لاكثر من سبب اصبحت الولايات المتحدة ،
وبدرجة اقل دول اوربا الغربية ، صاحبة نفوذ مؤثر في بلدان العالم الاسلامي ، يطال
سياساتها المحلية بمثل ما يطال علاقاتها الدولية ، ويختلف حجم هذا النفوذ ، كما
يختلف مستوى تاثيره بحسب قابلية البلد المتأثر ومضمون العلاقة القائمة بينه وبين
عواصم التاثير ، ثم وبصورة اخص بحسب طبيعة تعاطي القوى السياسية فيه مع هذا النفوذ
وانعكاساته ، ولان معظم الاقطار الاسلامية تقع ـ مباشرة اوغير مباشرة ـ في دائرة
هذا التاثير ، فقد امسى من الضروري تلمس انعكاساته على فصائل الحركة الاسلامية ،
التي تسعى للمشاركة في الحياة السياسية ، ان سعي الاسلاميين الى المشاركة في سياسة
بلدانهم يجعلهم معنيين مباشرة بالعلاقة مع القوى التي تؤثر سلبا او ايجابا على هذا
المسعى ، بلا فرق بين القوى المحلية والخارجية .
منذ سقوط المعسكر الاشتراكي اصبحت
الديمقراطية كنظام للحياة السياسية ، الموضوع الاكثر استقطابا لاهتمام شعوب العالم
، لا سيما النخب المثقفة ، التي وجدت فيها خشبة النجاة الوحيدة ، من اعاصير القهر
في ظل الانظمة الشمولية او التقليدية ، وفي الوقت الراهن فان معظم النخب يفضل الاتصاف
بالليبرالية ، في اشارة الى تبنيه هذا التوجه ، لقد تحولت (الديمقراطية) الى نمط قياسي ، ومسطرة تقاس عليها صحة او
مشروعية المناهج ومشروعات العمل في السياسة
.
ومع ان كثيرا من دول العالم يطبق
اشكالا من الحكم يصفها بالديمقراطية ، الا ان مطمح
الآمال اليوم ، هو الصيغة التي تطبق في اوربا والولايات المتحدة الامريكية ، ربما
لانها اكمل من غيرها ، وربما لانها تنتمي الى امم قوية وغالبة ، والمغلوب مأخوذ ـ
كما لا حظ ابن خلدون ـ بما عند الغالب منبهر به .
ان تقدم الليبرالية الى المواقع التي
اخلتها الاشتراكية ، هو تدليل على على تفوق النمط الغربي في الحياة والعمل السياسي
على نظيره الماركسي ، وهو من ناحية اخرى ، صورة من صور التغير الكبير في السياسة
الدولية ، الذي احدثه تفكك الاتحاد السوفيتي وسقوط الدولة الاشتراكية الام ، في
ديسمبر 1991 . ان هذا التاريخ هو بداية لانفراط نظام الاستقطاب الثنائي ،
لصالح ما وصفه الرئيس جورج بوش بالنظام العالمي الجديد ، وهو في الجوهر نظام
استقطاب احادي لصالح الولايات المتحدة الاميركية والدول الصناعية الحليفة ، ومن المفهوم ان هذا الاستقطاب لا يقتصر على الناحية
السياسية ، بل يتعداها الى الاقتصاد والثقافة والتوجهات المستقبلية عامة .
ديمقراطيات
منذ منتصف القرن الحالي حصلت معظم دول
العالم الثالث على استقلالها ، واقامت
انظمتها
السياسية الوطنية ، على اسس ادعى جميع النخب التي ورثت الحكم من المستعمر
انها ديمقراطية ، رغم ان العديد من تلك الانظمة كان استبداديا الى
حد الاجرام . وبالنظر الى اختلافها عن النمط الديمقراطي الشائع في الغرب
، وفشلها في ضمان الحد المناسب من حقوق المواطنين ، فقد قالت تلك النخب ان
حداثة التنظيم السياسي ، وتخلف الاقتصاد في مجتمعاتها ، لا يسمح بتطبيق نموذج
متقدم في العمل السياسي ، شبيه لذلك القائم في الدول الصناعية ، فهي تراعي عند
تطبيق نماذجها الخاصة ، الحاجات الوطنية التي من اهمها الانتقال التدريجي الى عصر
الدولة الحديثة . وحسب تعبير رئيس عربي كان يتحدث للواشنطن بوست فان موعد
الديمقراطية سيحين عندما يصبح دخل المواطن مساويا لنظيره في اوربا الغربية .
وشهد العالم خلال هذه الحقبة التي
امتدت من منتصف القرن تقريبا الى وقتنا الحاضر ، ظهور ما يطلق عليه الانماط
الوطنية في الحكم ، وهي عبارة عن تجميع انتقائي من الليبرالية الغربية بعضها ، ومن
الماركسية البعض الاخر ، وقد صيغت تلك
الانماط على شكل
ديمقراطية حقيقية في بعض الاحيان ، يتجلى فيها التمثيل الواسع لشرائح الشعب ،
والقدرة على المحاسبة العلنية لاصحاب القرار ، اضافة الى قدر معقول من الحريات
العامة ، والتداول السلمي للسلطة ، لكن العيب الوحيد فيها انها كانت محكومة في
اغلب النماذج بفلسفة حزب وحيد ، وكانت في نماذج اخرى
ديمقراطية نخبوية ، لا تتجاوز في التطبيق الاطارات الخاصة لهذا الحزب ، او مجموعة محددة
من الاحزاب المتحالفة ، ومثل ذلك الديمقراطية حسب نظام الفئات الاجتماعية ، الذي
طبقته بعض الدول العربية.
وبشكل عام فان تلك الانظمة ، لم تبن
على اساس التمثيل الحقيقي للشرائح المختلفة في
البلاد ، ولم
تعبر عن التعدد الفكري او السياسي القائم في المجتمع ، كما لم يتاسس النظام
السياسي على قاعدة رجوع الدولة الى الشعب في مشروعيتها وحقوقها ، بل اعتمد بناؤها
على اساس تفوق الدولة ومرجعيتها وارجحيتها في التراتب مع المجتمع ، كما وضع نظام
للتمثيل يقوم على تصنيف انتقائي للقوى الاجتماعية ، كما تراه او كما تريده النخب
الغالبة .
وقد كان الغرب من اشد الداعين الى
ديمقراطية مفتوحة ، تتجاوز هذه الاعتبارات ومبرراتها ولهذا فلم تصنف اي من حكومات العالم الثالث في الادبيات السياسية
الغربية ، باعتبارها ديمقراطية حقيقية . ان البديل الذي يطرحه الغرب هو ازالة
القيود الحكومية التي تحول دون التعبير الحر عن الراي ، ومن ثم تحكيم صناديق
الاقتراع ، باعتبارها الآلية الوحيدة التي يمكن من خلالها التعرف على ارادة الشعب
، وحصول ممثليه على المشروعية القانونية اللازمة لقيامهم بمهام التمثيل السياسي ،
بغض النظر عن الادعاءات التقليدية بحاجة
البلد الى نمط خاص من الحكم ، او الى فلسفة
خاصة للقيادة
.
ويعتبر الغرب ان تحرير السوق هو
المقدمة الضرورية لقيام نظام سياسي ديمقراطي في العالم الثالث ، حتى ان الانظمة
التي تطور تجربة ديمقراطية حقيقية ، لم تحض بالاعتراف الغربي بقيمة تجربتها ، الا
بعد ان حررت نظامها الاقتصادي من قيود التوجيه السياسي المركزي ، واعادت صياغته
على اساس المبادرة الحرة وتحكيم اليات العرض والطلب ، وقد ادى هذا الربط الذي وجده
بعض السياسيين في العالم الثالث متكلفا ، الى اثارة الشك في دوافع الاصرار الغربي
على اشاعة الديمقراطية ، ذلك ان تحرير السوق المحلية قد ادى ـ في اكثر البلدان
النامية ـ الى جعل الاقتصاد الوطني الضعيف او الحديث النشأة ، نهبا لضغوط السوق
الدولية القاهرة ، التي تسيطر عليها بصورة مطلقة الدول الصناعية وشركاتها الكبرى ،
وبالتالي فقد بدا كما لو ان دعوة الغرب للديمقراطية ، لا تستهدف سوى اضافة مجالات
عمل واستثمار جديدة ، للاقتصاد الغربي ، المتعطش للتوسع على المستوى الكوني .
سياسة
انتقائية
في السنوات الاخيرة اعلن العديد من
الاحزاب والتيارات الاجتماعية ، بما فيها تلك التي تتبنى ايديولوجيات شمولية ،
تبنيه لأسلوب العمل والصراع السياسي ضمن
المفاهيم والاطارات الديمقراطية ، على نفس الاسس التي تدعو
لها
الليبرالية الغربية ، وبالنسبة لدول المعسكر الاشتراكي السابق ، فان جميع الاحزاب
الشيوعية التي اطيح بها ، قد اعادت تشكيل نفسها على اسس جديدة ، تتضمن الغاء
البرامج التي تشير الى حكم شمولي ، او احتكار للسلطة او استخدام مكثف للايديولوجيا
في الممارسة السياسية ، بل ان بعضها ـ كما هو الحال في بولندا مثلا ـ يعرض برنامجا
اقتصاديا لا يختلف من حيث الجوهر عن برامج الاحزاب الليبرالية . والى هذا الاتجاه
ايضا مال كثير من الحركات الاسلامية ، بل لقد اثار الشيخ راشد الغنوشي وهو من ابرز
زعماء الحركة الاسلامية دهشة الكثير من رفاقه حين انتقد علانية قرار الحكومة
التونسية بحرمان الحزب الشيوعي من الترخيص الذي يخوله ممارسة العمل بصورة قانونية
، اما حزب الرفاه التركي فقد تجاوز في تعاطيه السياسي كل الخطوط .
وبالطبع فقد وجد هذا الاتجاه ترحيبا بالغا من
جانب الغربيين ، الذين ربما وجدوا فيه
تاكيدا لانتصار فلسفتهم في العمل السياسي ، او
طارا لدمج
العالم في نظام سياسي يدور حول محور مركزي ، وهو جوهر فكرة النظام الدولي
الجديد الذي تروج له الولايات المتحدة الأمريكية .
لكن من غرائب المفارقات ، ان الغرب الذي دعا لهذا التوجه
ودافع عنه بصلابة ، يبذل المستحيل لمنع تحوله الى خيار واقعي
، في البلدان التي تقوم فيها حركة اسلامية واسعة النفوذ ، راينا هذا في الجزائر
مثلا حيث عبرت الولايات المتحدة وجميع دول اوربا
الغربية ، عن
تاييد صريح او ضمني لالغاء نتائج
الانتخابات النيابية بعد ان تاكد فوز الاسلاميين ، وكانت قد اظهرت قلقها من
هذا الاحتمال قبل ان تظهر نتائج فرز الاصوات ، بل نقل عن
الرئيس الفرنسي
ـ يومئذ ـ فرانسوا ميتران قوله ان فرنسا قد تعود للحرب في مستعمرتها السابقة
، فيما لو اصبح الحكم بيد الاسلاميين ، وفي الوقت الراهن فان الصمود الذي يبديه
الحكم المدعوم من الجيش في مواجهة المشاكل العويصة ، يرجع في جانب كبير منه الى
الدعم الغربي ، السياسي والمادي .
ليس المراد هنا هو اثبات ان الغرب يعمل
في السياسة الخارجية بمعيارين متناقضين ، فذلك هو الامر الطبيعي لدولة عظمى ، او
مجموعة دول قوية ، تعتبر العالم كله ميدانا
لعملها
السياسي ، وبالتالي مصالحها الاقتصادية ونفوذها ، الذي يشكل اساس نظام العلاقات
الخارجية للقوة العظمى .
القضية المحورية هي مدى واقعية النظام
الديمقراطي ومؤسساته ، كإطار للعمل السياسي في البلدان الاسلامية التي تتاثر
بالسياسات الغربية ، ومدى صدقية الدعوة التي ينادي بها ذلك الفريق من الاسلاميين ،
الذين يدعون للمشاركة الكاملة في اللعبة السياسية
، ضمن المعادلات القائمة فعلا في كل قطر ، باعتبارها
الوسيلة
الامثل للوصول الى السلطة ، او على الاقل المشاركة فيها .
ومن الواضح ان الغرب حريص على اصلاح من
نوع ما ، في سياسة البلدان التي تقع ضمن دائرة نفوذها التقليدية ، لكن هذا الاصلاح
يجب ـ وفق المنظور الغربي ـ ان يتم في اطار
استمرارية
النظام القديم ، لا في اطار الانقلاب عليه والغائه ، هذا ما يظهر من السياسة
الغربية تجاه العراق ايضا ، الذي على الرغم من ان حكومته قد خاضت حربا فعلية
ضد الغرب اثر احتلاله للكويت ، الا ان الولايات المتحدة واوربا الغربية ، تقاعست
عن القيام باي خطوة جدية لدعم جهود المعارضة الرامية للاطاحة بالنظام العراقي ، ان
حلول المعارضة العراقية محل حكومة صدام حسين ، يمثل انقلابا كاملا في التاريخ
المعاصر للعراق ، ولا يبدو ان الغرب مستعد لدعم تحولات انقلابية من هذا الحجم ،
حتى لو كان في ظرف مثل ظرف العلاقة الحالية بينه وبين بغداد .
والحقيقة ان الولايات المتحدة الامريكية واوربا
الغربية لم تقم ـ على رغم ادعاءاتها ـ باي خطوات ملموسة تستهدف دعم التحول السلمي
نحو الديمقراطية في أي بلد مسلم ، واذا اردنا التحفظ فانه لا يمكن وصف الدعم
السياسي الذي قدمته لقليل من البلدان ، الا باعتباره دعما سلبيا ، أي عدم اعاقة
تحول كان يتبلور اصلا في ميدان الواقع ، كما حصل في لبنان عقب الحرب الاهلية وكما
حصل في الكويت بعد تحريرها من الاحتلال العراقي ، واليمن بعد الوحدة ، اذ يمكن
الاشارة الى ان واشنطن والعواصم الاوربية لم تتدخل لاعاقة التحول ، لكن لا يمكن
العثور على ادلة تؤكد انها قدمت دعما اكثر من هذا .
وقد أدى الفتور الغربي تجاه الاصلاح
السياسي في العالم العربي خاصة ، الى احياء نظرية المؤامرة التي كانت حتى وقت قريب
، المنظار الذي ينظر من خلاله الاسلاميون الى الغرب والعلاقة معه ، لقد غابت هذه
النظرية عن الساحة لبعض الوقت ، لكن السلوك الغربي تجاه
الدول العربية ، لا سيما تلك التي يسعى الاسلاميون فيها الى
المشاركة
السياسية ، قد اعاد احياءها من جديد ، وتجد تداعيات هذه النظرية في معظم التحليلات
التي تنشرها الصحافة الاسلامية وتتعلق بقضية للغرب فيها علاقة .
الراي العام 23 نوفمبر 1996
مقالات
ذات علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق