كانت
الجزائر هي القطر العربي الاخير ، الذي طرح فيه الاسلام كمشروع سياسي ، تتبناه
حركة سياسية تسعى رسميا الى الحكم . وبين الحدث الجزائري واحداث مماثلة ، تكررت
خلال التاريخ المعاصر لا سيما في العقدين الأخيرين ، اثار طرح المشروع السياسي
الاسلامي ما وصفه رئيس الوزراء الايراني السابق محمد جواد باهنر بطوفان من الاسئلة
، اسئلة لا بد منها في ظروف انتقال وتحول ، كالتي يشهدها العالم الاسلامي ،
ويتراوح التركيز في هذه الأسئلة ، بين قدرة الاسلام ذاته على تلبية الحاجات الثقافية
والتنظيمية المعاصرة للمجتمع والدولة ، وبين كفاءة الحركيين الاسلاميين ، للحلول
كبديل اصلح عن النخب السياسية ، التي اعتاد عليها العالم العربي منذ قيام الدولة
الحديثة ، من نوع ... هل يملك الحركيون الاسلاميون مشروعا لانقاذ بلادهم من حالة
التخلف والسقوط الاقتصادي ، هل ينوون إعادة هيكلة المجتمع ، وضع المرأة في ظل
حكومة الاسلام ، العلاقة مع غير المسلمين في ظل النظام الاجتماعي الجديد ، والعديد
من الاسئلة المشابهة ، التي تعبر جميعها عن حقيقة كون الاسلام في بعده الإجتماعي
والسياسي ، مجهولا عند اكثرية الناس ، فضلا عن كونه مرفوضا عند المنافسين
الأيديولوجيين .
يمكن
ارجاع السبب في ظهور هذا الموج من الاسئلة ، الى سببين ، غموض المشروع الاسلامي
المعاصر ، وكون الحركة الاسلامية بنموذجها
الذي تبلور في السبعينات وما بعدها ، حديثة الظهور الى حد ما ، فخلال الفترة
السابقة للحرب العالمية الثانية ، لم يكن هناك ما يصح تسميته حركة اسلامية بالمعنى
الحديث للجماعة السياسية ، كما ان النشاط الفكري الذي جرى حتى ذلك الحين كان
محدودا جدا ، فوق انه تكرس ـ باستثناءات محدودة ـ للموضوعات التقليدية ، التي لم
تعد الآن موضع اهتمام الباحثين ، لأن معظمها لا يعالج قضايا جديدة او معاصرة ،
ولاسيما قضايا عامة .
اما بعد الحرب فقد انصرف الاسلاميون ، الذين خرجوا عن
الاطارات التقليدية الى الدفاع عن الاسلام ، الذي واجه يومئذ محاولات جادة للتهميش
والعزل ، في نطاق الدعوة المشهورة الى الفصل بين الدين والسياسة ، فاتسم النتاج
الثقافي لتلك الحقبة ، وحتى وقت متأخر من عقد السبعينات الميلادية ، بالصبغة
الدفاعية او التبريرية في الغالب ، كما ان معظم النظريات الجديدة التي طرحت يومها
، وهي قليلة على اي حال ، قد اقيمت في سياق المقارنة بين الاسلام والايديولوجيات
المناوئة ، ضمن ذات السياق الدفاعي التبريري المشار اليه . نقول هذا ونقصد الأعم
الأغلب وليس الكل الحقيقي ، فقد ظهرت كتابات من النوع التنظيري ، المتحرر من قيود
السياق الدفاعي والتبريري ، لكنها قليلة جدا بل نادرة .
نشير
هنا الى المحاولات النظرية الفريدة التي قدمها عدد من الفقهاء في اواخر القرن
التاسع عشر واوائل القرن العشرين ، مثل المرحوم النائيني ، والافغاني ومحمد عبده
ورشيد رضا ، لكن هذه المحاولات لم تتواصل ولم تتحول الى اساس يبني عليه اللاحقون ،
فكانما هي نبتات برية منفصلة عن التسلسل الثقافي العام .
وعليه
فان عدم وضوح صورة المشروع الاسلامي ، لا سيما مشروع الدولة ، يعطي مشروعية تامة
لتلك التساؤلات ، ويوجب على الاسلاميين تقديم الجواب ، وهنا مربط الفرس ، فالاجابة
على ذلك النوع من الاسئلة وغيرها يقتضي وجود نظرية اجتماعية تقام عليها الاجابة ،
والقبول بالنقاش يقتضي توفير الفرصة لسماع النقد والاعتراض ، فالذي يبحث عنه
السائلون هو نظرية قابلة للتطبيق ، ضمن شروط الزمان والمكان الحاضر ، وليس العرض
التقليدي للقصص التاريخية عن عدل الخلفاء الراشدين ، او فتوحات بين امية ، أو
الانجازات العلمية للعباسيين ، كما يصعب الافتراض بان السائلين سيتوقفون عند حدود
النظرية ، ومن الطبيعي احتمال أن يعرض النقاش للتجربة السياسية ، كما للفكرة التي
تشكل اساسا للمشروع .
لم
يعد من المنطقي التساؤل عما اذا كان الاسلام كعنوان لحركة سياسية ، او الاسلاميون
كتيار اجتماعي ، قادرين على الوصول الى السلطة او ممارسة الحكم ، وإقامة النظام
الذي يعرضونه بديلا عن الانظمة القائمة ، بعد ان اصبح هذا المشروع قيد التطبيق
الفعلي منذ نهاية السبعينات ، وفي العالم الاسلامي اليوم حكومتان تتبنيان المشروع
الاسلامي في صيغته الحديثة ، ايران والسودان .
ومع
عدم اغفال ما يبدو من نقاط ضعف في تجربة الحكومتين المذكورتين ، وهي على اي حال
نقاط ضعف متوقعة في اي تجربة سياسية ، الا أن قيام التجربة وثباتها لمدة تزيد على
عقد ونصف من الزمن ، كما في المثال الايراني ، يدل على ان الحركيين الاسلاميين
ليسوا اقل قدرة من منافسيهم على ممارسة القيادة ، كما يعني ضمنا ثبوت امكانية
اقامة الحكم الاسلامي ، بعد مرور قرون متمادية على زوال النموذج الاسلامي القديم
في الحكم .
لكن
لايزال تصوير الاسلام عند اكثرية الناس بعيدا عن الحقيقة ، فهو اقرب الى الاماني
منه الى الموضوعات ، وهو في معظم الحالات يتراوح بين واحد من تصويرين:
ـ
التصوير الخرافي الذي يعرضه كما لو كان مشروعا لاحياء ايام هارون الرشيد وليالي
الف ليلة وليلة ، اي استدعاء صور من التاريخ وتركيبها على الواقع المعاصر ،
بافتراض ان هذا يشكل مشروع انهاض او سياسة .
ـ
التصوير الاخلاقي المجرد ، الذي لا يمكن تقدير فاعليته على الصعيد العام العملي ،
وخاصة على صعيد الدولة ، ويتضمن هذا التصوير تفريغا للمشروع الاسلامي ، في قالب
محدد هو الاخلاقيات الفردية .
وفي تقديرنا ان قيام تجارب اسلامية في اكثر من بلد ، ونجاح
القوى الاسلامية في الوصول الى السلطة او المشاركة فيها ، قد ساعد الى حد ما في
ايضاح الجوانب الغائبة من المشروع الاسلامي ، لكن بالنظر الى ان تلك القوى لا تزال
حديثة التجربة في الحكم نسبيا ، او انها لا تزال في مرحلة الانتقال ، فان جوانب
الصورة لم تكتمل ، لا سيما اذا اضفنا اليها حقيقة ان كثيرا من الاسلاميين يعترضون
على جوانب من التطبيقات الموصوفة بالاسلامية ، التي تجري في ايران منذ 1979
والسودان منذ 1989 ، اننا نجد بين الاسلاميين ، من يشكك او ينفي اسلامية احدى
التجربتين ، او كلاهما او بعض جوانبهما .
ولا ينبغي اغفال ان معظم الناس من الاسلاميين وغيرهم ، ينظر بشك عميق الى
التجربة الافغانية الشديدة الالتباس والمثيرة للدهشة .
وخارج
هاتين التجربتين فان الحركات الاسلامية تطرح شعارات عامة ، من نوع (الاسلام هو
الحل) وامثالها ، لكن نادرا ما يتحدث احد ، عن ماهية هذا الحل وتفصيلاته وآليات
عمله ، واتذكر في هذا السياق حادثة بسيطة لكنها مشحونة بالعبر ، في سيارة تاكسي في
العاصمة الايرانية ، شتاء 1982 ، فقد دار جدل بين سائق السيارة وركابها حول تقنين
البنزين ، الذي تقرر حينها بسبب الحرب ، ففي سياق هذا الجدل قال احد الركاب ما
مضمونه ، ان على الايرانيين ان يحمدوا الله تبارك وتعالى ، لان بلدهم يقيم حكم
الاسلام ، وهو سياتي بالبركات ، فاجابه سائق التاكسي بان بنزين السيارة سينفذ عند
منتصف النهار ، ولن يكون لديه وسيلة لتحصيل رزقه في اليوم التالي (انني بحاجة الى البنزين لتشغيل السيارة ، فهل
اصب الاسلام في خزانها كي احصل على لقمة العيش) .
ان شعار (الحل الاسلامي) جذاب ومثير لاهتمام المسلمين ،
فهو يستدعي الى اذهانهم تلك الصور الجميلة ، التي سمعنا بها او قرأنا عنها في
تراثنا التاريخي ، من العدالة الاجتماعية وتواضع الحاكم والمساواة بين الناس ،
وقوة الدولة وعظمة الحضارة ، الى السمو الاخلاقي للفرد وفاعليته الاجتماعية ، ومثل
هذه الصور اشد تاثيرا في مسلم اليوم ، بالنظر لما يعيشه من مرارات واحباطات استعصى
علاج اسبابها على امهر النطاسين .
لكن أنى لنا باعادة عجلة التاريخ الى الوراء ،
للعيش في عصر اولئك الاماجد ، ان ما لدينا اليوم هو النتاج العلمي الذي خلفوه لنا
من التجربة الكبرى ، وما نحتاجه تحديدا هو تحويلها من صورة الاقاصيص والحكايات
التاريخية ، الى مشروع للنهضة يتضمن ما يجاوز الموضوعات التعبوية او التحريضية الى
التنظيمية ، او على الاقل الاستعانة بها في وضع المشروع .
اذا كان الاسلاميون جادين في تقديم مشروع ديني للحكم ، فان
فضله على غيره يجب ان يتضح في قابليته لانهاض الامة الاسلامية ، او بعض شعوبها على
الاقل ، والاقلاع بها من مستنقع التخلف والهامشية ، لان هذا هو مقتضى قوله تعالى
(ولو ان اهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) .
النقد
الموجه الى المشروع الاسلامي ، يستمد بعض مبرراته من كونه غير واضح المعالم ،
ولاسيما في تفاصيله واليات عمله ، فنحن بحاجة الى الخروج من مقام التجريد الى مقام
التفصيل و التطبيق على الوقائع ، وبيان حقيقة التطابق بين الحلول التي ندعي انها
مراد الاسلام وبين المصالح الحقيقية للناس ، واثبات قدرتنا على تقديم بديل للتجارب
الفاشلة ، التي عاصرتها امتنا الاسلامية ، منذ ان اصبح الاسلام على هامش الحياة
العامة .
الراي
العام 9 مارس 1997
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق