بين الدعاية والتحليل
يكشف التأمل في موقف الاسلاميين من
الغرب ، والموقف الغربي من الحركة الاسلامية ، ان ثمة خلط بين ما هو اعلامي يستهدف
استقطاب الساحة السياسية ، وما هو تحليلي يستهدف تكوين تصور دقيق للعمل ، وقد ادى
هذا الخلط في معظم الاحيان الى سيطرة الاعلامي على التحليلي ، حتى اصبحت الحاجات
الدعائية بوصلة للسياسة اليومية وليس العكس كما هو المفترض .
يستهدف الاعلام العدواني تعزيز مشروعية
السياسات التي تختارها النخبة السياسية ، وبالطبع تعزيز نفوذها ، لكن هذه النخبة
تصبح فيما بعد اسيرة للتوجه الذي صنعه الاعلام ، وتؤكد دراسة لكارلا كونينجهام ود.
حسن جوهر نشرتها مجلة السياسة الدولية ، على ان التفكير السياسي الامريكي لايزال ـ
بعد مرور ثلاثة عقود ـ محكوما بنظرية الدومينو ، التي جرى تطويرها خلال الحرب
الفيتنامية ، لتبرير التدخل العسكري الاميركي في شرق وجنوب شرق اسيا منتصف
الستينات ، ووجد الباحثان ان الموقف الامريكي من الاسلام السياسي المعاصر ، متأثر الى حد عميق بهذه النظرية التي لم يثبت صحتها في اي وقت في الماضي ، وحين تقرأ
تصريحات الساسة الغربيين ، او تقرأ تحليلات الصحافة الغربية عن الحركة الاسلامية ،
ستجد انها جميعا تنطلق من فهم واحد ، فحواه ان سيطرة الاسلاميين على بلد يعني ان
البلد المجاور سيكون المرشح التالي ، وان هذه السيطرة تنطوي ـ بالضرورة ـ على
تهديد فعلي للمصالح والسياسات الغربية .
في هذا النطاق يمكن الاشارة ايضا الى
تحليلات مماثلة لدراسة صمويل هنتينجتون الشهيرة عن صراع الحضارات ، التي تدعو الى
تسخين جبهة الصراع مع العالم الاسلامي ، لتعويض الصراع الذي خبا مع انهيار المعسكر
الاشتراكي ، فاستمرار الغرب في تصاعده يحتاج الى عدو حقيقي او مصطنع ، يستعمل في
اثارة الحماسة بين الجمهور واهل السياسة ، وعلى الصعيد الاعلامي المباشر ، نشير
الى افلام من نوع (الرجل الذي رأى المستقبل) الذي يستند الى تنبؤات لكاهن قديم ،
وينتهي برسالة فحواها ان العالم موعود بحرب شاملة بين الشرق والغرب ، تبدأ حين
يقرر زعيم اسلامي من سلالة النبي محمد (ص) شن هجوم صاروخي على كبريات المدن
الاميريكية ، مع انه ينتهي كالعادة بانتصار البطل الامريكي .
على صعيد المسلمين يجري باستمرار تطوير
تحليلات وامثلة وشعارات من نفس النوع ، تؤكد على عدوانية الغرب وضرورة الاستعداد
لحربه ، وقد استعملت هذه الوسائل بنجاح في تعزيز السلطة في اكثر من بلد ، كما
استعملت كوسيلة لشحذ همة المواطنين وتعزيز الروح الاستقلالية في بلدان اخرى ،
وتركز الجماعات السياسية في العالم الاسلامي على الدور العدواني للغرب ومخططاته
الخطرة ، لتعزيز الثقة بالايديولوجيا التي تتبناها ، او لتوجيه اللوم الى الحكومات
المحلية التي تعارضها ، باعتبارها حليفة للغرب .
على ان هذا النوع من التوجيه ساعد في
كثير من الحالات على حجب الحقائق عن الجمهور ، واثر على قناعات السياسيين ، ان
كثيرا من السياسات الغربية تجاه الاسلام وتجاه الحركة الاسلامية تنم عن سوء تقدير
للحقائق الميدانية ، كما ان كثيرا من سياسات الاسلاميين تجاه الغرب تدل على
الارتجال في تحديد المصالح . واعتقد ان الولايات المتحدة واوربا الغربية فوتت بعض
مصالحها ، عندما تجاهلت او اساءت تقدير التحولات التي حدثت في العالم الاسلامي ،
والتي يمثل ظهور الحركة الاسلامية الحديثة ابرز تجلياتها ، ومن المؤكد انه سياتي
اليوم الذي تتعامل فيه مع هذه الحقيقة ، التي كان ينبغي لها ان تتفهمها قبل فوات
الاوان .
ومن ناحية الحركة الاسلامية فان
اعترافها بحقائق الساحة ، شرط مهم لنجاح مشروعها السياسي ، ان اتجاهات التغير في
ميزان القوى هو بوصلة السياسة ، ولا شك ان النفوذ الغربي يشكل ثقلا بارزا واساسيا
في الكفة الاخرى من الميزان ، ولذلك فليس من الحكمة تجاهله او استبدال المعالجة
المنطقية له ، بشعارات التحذير منه .
صراع
ارادات
يراهن بعض الاسلاميين على تعديل قهري
في ميزان القوى على الساحات القطرية ، بتعبئة الجمهور خلف الحركة وسياساتها ، مما
يمكنها من حسم الامور بغض النظر عن موقف الغرب واراداته ، وقد حقق السيد الخميني
نجاحا باهرا في هذا المجال ، واثبت انه بالامكان دائما تجاوز ارادة الغرب ، حتى في
بلد مثل ايران التي كانت عمودا راسخا للنفوذ الغربي في غرب آسيا ، لكن السؤال الذي
يظل قائما ، هو مقدار الثمن الذي ينبغي دفعه للبدء بمشروع كهذا ، وثمن المحافظة
عليه ، ويتضح من متابعة السياسة الايرانية ان الثمن كان غاليا جدا ، وهو ما دعا
القيادة الايرانية الى اعادة النظر في بعض سياساتها المصنفة ضمن هذا المشروع ،
ومنذ عشر سنوات نلحظ توجها ايرانيا نشطا لفتح حوار مع الغرب وحلفائه للحد من خسائر
الانقطاع السابق .
من جهة ثانية فان التركيز على المؤامرة
الغربية ، قد يكون تبريرا للعجز او الانسحاب من ساحة المواجهة الواقعية ، ولهذا
السبب فقد ادى الى تثبيط العزائم وهدر الطاقات ، التي كان يمكن ان تكون مفيدة لو
وضعت في الاتجاه الصحيح ، يقول محفوظ النحناح في هذا الصدد (اعتدنا على اصطناع
شماعات نعلق عليها مشاكلنا ، ولم نجد في اعراف المسلمين حاليا من يقول ان العيب
فينا وليس في غيرنا ، الا ما شذ وندر ، نحن نقول دائما بالتفسير التآمري على امتنا
. . . لكن ليس لدينا من الجرأة ما نفجر به القدرات الذهنية التي لدينا .. ).
وعلى اي حال فان معظم الحركيين يعتقدون الان ،
بان في وسع الاسلام ان يفرض ذاته ، بغض النظر عن وجود
مؤامرة غربية في الواقع او عدم وجودها ، وهم ـ مؤيدو نظرية المؤامرة ومعارضوها ـ
يعملون بناء على هذه الرؤية . على ان
التطور البارز هو تاكيد بعض الكبار على ضرورة الحوار مع الغرب ، مثل الشيخ القرضاوي
الذي يقول (لاغنى عن الحوار مع الغرب ، فهو لايزال مؤثرا في بلادنا ، في صنع القرار فيها ، وعلى عقول حكامها
واراداتهم . . . الحوار مع الغرب فريضة وضرورة لنا حتى يفهم ماذا نريد لانفسنا
وللناس ) ويؤكد السيد محمد حسين فضل الله على هذا التوجه ، حتى لو توقف الامر على
تقديم بعض التنازلات من جانب الحركة الاسلامية (الحركة الباحثة عن امكانات الوصول
الى اهدافها السياسية والفكرية تحتاج الى الآفاق المنفتحة ، التي تطل بها على
ساحات الآخرين . . . ان الانغلاق يعني عدم
التواصل مع الآخرين الا من خلال خط المواجهة ، التي قد تربح جولة او اكثر لكنها لن
تربح حربا على مستوى قضايا الروح والحياة ) .
تشير النوايا المعلنة اضافة الى
التجربة الفعلية الى ان الغرب ـ الولايات المتحدة خاصة ـ عازم ، وقادر ايضا ، على
اعاقة وصول الاسلاميين الى السلطة في البلدان التي ينشطون فيها ، لكن هذه القدرة ليست مطلقة ، وتأثيراتها في بعض الدول لا تزيد
عن الازعاج والتضييق ، ولا تصل الى درجة
تقرير السماح
او المنع ، كما هو المثال القائم في السودان منذ 1989 وايران منذ 1979 ، ومثال لبنان واليمن والكويت ، وفي اعتقادنا
ان وصول الاسلاميين الى السلطة في اي بلد ، مرهون بقدرتهم
على فرض
انفسهم ، من خلال تعبئة الشارع وراء مشروعهم ، والمؤكد ان الدور الغربي سيعتمد على
ادوات محلية لاعاقة طموح الاسلاميين ، وهذا يأخذنا الى موضوعين آخرين ، هما موقع
الاسلاميين وحصتهم من ميزان القوى المحلي ، وعلاقاتهم مع الفاعليات والقوى
السياسية في البلد الذي ينشطون على ارضه ، فهذه القوى قلقة من
طموحات الاسلاميين بمثل ما الغرب قلق ، وفي غياب التفاهم والحوار الجاد فان ثمن
الطموح سيكون غاليا ، وقد يكون سببا لتحميل البلاد والعباد اعباء اضافية ، اذا قرر
الغرب فرض عقوبات كما حصل الان في السودان ، ولهذا فلا محيص من التوصل الى صيغة
للتفاهم تقوم على الاعتراف المتقابل بحد ادنى من الحقوق والمصالح ، بغض النظر عن
كون هذه المصالح مشروعة او غير مشروعة ، عندما ينظر اليها مجردة عن شروطها
الموضوعية .
الراي العام – 8 ديسمبر 1996
مقالات ذات علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق