09/03/1997

الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟


كانت الجزائر هي القطر العربي الاخير ، الذي طرح فيه الاسلام كمشروع سياسي ، تتبناه حركة سياسية تسعى رسميا الى الحكم . وبين الحدث الجزائري واحداث مماثلة ، تكررت خلال التاريخ المعاصر لا سيما في العقدين الأخيرين ، اثار طرح المشروع السياسي الاسلامي ما وصفه رئيس الوزراء الايراني السابق محمد جواد باهنر بطوفان من الاسئلة ، اسئلة لا بد منها في ظروف انتقال وتحول ، كالتي يشهدها العالم الاسلامي ، ويتراوح التركيز في هذه الأسئلة ، بين قدرة الاسلام ذاته على تلبية الحاجات الثقافية والتنظيمية المعاصرة للمجتمع والدولة ، وبين كفاءة الحركيين الاسلاميين ، للحلول كبديل اصلح عن النخب السياسية ، التي اعتاد عليها العالم العربي منذ قيام الدولة الحديثة ، من نوع ... هل يملك الحركيون الاسلاميون مشروعا لانقاذ بلادهم من حالة التخلف والسقوط الاقتصادي ، هل ينوون إعادة هيكلة المجتمع ، وضع المرأة في ظل حكومة الاسلام ، العلاقة مع غير المسلمين في ظل النظام الاجتماعي الجديد ، والعديد من الاسئلة المشابهة ، التي تعبر جميعها عن حقيقة كون الاسلام في بعده الإجتماعي والسياسي ، مجهولا عند اكثرية الناس ، فضلا عن كونه مرفوضا عند المنافسين الأيديولوجيين .

يمكن ارجاع السبب في ظهور هذا الموج من الاسئلة ، الى سببين ، غموض المشروع الاسلامي المعاصر ،  وكون الحركة الاسلامية بنموذجها الذي تبلور في السبعينات وما بعدها ، حديثة الظهور الى حد ما ، فخلال الفترة السابقة للحرب العالمية الثانية ، لم يكن هناك ما يصح تسميته حركة اسلامية بالمعنى الحديث للجماعة السياسية ، كما ان النشاط الفكري الذي جرى حتى ذلك الحين كان محدودا جدا ، فوق انه تكرس ـ باستثناءات محدودة ـ للموضوعات التقليدية ، التي لم تعد الآن موضع اهتمام الباحثين ، لأن معظمها لا يعالج قضايا جديدة او معاصرة ، ولاسيما قضايا عامة .

 اما بعد الحرب فقد انصرف الاسلاميون ، الذين خرجوا عن الاطارات التقليدية الى الدفاع عن الاسلام ، الذي واجه يومئذ محاولات جادة للتهميش والعزل ، في نطاق الدعوة المشهورة الى الفصل بين الدين والسياسة ، فاتسم النتاج الثقافي لتلك الحقبة ، وحتى وقت متأخر من عقد السبعينات الميلادية ، بالصبغة الدفاعية او التبريرية في الغالب ، كما ان معظم النظريات الجديدة التي طرحت يومها ، وهي قليلة على اي حال ، قد اقيمت في سياق المقارنة بين الاسلام والايديولوجيات المناوئة ، ضمن ذات السياق الدفاعي التبريري المشار اليه . نقول هذا ونقصد الأعم الأغلب وليس الكل الحقيقي ، فقد ظهرت كتابات من النوع التنظيري ، المتحرر من قيود السياق الدفاعي والتبريري ، لكنها قليلة جدا بل نادرة .

نشير هنا الى المحاولات النظرية الفريدة التي قدمها عدد من الفقهاء في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين ، مثل المرحوم النائيني ، والافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ، لكن هذه المحاولات لم تتواصل ولم تتحول الى اساس يبني عليه اللاحقون ، فكانما هي نبتات برية منفصلة عن التسلسل الثقافي العام .

وعليه فان عدم وضوح صورة المشروع الاسلامي ، لا سيما مشروع الدولة ، يعطي مشروعية تامة لتلك التساؤلات ، ويوجب على الاسلاميين تقديم الجواب ، وهنا مربط الفرس ، فالاجابة على ذلك النوع من الاسئلة وغيرها يقتضي وجود نظرية اجتماعية تقام عليها الاجابة ، والقبول بالنقاش يقتضي توفير الفرصة لسماع النقد والاعتراض ، فالذي يبحث عنه السائلون هو نظرية قابلة للتطبيق ، ضمن شروط الزمان والمكان الحاضر ، وليس العرض التقليدي للقصص التاريخية عن عدل الخلفاء الراشدين ، او فتوحات بين امية ، أو الانجازات العلمية للعباسيين ، كما يصعب الافتراض بان السائلين سيتوقفون عند حدود النظرية ، ومن الطبيعي احتمال أن يعرض النقاش للتجربة السياسية ، كما للفكرة التي تشكل اساسا للمشروع .

لم يعد من المنطقي التساؤل عما اذا كان الاسلام كعنوان لحركة سياسية ، او الاسلاميون كتيار اجتماعي ، قادرين على الوصول الى السلطة او ممارسة الحكم ، وإقامة النظام الذي يعرضونه بديلا عن الانظمة القائمة ، بعد ان اصبح هذا المشروع قيد التطبيق الفعلي منذ نهاية السبعينات ، وفي العالم الاسلامي اليوم حكومتان تتبنيان المشروع الاسلامي في صيغته الحديثة ، ايران والسودان .

ومع عدم اغفال ما يبدو من نقاط ضعف في تجربة الحكومتين المذكورتين ، وهي على اي حال نقاط ضعف متوقعة في اي تجربة سياسية ، الا أن قيام التجربة وثباتها لمدة تزيد على عقد ونصف من الزمن ، كما في المثال الايراني ، يدل على ان الحركيين الاسلاميين ليسوا اقل قدرة من منافسيهم على ممارسة القيادة ، كما يعني ضمنا ثبوت امكانية اقامة الحكم الاسلامي ، بعد مرور قرون متمادية على زوال النموذج الاسلامي القديم في الحكم  .

لكن لايزال تصوير الاسلام عند اكثرية الناس بعيدا عن الحقيقة ، فهو اقرب الى الاماني منه الى الموضوعات ، وهو في معظم الحالات يتراوح بين واحد من تصويرين:

ـ التصوير الخرافي الذي يعرضه كما لو كان مشروعا لاحياء ايام هارون الرشيد وليالي الف ليلة وليلة ، اي استدعاء صور من التاريخ وتركيبها على الواقع المعاصر ، بافتراض ان هذا يشكل مشروع انهاض او سياسة .

ـ التصوير الاخلاقي المجرد ، الذي لا يمكن تقدير فاعليته على الصعيد العام العملي ، وخاصة على صعيد الدولة ، ويتضمن هذا التصوير تفريغا للمشروع الاسلامي ، في قالب محدد هو الاخلاقيات الفردية .

 وفي تقديرنا ان قيام تجارب اسلامية في اكثر من بلد ، ونجاح القوى الاسلامية في الوصول الى السلطة او المشاركة فيها ، قد ساعد الى حد ما في ايضاح الجوانب الغائبة من المشروع الاسلامي ، لكن بالنظر الى ان تلك القوى لا تزال حديثة التجربة في الحكم نسبيا ، او انها لا تزال في مرحلة الانتقال ، فان جوانب الصورة لم تكتمل ، لا سيما اذا اضفنا اليها حقيقة ان كثيرا من الاسلاميين يعترضون على جوانب من التطبيقات الموصوفة بالاسلامية ، التي تجري في ايران منذ 1979 والسودان منذ 1989 ، اننا نجد بين الاسلاميين ، من يشكك او ينفي اسلامية احدى التجربتين ، او كلاهما او بعض جوانبهما .  ولا ينبغي اغفال ان معظم الناس من الاسلاميين وغيرهم ، ينظر بشك عميق الى التجربة الافغانية الشديدة الالتباس والمثيرة للدهشة .

وخارج هاتين التجربتين فان الحركات الاسلامية تطرح شعارات عامة ، من نوع (الاسلام هو الحل) وامثالها ، لكن نادرا ما يتحدث احد ، عن ماهية هذا الحل وتفصيلاته وآليات عمله ، واتذكر في هذا السياق حادثة بسيطة لكنها مشحونة بالعبر ، في سيارة تاكسي في العاصمة الايرانية ، شتاء 1982 ، فقد دار جدل بين سائق السيارة وركابها حول تقنين البنزين ، الذي تقرر حينها بسبب الحرب ، ففي سياق هذا الجدل قال احد الركاب ما مضمونه ، ان على الايرانيين ان يحمدوا الله تبارك وتعالى ، لان بلدهم يقيم حكم الاسلام ، وهو سياتي بالبركات ، فاجابه سائق التاكسي بان بنزين السيارة سينفذ عند منتصف النهار ، ولن يكون لديه وسيلة لتحصيل رزقه في اليوم التالي  (انني بحاجة الى البنزين لتشغيل السيارة ، فهل اصب الاسلام في خزانها كي احصل على لقمة العيش) .

 ان شعار (الحل الاسلامي) جذاب ومثير لاهتمام المسلمين ، فهو يستدعي الى اذهانهم تلك الصور الجميلة ، التي سمعنا بها او قرأنا عنها في تراثنا التاريخي ، من العدالة الاجتماعية وتواضع الحاكم والمساواة بين الناس ، وقوة الدولة وعظمة الحضارة ، الى السمو الاخلاقي للفرد وفاعليته الاجتماعية ، ومثل هذه الصور اشد تاثيرا في مسلم اليوم ، بالنظر لما يعيشه من مرارات واحباطات استعصى علاج اسبابها على امهر النطاسين .

 لكن أنى لنا باعادة عجلة التاريخ الى الوراء ، للعيش في عصر اولئك الاماجد ، ان ما لدينا اليوم هو النتاج العلمي الذي خلفوه لنا من التجربة الكبرى ، وما نحتاجه تحديدا هو تحويلها من صورة الاقاصيص والحكايات التاريخية ، الى مشروع للنهضة يتضمن ما يجاوز الموضوعات التعبوية او التحريضية الى التنظيمية ، او على الاقل الاستعانة بها في وضع المشروع .

 اذا كان الاسلاميون جادين في تقديم مشروع ديني للحكم ، فان فضله على غيره يجب ان يتضح في قابليته لانهاض الامة الاسلامية ، او بعض شعوبها على الاقل ، والاقلاع بها من مستنقع التخلف والهامشية ، لان هذا هو مقتضى قوله تعالى (ولو ان اهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) .

النقد الموجه الى المشروع الاسلامي ، يستمد بعض مبرراته من كونه غير واضح المعالم ، ولاسيما في تفاصيله واليات عمله ، فنحن بحاجة الى الخروج من مقام التجريد الى مقام التفصيل و التطبيق على الوقائع ، وبيان حقيقة التطابق بين الحلول التي ندعي انها مراد الاسلام وبين المصالح الحقيقية للناس ، واثبات قدرتنا على تقديم بديل للتجارب الفاشلة ، التي عاصرتها امتنا الاسلامية ، منذ ان اصبح الاسلام على هامش الحياة العامة .

الراي العام 9 مارس 1997

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...