08/12/1996

الحركة الاسلامية ، الغرب والسياسة (3 من 3 )


بين الدعاية والتحليل

يكشف التأمل في موقف الاسلاميين من الغرب ، والموقف الغربي من الحركة الاسلامية ، ان ثمة خلط بين ما هو اعلامي يستهدف استقطاب الساحة السياسية ، وما هو تحليلي يستهدف تكوين تصور دقيق للعمل ، وقد ادى هذا الخلط في معظم الاحيان الى سيطرة الاعلامي على التحليلي ، حتى اصبحت الحاجات الدعائية بوصلة للسياسة اليومية وليس العكس كما هو المفترض .
يستهدف الاعلام العدواني تعزيز مشروعية السياسات التي تختارها النخبة السياسية ، وبالطبع تعزيز نفوذها ، لكن هذه النخبة تصبح فيما بعد اسيرة للتوجه الذي صنعه الاعلام ، وتؤكد دراسة لكارلا كونينجهام ود. حسن جوهر نشرتها مجلة السياسة الدولية ، على ان التفكير السياسي الامريكي لايزال ـ بعد مرور ثلاثة عقود ـ محكوما بنظرية الدومينو ، التي جرى تطويرها خلال الحرب الفيتنامية ، لتبرير التدخل العسكري الاميركي في شرق وجنوب شرق اسيا منتصف الستينات ، ووجد الباحثان ان الموقف الامريكي من الاسلام السياسي المعاصر ، متأثر الى حد عميق بهذه النظرية التي لم يثبت صحتها في اي وقت في الماضي ، وحين تقرأ تصريحات الساسة الغربيين ، او تقرأ تحليلات الصحافة الغربية عن الحركة الاسلامية ، ستجد انها جميعا تنطلق من فهم واحد ، فحواه ان سيطرة الاسلاميين على بلد يعني ان البلد المجاور سيكون المرشح التالي ، وان هذه السيطرة تنطوي ـ بالضرورة ـ على تهديد فعلي للمصالح والسياسات الغربية .
في هذا النطاق يمكن الاشارة ايضا الى تحليلات مماثلة لدراسة صمويل هنتينجتون الشهيرة عن صراع الحضارات ، التي تدعو الى تسخين جبهة الصراع مع العالم الاسلامي ، لتعويض الصراع الذي خبا مع انهيار المعسكر الاشتراكي ، فاستمرار الغرب في تصاعده يحتاج الى عدو حقيقي او مصطنع ، يستعمل في اثارة الحماسة بين الجمهور واهل السياسة ، وعلى الصعيد الاعلامي المباشر ، نشير الى افلام من نوع (الرجل الذي رأى المستقبل) الذي يستند الى تنبؤات لكاهن قديم ، وينتهي برسالة فحواها ان العالم موعود بحرب شاملة بين الشرق والغرب ، تبدأ حين يقرر زعيم اسلامي من سلالة النبي محمد (ص) شن هجوم صاروخي على كبريات المدن الاميريكية ، مع انه ينتهي كالعادة بانتصار البطل الامريكي .

على صعيد المسلمين يجري باستمرار تطوير تحليلات وامثلة وشعارات من نفس النوع ، تؤكد على عدوانية الغرب وضرورة الاستعداد لحربه ، وقد استعملت هذه الوسائل بنجاح في تعزيز السلطة في اكثر من بلد ، كما استعملت كوسيلة لشحذ همة المواطنين وتعزيز الروح الاستقلالية في بلدان اخرى ، وتركز الجماعات السياسية في العالم الاسلامي على الدور العدواني للغرب ومخططاته الخطرة ، لتعزيز الثقة بالايديولوجيا التي تتبناها ، او لتوجيه اللوم الى الحكومات المحلية التي تعارضها ، باعتبارها حليفة للغرب .

على ان هذا النوع من التوجيه ساعد في كثير من الحالات على حجب الحقائق عن الجمهور ، واثر على قناعات السياسيين ، ان كثيرا من السياسات الغربية تجاه الاسلام وتجاه الحركة الاسلامية تنم عن سوء تقدير للحقائق الميدانية ، كما ان كثيرا من سياسات الاسلاميين تجاه الغرب تدل على الارتجال في تحديد المصالح . واعتقد ان الولايات المتحدة واوربا الغربية فوتت بعض مصالحها ، عندما تجاهلت او اساءت تقدير التحولات التي حدثت في العالم الاسلامي ، والتي يمثل ظهور الحركة الاسلامية الحديثة ابرز تجلياتها ، ومن المؤكد انه سياتي اليوم الذي تتعامل فيه مع هذه الحقيقة ، التي كان ينبغي لها ان تتفهمها قبل فوات الاوان .

ومن ناحية الحركة الاسلامية فان اعترافها بحقائق الساحة ، شرط مهم لنجاح مشروعها السياسي ، ان اتجاهات التغير في ميزان القوى هو بوصلة السياسة ، ولا شك ان النفوذ الغربي يشكل ثقلا بارزا واساسيا في الكفة الاخرى من الميزان ، ولذلك فليس من الحكمة تجاهله او استبدال المعالجة المنطقية له ، بشعارات التحذير منه .

صراع ارادات

يراهن بعض الاسلاميين على تعديل قهري في ميزان القوى على الساحات القطرية ، بتعبئة الجمهور خلف الحركة وسياساتها ، مما يمكنها من حسم الامور بغض النظر عن موقف الغرب واراداته ، وقد حقق السيد الخميني نجاحا باهرا في هذا المجال ، واثبت انه بالامكان دائما تجاوز ارادة الغرب ، حتى في بلد مثل ايران التي كانت عمودا راسخا للنفوذ الغربي في غرب آسيا ، لكن السؤال الذي يظل قائما ، هو مقدار الثمن الذي ينبغي دفعه للبدء بمشروع كهذا ، وثمن المحافظة عليه ، ويتضح من متابعة السياسة الايرانية ان الثمن كان غاليا جدا ، وهو ما دعا القيادة الايرانية الى اعادة النظر في بعض سياساتها المصنفة ضمن هذا المشروع ، ومنذ عشر سنوات نلحظ توجها ايرانيا نشطا لفتح حوار مع الغرب وحلفائه للحد من خسائر الانقطاع السابق .

من جهة ثانية فان التركيز على المؤامرة الغربية ، قد يكون تبريرا للعجز او الانسحاب من ساحة المواجهة الواقعية ، ولهذا السبب فقد ادى الى تثبيط العزائم وهدر الطاقات ، التي كان يمكن ان تكون مفيدة لو وضعت في الاتجاه الصحيح ، يقول محفوظ النحناح في هذا الصدد (اعتدنا على اصطناع شماعات نعلق عليها مشاكلنا ، ولم نجد في اعراف المسلمين حاليا من يقول ان العيب فينا وليس في غيرنا ، الا ما شذ وندر ، نحن نقول دائما بالتفسير التآمري على امتنا . . . لكن ليس لدينا من الجرأة ما نفجر به القدرات الذهنية التي لدينا .. ).

 وعلى اي حال فان معظم الحركيين يعتقدون الان ، بان في وسع الاسلام ان يفرض ذاته ، بغض النظر عن وجود مؤامرة غربية في الواقع او عدم وجودها ، وهم ـ مؤيدو نظرية المؤامرة ومعارضوها ـ يعملون بناء على هذه الرؤية .  على ان التطور البارز هو تاكيد بعض الكبار على ضرورة الحوار مع الغرب ، مثل الشيخ القرضاوي الذي يقول (لاغنى عن الحوار مع الغرب ، فهو لايزال مؤثرا في بلادنا ،  في صنع القرار فيها ، وعلى عقول حكامها واراداتهم . . . الحوار مع الغرب فريضة وضرورة لنا حتى يفهم ماذا نريد لانفسنا وللناس ) ويؤكد السيد محمد حسين فضل الله على هذا التوجه ، حتى لو توقف الامر على تقديم بعض التنازلات من جانب الحركة الاسلامية (الحركة الباحثة عن امكانات الوصول الى اهدافها السياسية والفكرية تحتاج الى الآفاق المنفتحة ، التي تطل بها على ساحات الآخرين  . . . ان الانغلاق يعني عدم التواصل مع الآخرين الا من خلال خط المواجهة ، التي قد تربح جولة او اكثر لكنها لن تربح حربا على مستوى قضايا الروح والحياة ) .

تشير النوايا المعلنة اضافة الى التجربة الفعلية الى ان الغرب ـ الولايات المتحدة خاصة ـ عازم ، وقادر ايضا ، على اعاقة وصول الاسلاميين الى السلطة في البلدان التي ينشطون فيها ، لكن هذه القدرة ليست مطلقة ، وتأثيراتها في بعض الدول لا تزيد عن الازعاج والتضييق ، ولا تصل الى درجة تقرير السماح او المنع ، كما هو المثال القائم في السودان منذ 1989 وايران منذ 1979  ، ومثال لبنان واليمن والكويت ، وفي اعتقادنا ان وصول الاسلاميين الى السلطة في اي بلد ، مرهون بقدرتهم على فرض انفسهم ، من خلال تعبئة الشارع وراء مشروعهم ، والمؤكد ان الدور الغربي سيعتمد على ادوات محلية لاعاقة طموح الاسلاميين ، وهذا يأخذنا الى موضوعين آخرين ، هما موقع الاسلاميين وحصتهم من ميزان القوى المحلي ، وعلاقاتهم مع الفاعليات والقوى السياسية في البلد الذي ينشطون على ارضه ، فهذه القوى قلقة من طموحات الاسلاميين بمثل ما الغرب قلق ، وفي غياب التفاهم والحوار الجاد فان ثمن الطموح سيكون غاليا ، وقد يكون سببا لتحميل البلاد والعباد اعباء اضافية ، اذا قرر الغرب فرض عقوبات كما حصل الان في السودان ، ولهذا فلا محيص من التوصل الى صيغة للتفاهم تقوم على الاعتراف المتقابل بحد ادنى من الحقوق والمصالح ، بغض النظر عن كون هذه المصالح مشروعة او غير مشروعة ، عندما ينظر اليها مجردة عن شروطها الموضوعية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...