن بعض الاسلاميين المستقلين قد انضموا في السنوات الاخيرة
الى قائمة المتسائلين ، فتجربة الحكم الاسلامي في ايران والسودان ، وتجربة العمل
السياسي للاسلاميين الذين شاركوا في السلطة في بلدان اخرى ـ اليمن مثلا ـ وتجربة
الاسلاميين الذين حصلوا على قدر من القوة المادية ـ الجزائر وافغانستان مثلا ـ هذه
التجارب كلها تثير القلق ، ليس في نفوس المعارضين للتيار الاسلامي ، بل في نفوس
بعض الاسلاميين ، الذين يخشون ان يكون قبض زملائهم على ازمة الامور ، مدخلا
لاستشراء القمع وانتهاك حريات الافراد تحت هذا العنوان او ذاك ، ومما يزيد القلق
ان ممارسة القمع باسم الاسلام لاتنتهي نتائجها عند حدود الاضرار المادية ، بل
تتواصل الى تصفية الشخصية المعنوية للضحايا ، باعتبارهم معاندين للاسلام او مرتدين
، وما سوى هذا من الاوصاف .
وكان هذا الجدل زادا للكثير من الكتاب
والمحللين ، من مخالفي المشروع الاسلامي ، حتى
حينما دخل
الاسلاميون الجزائريون حلبة المنافسة الانتخابية ، وحينما اجهض العسكر الديمقراطية
الوليدة ، فقد كان المبرر الوحيد الذي دافعوا به عن انقلابهم هو عدم صدقية
دعاوى جبهة الانقاذ ، في استعدادها لاحترام اللعبة الديمقراطية ، وقد وجدوا في
خطابات علي بلحاج ، الرجل الثاني في الجبهة الذي وعد بالغاء الدستور وتطهير الحياة
السياسية ممن اسماهم ببقايا الاستعمار الفرنسي اذا فازت الجبهة ، خير مبرر لقرارهم
بالغاء الديمقراطية الوليدة . وتجد مثل هذا المبرر يتكرر في كل دولة يتمتع فيها
الاسلام السياسي بوجود حركي فاعل .
على ان الشك في جدية ايمان الاسلاميين
بالديمقراطية ، لا ينبغي ان يعالج من منظور واحد
فقط هو تشكيك
المعادين ، الجوهري في تقديرنا هو الاجابة على السؤال ، ان التنظير الفكري
، كما الممارسة السياسية للاسلاميين لا تعطي دليلا مؤكدا عن توافقهم على ممارسة
السلطة بالصورة التي يتطلبها النظام الديمقراطي ، وفي الوقت ذاته فان التنظير
المضاد او بعض الممارسات ، لا تستطيع الوقوف دليلا على نفى ايمانهم بالديمقراطية
سبيلا للحياة والعمل السياسي ، فما دمنا نتحدث عن جماعات اسلامية في
بلدان متعددة ، فاننا نتحدث في الحقيقة عن ظروف مختلفة واجتهادات مختلفة ، وبصورة
خاصة عن خلفيات اجتماعية مختلفة ، ان الممارسة السياسية اكثر تأثرا بمعطيات
المجتمع وثقافته الخاصة منها بدلالة النظرية ، ان
الاشتراك في
تبني الاسلام كقاعدة للعمل السياسي من جانب عدد من الجماعات ، ليس دليلا على
وحدة المشروع او تطابقه ، اننا في الحقيقة بصدد مشروعات مختلفة تقوم على قاعدة
تتحمل التباين تبعا للاختلاف في الاجتهاد والاختلاف في المعطيات الموضوعية
.
وعليه فان من الصعب جدا قبول الاحكام
المطلقة والتعميمية حول الايمان بالديمقراطية او نفيها ،
مما يطلقه
مؤيدو الفكرة او معارضوها ، فليس من المقبول ـ منطقيا ـ وضع قاعدة نظرية عامة
للحكم على ايديولوجيا ينتمي اليها الملايين من الناس ، اعتمادا على قراءة
فكرة او متابعة تجربة حزب محدد او عدد من
الاحزاب ، لان هذا المنهج ـ لو قبلنا به ـ قابل لان ينسحب على جميع التيارات
الاخرى ، ستجد ماركسيين يمارسون الديمقراطية
ويتبنونها
عقيدة سياسية ، كما فعلت الجبهة الساندينية التي وصلت الى الحكم في نيكاراغوا
عن طريق الثورة الشعبية المسلحة ، ثم تخلت عن السلطة بعد ان فشلت في الانتخابات
العامة ، فأقامت بايثارها مصلحة البلاد واحترامها للقانون نموذجا مشرفا ، يحسب لها
اليوم وفي المستقبل ، بينما لا يزال اشقاؤها الماركسيون في كوبا المجاورة يحكمون
شعبهم منذ اربعين عاما بالحديد والنار ، وتجد الى صف هذا وذاك موالين للغرب
الليبرالي يطيحون بالديمقراطيات في عديد من دول
العالم ،
ويحصلون على دعم الدول الغربية التي تنصب نفسها اليوم مثالا للديمقراطية ومدافعا
عنها ، كما هو الحال في الجزائر وتونس ، وتجد في نفس السياق اسلاميين على هذا الخط
والخط المقابل ، ولكل نموذج اشباه في اكثر من بلد على امتداد المعمورة ، فهل يصح
الاستدلال باي من هذا التجارب ، او المبررات النظرية التي تطرحها الجماعات
السياسية في كل قطر ، لوضع احكام مطلقة عن ديمقراطية الماركسية او دكتاتورية
الليبرالية ، او العكس .
الذي اردنا قوله هو ان الاسلام السياسي
كتيار واسع في العالم الاسلامي ، هو مجرد تيار في الحياة الاجتماعية ، يتاثر تقويمه
لنمط العمل السياسي الذي يراه مناسبا لكل
بلد بظروف ذلك البلد ، وبالمؤثرات الخاصة التي تشكل التكوين الثقافي والاجتماعي
لاصحابه ، ومثل هذه المؤثرات تكون في العادة مرتبطة بالتاريخ الاجتماعي او السياسي
لبلد معين ، بكلمة اخرى فانه يمكن التأكد من ايمان جماعة معينة بنمط
معين في العمل
السياسي ، انطلاقا من تصورنا لعنصرين اساسيين ، يمكن اعتبارهما ابرز اركان الحياة
السياسية في كل بلد :
الاول : التجربة التاريخية لهذا البلد ، ما
يتعلق منها بالسياسة خصوصا ، ثم موقع الجماعة التي تتعرض للتقييم من هذه التجربة ،
فثمة بلدان لا يتصور قيام الحكم الدكتاتوري فيها حتى لو حصل فريق على القوة
المادية التي تمكنه من التسلط ، كما رأينا في التجربة اللبنانية المعاصرة ، وثمة
بلدان على الخط المعاكس ، لا يتصور قيام نظام ديمقراطي مفتوح فيها ، لان تجربتها
محدودة في اطار نظام التغلب او الاستبداد الفردي ، او ان ثقافتها لا تحتمل قيام
مؤسسات النظام الديمقراطي بدورها الكامل ، فحتى لو اعلنت الديمقراطية كنظام فان
مؤسسات النظام التقليدي هي التي ستبقى فاعلة وذات تاثير ، ان نتاج التجربة
التاريخية اكثر اهمية وتاثيرا من المتبنيات النظرية غير المؤسسة تاريخيا ، وهذا
ينعكس على كل الجماعات السياسية التي تعمل في وسط البلد المعني ، بدون اي فروق حقيقية بين الاسلامي واليساري
والليبرالي .
الثاني : العلاقة السابقة بين المجتمع والدولة ،
فكلما كان المجتمع مستغنيا عن الدولة ، قادرا على حل مشكلاته بنفسه ، كانت الديمقراطية
اقرب منالا واقوى في الصمود امام المطامح الفردية لمن يملكون القوة والنفوذ ، اما
اذا كان المجتمع معتمدا بكله على الدولة ، فان التوازن سيكون راجحا لمصلحة
القابضين على ازمتها ، وسيكون في وسعهم الانقلاب على الشعب في اي وقت شاؤوا ، يقول
علي بن ابي طالب (احسن الى من شئت تكن اميره ، واحتج الى من شئت تكن اسيره ،
واستغن عمن شئت تكن نظيره) وهنا ايضا لاتجد فروقا حقيقية بين تيار اجتماعي وآخر ،
او بين اصحاب نظرية واخرى ، فالانسان ـ حين يملك القوة المطلقة ـ هو الانسان ، ومن
ملك استأثر .
واذا نظرت الى اي بلد عربي فستجد خريطة
القوى السياسية متشابهة الى حد كبير ،
ففي جبهة
الديمقراطيين ستجد تمثيلا لجميع التيارات الفكرية ، وستجد نظائرها ايضا في الجبهة
المعادية للديمقراطية .
لكن تجربة التاريخ القريب تعطي ادلة قوية على ان الاسلاميين
الذين نادرا ما اتيحت لهم فرصة السلطة منفردين او مشاركين ، لم يكونوا
اسوأ من غيرهم في ممارسة السلطة ، واذا
اضفنا الى هذا
الامر جانب الطهارة السياسية فان نظافة الكف والتعفف عن
استغلال
النفوذ في الاثراء وسرقة الأموال العامة ، كان اظهر في وسط الاسلاميين ، بينما توجد
فضائح بلا حدود في الجماعات السياسية الاخرى ، واذا نظرنا في محاولات الاسلاميين
الوصول الى السلطة فان تجاربهم لم تكن شذوذا عن الاعراف المتبعة في العالم الثالث
، فقد استخدموا الجيش مثل غيرهم ، واستخدموا صناديق الاقتراع كما فعل منافسوهم ،
ولعلهم تميزوا عن اولئك المنافسين بصدقية تمثيلهم للطبقات الاجتماعية الجديدة
، لا سيما في المدن الرئيسية التي لا يتاثر سكانها بالعلاقات الطائفية او العائلية
عند اختيار ممثليهم السياسيين ، ان هذه الطبقات هي الاشد رغبة في التغيير وهي
الاكثر تضررا من بقاء النظام السياسي التقليدي ، ولذلك فان القوة السياسية التي تمثلها
هي الاكثر التزاما بقضايا المستقبل .
وخلاصة ما اردنا الوصول اليه هو ان
الممارسة السياسية لا تعبر عن الايديولوجيا ، الا بقدر ضئيل يصعب الاستدلال به في
الحكم على هذه الايديولوجيا ، وبالنسبة للاسلاميين فان الحكم عليهم بالعجز عن
الانخراط في الحياة السياسية بصورة سلمية وديمقراطية ، قابل لان ينسحب على كل فريق
آخر اذا كان الاستدلال قائما على تجربة هنا وخطاب هناك ، او شعار يرفعه زيد وبيان
يوقعه عمرو ، ففي كل تيار سياسي وفي كل مدرسة فكرية ثمة انواع من الناس والتوجهات
تنتمي لبيئتها وتتاثر في سلوكها السياسي بمعطياتها ، ويصعب في الحقيقة النظر الى
الحركة الاسلامية كفريق واحد مع الاختلاف المشهود في الاجتهادات والمصادر الثقافية
ومعطيات البيئة الاجتماعية لكل منها .
الراي العام 10 نوفمبر 1996
مقالات
ذات علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق