عند
مطلع القرن العشرين شهدت ايران انتفاضة شعبية ، استهدفت تحديد سلطات الشاه مظفر
الدين القاجاري ، وعرفت تاريخيا باسم ثورة الدستور ، وشهد الجدل حول صورة الحكم ،
ظهور فكرة الدولة الاسلامية التي طرحت يومها تحت عنوان (الدستورية المشروعة) واراد
اصحاب هذه الفكرة وضع السلطة تحت وصاية الفقهاء ، الذين يصنفون في الفقه الشيعي
باعتبارهم الحكام الشرعيين ونواب الامام المعصوم، لكن الثورة الدستورية فشلت بعد
سنوات قليلة فحسب، ولم يتحقق اي من اهدافها، لا تحديد سلطات الشاه ولا اخضاعه
لوصاية الفقهاء.
ومنذئذ
اختار المجتمع الديني اعتزال السياسة ، وتعزز هذا الاتجاه اثر الحرب العالمية
الاولى ، وسقوط الخلافة العثمانية ، الرمز الوحيد الباقي من رموز الدولة الاسلامية
القديمة ، وخلال نصف القرن التالي لم تطرح فكرة الدولة الاسلامية كمطلب تتبناه
جماعة سياسية ، حتى لقد تشكك كثـير من الناس ـ حينما طرحت لاول مرة ـ في قدرة
الاسلام على تاسيس دولة او قدرة الجماعات التي تصنف باعتبارها اسلامية على ممارسة
السلطة ، وقد اشار الاستاذ محمد جلال كشك في سلسلة مقالات نشرها عام 1979 الى جدل
دار احيانا بين المرحوم حسن البنا وتلاميذه حول قدرة الاسلاميين على ممارسة الحكم
فيما لو اتيحت لهم الفرصة .
لكن
الامر لم يبق هكذا ، فمنذ أواخر السبعينات دخل المشروع الاسلامي طور التطبيق في
الحياة السياسية مضمونا لأنظمة حكم ، أو لتيارات تسعى علنا الى الحكم ، شأنه في
ذلك شأن اي تيار اجتماعي او سياسي ، يسعى لاكتساب القوة المادية وممارسة القيادة ،
بغض النظر عن مثالية الأفكار التي يعبر عنها او يتبناها .
ومنذ
بواكير الصحوة الجديدة ، جرى عرض المشروع الاسلامي باعتباره بديلا عن الانظمة
القائمة ، غير قابل للنقاش او التجزيء ، فلم يوضع على طاولة واحدة مع المشروعات
الاخرى المنافسة لكي يختار الشعب ما يشاء ، ذلك ان الاسلام لم يكن ـ في نظر
الاسلاميين ـ خيارا للناس ، بل ضرورة
يتوجب عليهم قبولها باعتباره رسالة الله للانسان ، وباعتباره البديل الوحيد
الذي يتمتع بالمشروعية عند العرض وعند التطبيق .
ويبدو
لي ان اسلوب العرض هذا ، قد تسبب ـ رغم قيامه على مبررات نظرية مقبولة ـ في تعطيل
المشروع الاسلامي ، فقد أبقته وحدانيته ونفوره من المنافس ، سجين العناوين العامة
، لقد تحاشى التفاصيل ، من اجل المحافظة على قدر اكبر من الالتفاف الشعبي حوله ،
فاذا تجاوز الكليات الى الجزئيات ، تحول الى موضوع اختلاف بل تنازع في بعض الاحيان
، والسر في هذا التحول ، يكمن في حقيقة ان الاسلاميين مختلفون في فهم القواعد
والنصوص والاساسات ، التي تشكل المصـادر الفكرية لهذا المشروع .
وبسبب
هذا الاختلاف فان الجماعات الاسلامية التي تتبنى مشروعات للتغيير ، تزيد عددا عن
معظم الجماعات الاخرى غير الاسلامية ، ولا تخطيء العين ، مظاهر الاختلاف الوسيع ،
بل التناقض احيانا ، بين هذا المشروع وذاك ، مع انها جميعا تدعي الصدور عن الاسلام
والوفاء لاراداته ، واذا لم يكن هذا الاختلاف مدعاة للقلق ، من حيث انه تعبير عن
حيوية في التفكير واتساع لنطاق الاجتهاد ، فان المقلق حقا هو اعتبار كل جماعة ان
مشروعها مجسد لحقيقة الاسلام ، تجسيدا وحيدا منفردا ، لا يدع محلا لفصيل آخر كي
يقول رايه او يعلن مشروعه ، فهي مشروعات متباينة وليست متكاملة ، مشروعات تحكم على
بعضها بالابتداع والمروق من الدين ، ولاتقبل كونها صادرة عن جهد عقلي كما كل مشروع
او فكرة ، فكأن كل فريق استعار ـ من حيث لا يدري ـ صفة الخالق العالم بالحقيقة الكاملة ، وجلس في كرسي المشرع الذي
لا يخطيء حين يقول الحكم .
على
انه لا ينبغي الاسراف في توجيه الملام ، فثمة جماعات وثمة علماء وثمة سياسيون
يطرحون مشروعاتهم باعتبارها اجتهادا ، يحترمونه قدر ما يحترمون غيره ، ويقدمونه
باعتباره اصوب الخيارات ، في الوقت الذي لا ينفون بالمطلق احتمال صواب الغير ،
واجد ان هذا التيار السليم يتسع تدريجيا ويحتل مكان التيار الاول ، وهو يميل الى
اقناع الناس بمشروعه لا الى فرضه عليهم ، باعتبار الدعوة تبشـيرا وانذارا ، لا
منهج سيطرة وتحكم في العقول او الرقاب .
وعلى
أي حال فانه ينبغي للاسلاميين ، الانطلاق من وجوب الاحسان والحكمة في الدعوة الى
الله ، والصبر على الناس ، حتى يأذن الله فتنفتح القلوب وتقبل النفوس .
فاذا
وافق حملة المشروع السياسي الاسلامي على طرح مشروعهم هذا أمام الشعب ، وعرضه
للمقارنة مع المشروعات الأخرى ، فينبغي ان لا تضيق صدورهم حينما يتوجه النقد الى
المشروع ، اساساته او تفصيلاته ، إن عليهم التحلي بالكثير من الصبر ، لأن النقـد
سيكون موجها في حقيقة الأمر الى كل شيء لديهم ، بما فيه فهمهم للاسلام .
تستمد
الدعوة الى فتح الابواب امام النقد اهميتها ، من ارتباطه الوثيق بموضوع الاجتهاد ،
حيث يشعر الجميع بان حاجة المسلمين اليوم
، تدعو الى تجاوز شجاع لظروف الحقب السابقة ، بكل ما فيها من معوقات ثقافية
واجتماعية ، جعلت القكر الاسلامي محصورا في اطار ضيق ، دفاعي او تبريري في الغالب
، اننا بحاجة اليوم الى اجتهاد يجـيب على حاجات عصرنا ، ويتناول خصوصا الامور
العامة ، ذات التأثير المباشر او غير المباشر على معظم الناس ، في الشان السياسي
وفي غيره من الشؤون ، التي لا تتعلق بفرد واحد او عدد معين من الافراد ، بل بعامة
المسلمين ، او على الاقل بعامة المسلمين من اهل قطر معين من الاقطار الاسلامية ،
لا سيما في المرحلة الحالية ، التي تشهد تناميا في شعور المسلمين بقدرة دينهم
وكفاءته ، كمشروع لادارة المجتمع وتنظيمه ، بالمقارنة مع المشروعات الاخرى .
ان
الحركة المستقيمة والمتنامية للاجتهاد ، لا تقوم بغير قبول النقد وأدواته ، كواحد
من المدخلات الرئيسية للمعرفة الجديدة والتفكـير الجديد ، النقد لما ابدعته عقولنا
من تصورات عن الشريعة ، او لما ورثناه من
تصورات الاسلاف .
لقد تراجعت حرية الرأي في المجتمع الاسلامي مع اغلاق باب
الاجتهاد ، ثم انكفائه على نفسه وافتصار
مجال اشتغاله على اعادة انتاج تحليلات علماء الازمنة السالفة ، دون ابداع او تجديد
، حتى انتهى به الامر الى اضفاء رداء القداسة على تلك الاجتهادات والتحليلات
وعصمها عن النقد ، ان الاجتهاد الكامل هو الممارسة المثلى لحرية الرأي والنقد ،
المنتجة للافكار الجديدة والخلاقة .
ان
فتح الأبواب أمام النقد ، يساعد على حل معضلة التوقف امام تراثنا التاريخي ، الذي
يمثل اليوم قاعدتنا الثقافية ، فقيام تقاليد متكاملة في نقد الفكر ، يعين على
ارساء معايير للتعامل مع هذا التراث الضخم ، ولاسيما في وضع سلم للتناسب بينه وبين
الفكر المعاصر ، الناتج عن اجتهادات لعلماء ، او عن ظهور حقائق علمية لم تكن
معروفة في الماضي ، ثمة من ينظر الى التراث الاسلامي كما لو كان دينا ، ويعتبر
التعرض له بالنقد والمناقشة تجاوزا للمقدسات ، كما لو كان الفكر والتفكير الاسلامي
، نهرا آسنا جف نبعه وتوقف عن الجريان ، مع انقراض اهل القرون المفضلة .
ان تعاملا علميا وصحيحا مع التراث التاريخي للامة
الاسلامية ، سيعين على حل المعضلة ، بعد تاخير انتج اشكالات اساسية ، في العلاقة
بين الثقافة والنهضة ، وبينها وبين الهوية ، وبالتالي بين الجمهور المسلم وعصـره
وبينه وبين توجهاته المستقبلية .
وعلى الصعيد الاجتماعي فان التوصل الى ثوابت اطارية في
الممارسة النقدية ، يساعد على تكييف صحيح ، للتعامل مع التيارات الاخرى في المجتمع
المسلم ، التي تتبنى تفسيرا للاسلام يقدم وجهة نظر تخالف ما نتبناه ، والتي لا
تتبنى الاسلام كمشروع نهضوي ، فضلا عن تلك التي وقفت على جانب العداء للمشروع
الاسلامي ، او اعتبرت نفسها محايدة في الصراع بين المشروع الاسلامي ومخالفـيه ، ان
كثيرا من الاسلاميين ما زالوا غير واثقين من صحة التعامل مع التيارات الاخرى ،
الاسلامية المخالفة او غير الاسلامية ، فثمة من يدعو الى حوار من أجل علاقة متينة
، وثمة من يعارض ما يعتبره تشريعا لوجود الفكر المتناقض مع الاسلام ، وعلى كلا
الجبهتـين يوجد من ينتـقـد الاخرى ، مقيما رايه على حجج دينية أو غير دينية .
لقد
اثار ظهور الاسلام السياسي اسئلة كثيرة ، لا بد من الاجابة عليها ، لان المسلمين ـ
لا سيما عامتهم ـ لا يعرفون من الاسلام المعاصر ، غير كونه املا في تطبيـق الاسلام
الذي جاء به رسول الله ، فجاء في رحاله العـدل الاجتماعي والأمان والتقدم والقوة ،
وهم اذ يهتفون له ويستبشرون بقدومه فانما يرحبون في حقيقة الامر بالمثال الذي في
اذهانهم ، والا فان ما هو معروف من المشروع الراهن ، نادر الى درجة يصعب على
المثقف ، فضلا عن الانسان العادي ، اعتباره مدعاة للاستبشار .
لقد جرت العادة على اعتبار النقد الموجه الى الاسلاميين ،
كتيار ثقافي او كحركة سياسية ، نقدا للاسلام ، ووُصف الناقدون في معظم الأحيان
باعتبارهم علمانيين ، وهو وصف مرادف ـ في عرف المؤمنين ـ للالحاد ، وبغض النظر عن
دوافع الناقدين ، فإن من البديهيات عند طرح ايديولوجيا معينة ، كمضمون لمشروع
سياسي او اجتماعي ، القبول مبدئيا بوضعها على مائدة المقارنة مع المشروعات الأخرى
، ليختار الناس ما يرونه الأفضل ، سيما اذا اراد اصحاب هذا المشروع ، ايصاله الى
مستوى الحاكمية عن طريق التعبئة الشعبية ، وليس على متن الدبابات .
لكن هذا الظرف ليس هو الوحيد ، الذي يدعو اصحاب المشروع
الاسلامي ، لتفهم النقد الموجه اليهم والى طروحاتهم ، إن تحولات العالم خلال الربع
الأخير من القرن العشرين ، توجب اعادة تقييم للكثير من الطروحات ، ومضامين الخطاب
الاجتماعي للاسلام المعاصر ، الاسلام بوصفه حركة اجتماعية ومشروعا للمستقبل ،
النقد اذن هو الطريق الوحيد للانتقال بالاسلام من التاريخ الى الحاضر ، وما لم
يتمكن المشروع الاسلامي من تجاوز حاجز المعاصرة ، فان الامل في ان يكون سفينة
الانقاذ ، لن يكون غير طريق لاحباط جديد يضاف الى قائمة الاحباطات .
الراي
العام 2 مارس 1997
مقالات ذات علاقة
-------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق