‏إظهار الرسائل ذات التسميات راس المال الاجتماعي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات راس المال الاجتماعي. إظهار كافة الرسائل

18/01/2024

وراء التشاؤم والتفاؤل: هل نرى الواقع كما هو؟

 يبدو ان مسألة التشاؤم التي عالجها مقال الاسبوع الماضي ، تشكل موضوعا جديا عند الاشقاء العراقيين. وصلتني خلال الاسبوع ردود فعل كثيرة جدا ، بعضها يبرر المزاج التشاؤمي ، لكن الكثير منها يقول صراحة او ضمنيا "حجم المشكلات التي نعانيها فوق ما تعرف ، فلا تعلمنا ما يصح وما لا يصح". الزميل حمزة مصطفى ختم مقاله التعقيبي في صحيفة "الصباح" البغدادية بتفسير ظريف فحواه ان التشاؤم سمة للاحاديث الموجهة للجمهور ، وليس نقاشات النخب ، لأن الجمهور يعتبر الكتابات المتفائلة تملقا لذوي السلطان. اما الزميل علي حسين فقد رأى أن الواقع السياسي لا يترك فرصة للتفاؤل: "ماذا نفعل ياسيدي ونحن نعيش مع ساسة ومسؤولين حولوا مؤسسات الدولة إلى سيرك كبير يستعرضون فيه مهاراتهم في الضحك على عقول الناس".

هواية المتشائم هي البحث عن نقاط سوداء على خريطة العالم

الواضح ان معظم الذين ناقشوا ذلك المقال متفقون على ان المنحى التشاؤمي ليس مفيدا. لكنه مبرر بما يعانيه البلد من مشكلات او بالمزاج الشعبي او بالتجربة التاريخية التي تغذي ذهنية تميل للأسى وليس الفرح.

الجدل في الموضوع أثار في ذهني أسئلة تتعلق بدور الكاتب ، مع استذكار موقف قديم أتبناه ، رغم أنه لم يرض أحدا ، وفحواه ان مسؤولية الكاتب او العالم مثل مسؤولية الفلاح والبقال وسائق التكسي والطبيب والمهندس وغيرهم ، تتلخص في إتقان عمله. اي انه لايحمل رسالة ولايتوجب عليه ان يتبنى موقفا غير ما يجب على كل شخص آخر. واعتقد جازما ان تبني كافة الناس لهذا الموقف ، اي الاجتهاد في اتقان العمل ، محرك قوي للنهضة ، لو كانت هدفا.

الداعي لاثارة السؤال هو ما يبدو من تناقض بين هذا الموقف ، اي عدم التزام الكاتب بموقف محدد من قضايا المجتمع ، وبين مطالبتي للنخبة العراقية وغيرها من النخب بترك التشاؤم الذي قلت انه يهدد بتفتيت "رأس المال الاجتماعي". فكيف انكر المسؤولية تجاه المجتمع ، ثم اطالب الاخرين بالتزامها؟.

الواقع ان تلك المناقشات أشارت لاحتمال ثالث ، غير المسؤولية تجاه المجتمع او انكارها ، فبعضها يقول – ضمنيا – ان دور الكاتب هو وصف وتوثيق الواقع الاجتماعي ، اي تحويله من سلسلة مشاهد مفككة في ساحة المجتمع ، الى مشهد واحد مترابط. في هذه الحالة لا يتعلق الامر بتشاؤم او تفاؤل ، بل هو أقرب الى ما يسمى "تلفزيون الواقع" ، من دون تمثيل طبعا.

يعرف طلاب العلوم الاجتماعية ان وسائل التواصل الجمعي كالصحافة ، التلفزيون ، الخطابة العامة ، ومنصات التواصل الاجتماعي ، هي الوسيلة الاقوى لتوصيل ، ومن ثم تعميم المشاعر والافكار والمواقف. وهذه هي الطريقة المعتادة لصناعة القضايا العامة ، اي تلك القضايا التي يهتم بها جمهور كبير من الناس. ومن هنا اكتسبت الصحافة اهميتها عند قادة المجتمع ورجال السياسة والاقتصاد وكل الفاعلين في المجال العام.

حسنا ، اذا رأى الكاتب مشهدا سيئا مثيرا للتشاؤم ، فهل يغض الطرف عنه ام يعيد تلوينه ، او يقتضي الصدق ان ينقله للجمهور كما رآه.

كان هذا واحدا من الاسئلة الهامة التي عالجها توماس كون في كتابه الشهير "بنية الثورات العلمية" وقد رأى ان نظرة الكاتب ، بل اي ناظر الى الواقع لا يمكن ان تكون محايدة او خالية من التوجيه المسبق: انت ترى ما يتوقعه عقلك ، وتفهمه وفقا للاطارات التي صنفها عقلك. ومن هنا فان مراقبتك للشيء ، ثم شرحه ، هو تفسير مستند الى خلفيتك الذهنية ، اي انه حكم على ذلك الشيء وليس مجرد وصف محايد.

هذه الرؤية جلبت على توماس كون نقدا كثيرا جدا ، لكن لو تأملتها جيدا فسوف تراها قريبة من منطق الامور: هل يمكن ان نفهم شيئا دون الاستناد الى قواعد مسبقة ، اليست هذه القواعد قيودا على الفهم الجديد؟ ، اي هل ننقل صورة الواقع كما هو ، ام ننقل تصورنا الخاص لذلك الواقع؟.

الخميس - 06 رَجب 1445 هـ - 18 يناير 2024 م 

https://aawsat.com/node/4796756/

مقالات ذات صلة

"اخبرني من اثق به..."

صناعة الكآبة

الفكــرة وزمن الفكـرة

التجديد المستحيل

 

 

11/01/2024

صناعة الكآبة

 

خصص الصديق الدكتور اياد العنبر مقاله الأسبوعي يوم الجمعة الماضي ، لتبرير المنحى التشاؤمي في أحاديثه ومقالاته. والدكتور العنبر متحدث قوي الحجة ، ومن الوجوه المرغوبة في قنوات التلفزيون العراقية ،  فوق انه أستاذ للعلوم السياسية.

أعلم طبعا ان دواعي التشاؤم كثيرة في محيطنا العربي. لكني أسأل نفسي دائما: متى كان وضع العرب مثاليا أو خاليا من دواعي التشاؤم؟. فهل نحول صحافتنا الى مجالس عزاء ، وهل نبكي عالمنا الحي كما نبكي الأموات. ما الذي ينفع الأحياء لو بكينا عالمهم او بكينا موتاهم ، ما هي  القيمة التي نضيفها كأصحاب رأي الى هذه الحياة لو ملأناها بالدموع؟.

د. اياد العنبر

لكن ثمة جانب لا يتعلق بالعاطفة او الموقف الشخصي من الحوادث ، اعني به التأثير الخطير للتشاؤم على التماسك الاجتماعي. وهذا الامر اكثر وضوحا في حال المجتمع العراقي ، الذي يخاطبه الدكتور اياد في المقام الأول.

تعرفت على هذا المجتمع منذ أيام الصبا. وطوال السنوات التالية تعرفت عليه اكثر ، على جمهوره العام والعديد من اهل العلم والكتاب والزعماء والسياسيين. ومع اختلاف هؤلاء في المشارب والتوجهات والمواقع ، فقد وجدت التشاؤم قاسما مشتركا فيما بينهم ، وسمة عامة للحديث في مجالسهم.

اعرف مبررات كثيرة ، تاريخية وسياسية ، تجعل الثقافة العامة للعراق على هذا النحو. لكن هل تساءل المثقفون والزعماء العراقيون عن النتائج التي يمكن أن يفضي اليها هذا التوجه؟.

في سبتمبر الماضي كتبت عن "راس المال الاجتماعي" واعيد التذكير بانه يشير الى مجموعة الأعراف والمفاهيم المشتركة بين أعضاء مجتمع معين ، والتي تشكل أرضية للتفاهم والتشارك فيما بينهم ، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار. ومن هنا فهي تمهد لفعل جمعي منسجم ، يجعل النظام الاجتماعي أكثر فاعلية وكفاءة.

دعنا الآن نتساءل: ما الذي يحصل في المجتمع حين تتلاشى مشاعر التفاؤل ويغدو متشائما ، هل يتعزز "راس المال الاجتماعي" ام يتلاشى. هل يزدهر العمل الجمعي لتحسين الحياة العامة ، ام يحصل العكس ، أي انصراف كل فرد الى التفكير في نفسه والبحث عن حلول لمشكلاته ، بل وحتى الهروب من واقعه الذي لا يستطيع تغييره بمفرده؟.

انظروا الى واقع العراق ، اليس هذا ما ترونه.. كل الناس يشكون من كل شي ، كلهم يتهمون قادتهم ونخبهم واهل الرأي فيهم ، يتهمونهم بالتسبب في كل ما حل بالعراق ، والنخب تتهم السياسيين ، وهؤلاء وأولئك يتهمون الناس بالسلبية وعدم القدرة على التعاون او الصبر او المشاركة في الحلول الخ.

أزعم ان صناع الثقافة في العراق ، في الماضي والحاضر ، قد شاركوا رجال السياسة في تفتيت "راس المال الاجتماعي" أي الأساس الضروري للثقة المتبادلة بين الناس ، الثقة الضرورية كي يفعلوا شيئا مفيدا لهم كأمة واحدة ، لا كأفراد او طوائف.

الكتابات والخطابات المتشائمة ، وتلك التي لا تحوي سوى التشكيك في كل شيء وكل شخص ، ملأت نفوس الناس بالريبة في أي شخص يتولى منصبا ، او يدعي القدرة على التغيير. وهذا سيعيق قطعا أي تفكير جاد في التغيير او محاولة للتغيير ، ولو في المستوى الأولي. فمن الذي سيضحي او يرهق نفسه وحياته ، اذا كان جزاؤه – أيا كان الحال – هو السخرية والتشكيك بل الاتهام بانه فاشل وعاجز ، او مجرد حرامي او متسلق او متسلط او ذيل للأجنبي؟. وهذه للمناسبة أوصاف شائعة في الساحة العراقية.

ان جوا كئيبا كهذا ، سيفضي – دون شك - الى افساد السياسة ، ثم القضاء على حرية التعبير ، وأخيرا تمهيد الطريق لبروز المغامرين الشعبويين ، الذين كفاءتهم الوحيدة هي اثارة العواطف والانفعالات ، أو اثارة الخوف من الآخر المختلف ، أي باختصار ، الأشخاص المراهنين على تفكيك المجتمع وتفتيته.

هل هذا ما يرغب فيه زعماء العراق ونخبته وصناع الرأي من أهله؟.

ان كانوا يرغبون في غير هذا ، فليكفوا عن نشر التشاؤم. هذا هو الوقت الذي يصح فيه تماما ، المثل الصيني: بدل ان تلعن الظلام اضيء شمعة.

الشرق الاوسط الخميس - 28 جمادي الآخر 1445 هـ - 11 يناير 2024 م

https://aawsat.com/node/4782126/

مقالات ذات صلة

رأس المال الاجتماعي

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

السيف لـ عكاظ: أدباء وعلماء الأمس منفصلون عن هذا الزمان

متشائمون في غمرة الوباء ، لكنني متفائل

لا تقتلوا أفكاركم الجديدة 

21/09/2023

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

 

جوهر المسألة التي حاولت ايضاحها في الأسبوعين الماضيين ، هو دور الثقافة العامة في تحفيز التقدم ، لا سيما على الجانب الاقتصادي.

نقصد بالثقافة هنا ما نسميه العقل الجمعي. ولكي لا نقع في خطأ التصور السلبي للعقل الجمعي ، يهمني الاشارة الى انه ليس صفة سيئة. انه اقرب الى معنى العرف العام ، اي مجموع القناعات والقيم والمفاهيم التي تحكم سلوك عامة الناس في مجتمع ما ، وتشكل الصورة العامة للمجتمع. فنقول ان هذا المجتمع بسيط او متحفظ ، وان المجتمع الثاني كريم او بخيل ، والثالث نشط وسريع الاستجابة.. الخ. هذه ليست صفات دقيقة لكل فرد في هذا المجتمع او ذاك ، لكنها المتوسط العام الناتج عن مجموعة صفات يتصف بها كل مجتمع.

داريوش شايغان (1935 - 2018)

أما المراد بالاقتصاد فهو دائرة المعيشة ، اي مصادر الانتاج ووسائله ، وقابليتها للتجدد والتطوير ، ومدى العدالة في توزيع ثمرات النشاط الاقتصادي القومي على افراد المجتمع. نعلم ان غالب المجتمعات العربية ، في وضع أقل من المطلوب. لأن المسافة بيننا وبين الدول الصناعية شاسعة جدا ، في مختلف المجالات ، في انتاج العلم والتقنية وفي مستوى المعيشة وجودة الحياة ، الى المساواة والعدالة والمشاركة في صناعة المستقبل.

هذا يقودنا الى العنصر الاول من عناصر الثقافة الداعمة للتقدم ، أعني به الحاجة لمثال نحتذي به كمعيار للتقدم المنشود. ان النموذج والمثال الواضح أمامنا اليوم هو المجتمعات الصناعية الغربية ، ومن سار على اثرها في الثقافة والتنظيم الاجتماعي. أريد التأكيد على هذا ، لأننا في امس الحاجة الى علاج ما اعتبره عقدة تفسد نفوسنا: وهي العقدة المتمثلة في اعلان الكراهية للغرب وادعاء العداوة له ، رغم ميلنا الصريح او الضمني لاحتذاء نموذج الحياة الغربية.

هذه العقدة لم تقم على ارضية الدين كما يتخيل كثيرون ، بل "استعملت" عباءة دينية لتبرير الانكماش على الذات والتفاخر بالذات في الوقت نفسه. ان الشتيمة الايديولوجية والشتيمة السياسية للغرب ، ليست سوى محاولة للموازنة بين الانكسار الذاتي الذي يحث على الانكماش ، وضغط الحاجات الملحة الذي يتطلب التواصل مع الغرب. وهذا هو مسلك "النفس المبتورة" حسب تعبير المفكر المعروف داريوش شايغان.

لن نستطيع الانضمام الى ركب منتجي العلم ، ولن نقيم اقتصادا قادرا على الصمود في وجه الأزمات ، الا اذا اجتهدنا في تنسيج اصول العلم والادارة الحديثة في ثقافتنا. وهذه الاصول عند الغرب وليست عندنا. وهي محملة بفلسفة تتعارض جديا مع الكثير من قناعاتنا واعرافنا الموروثة. فاذا بقينا على "وهم" ان تبني فلسفة الحياة الجديدة ، مشروط بتوافقها مع موروثنا الثقافي ، فلن نخرج أبدا من أسر التقاليد العتيقة التي عطلتنا ما يزيد عن 1000 عام. الحل الوحيد والضروري هو التخلي عن تلك الأوهام ، مهما كان الثمن.

اما العنصر الثاني فهو اعادة الاعتبار للعلم كقائد لقطار الحياة. أقول هذا مع علمي بان بعض الناس سيعترض قائلا: كيف نزيح الدين عن دفة القيادة ونسلمها للعلم؟. وجوابي لهم: ان الدين الذي يفهم كمزاحم للعلم او معارض له ، لا يصلح لقيادة الحياة ، ولا يمكن ان يكون دين الله ، بل هو نسخة اخرى من التقاليد الاجتماعية التي لبست عباءة الدين.

لا يتعارض الدين مع العلم ، ولا يحتل مكانه في ادارة الحياة وتسييرها. للدين مكان رفيع وللعلم مكان آخر ، ولا يمكن لأحدهما ان يحتل مكان الثاني. فان اردت ان تعرف من يقود الحياة ، فانظر في حياتك اليومية: كم نسبة الاعمال والسلوكيات والقرارات التي تتخذ بناء على معطيات العلم او في سياقه ، وكم يتخذ خارج هذا السياق.

الاقتصاد الحديث قائم على معطيات العلم الحديث ، فان اردنا النهوض ومسابقة الآخرين في هذا المجال ، فليس ثمة طريق سوى تمكين العلم من مقعد القيادة ، اي الاعتماد على معطياته في كل جانب من حياتنا دون استثناء. واعني هنا الحياة العامة ، لا الشخصية.

ولنا عودة للموضوع في القريب ان شاء الله.

الشرق الاوسط الخميس - 07 ربيع الأول 1445 هـ - 21 سبتمبر 2023 م     https://aawsat.com/node/4559076

مقالات ذات صلة

تأملات في حدود الديني والعرفي   
تبجيل العلم مجرد دعوى

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

الثقافة المعوقة للنهضة

 حول تطوير الفهم الديني للعالم

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

داريوش الذي مضى

عجلة التنمية المتعثرة

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة
نفوسنا المنقسمة بين عصرين
 حول تطوير الفهم الديني للعالم

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟

اليوم التالي لزوال الغرب

14/09/2023

الواسطة ، راس مال اجتماعي

احتمل ان بعض القراء قد سمع عبارة "فيتامين واو" التي يتداولها الناس أحيانا في العراق والخليج. وهم يعرفون بالتأكيد ان "الواو" هنا تشير للواسطة. وقد سمعتها اول مرة في الكويت حوالي العام 1978 ، حين تحدث زميل لي مع احد الوجهاء ، طالبا شفاعته كي ينجح في اختبار قيادة السيارة ، وكان يومها شديد العسر. وحين سمع الزميل موافقة الطرف الثاني ، قال ضاحكا "فيتامين واو حلال المشكلات". وعلمت فيما بعد ان معظم الناجحين جاؤوا مع ذلك الفيتامين القوي.  

وتعرفت في بداية القرن الجديد على رئيس بلدية مشهور عندنا ، كان يتباهى بعبارة "اشفع تُشفَّع" التي تدعو – دون مداورة - الى اعتماد الواسطة اذا اغلقت الأبواب. ورأى صمويل هنتينجتون في مقالة مثيرة للجدل ، ان الواسطة (الرشوة بين قوسين) قد تكون علاجا محتملا اذا تخشبت القوانين ، فباتت سدا يعيق الاستثمار الضروري لتوليد الوظائف وتحسين مستوى المعيشة.

لكنا جميعا نعلم ان الواسطة ليست بالخيار الأمثل ، حتى لو لجأنا اليه أحيانا. ذلك انها تؤدي لاستئثار فئة من الناس بما هو حق للجميع. اي تقريب جماعة واقصاء بقية الخلق.

-         حسنا دعنا من هذا الكلام الخطابي. فكل الناس يعرفونه. ولنذهب الى مسألة مفيدة ، تندرج في سؤالين ، اولهما: ماهو جوهر "الواسطة" ولماذا هي مفيدة اكثر من غيرها؟. والثاني: اذا كانت فعالة ومفيدة ، فهل يمكن تعميمها ، اي تحويلها من امتياز لفئة خاصة إلى امتياز لجميع الناس؟.

"الواسطة" هي الثمرة الرئيسية للاشتراك مع جمع محدد من الناس ، في منظومة قيم أو معايير ، تولد خيطا من التعاطف والثقة المتبادلة فيما بينهم ، بحيث يشعر كل منهم ان بوسعه الاعتماد على دعم الآخر واسناده.

ربما تنشأ هذه العلاقة عن الانتماء المشترك الى قبيلة واحدة ، او قرية او مذهب او حزب ، او حتى الصداقة التي تولدت خلال سنوات المدرسة او العمل. لكن هذا القدر من الثقة المتبادلة يفيد اقلية من الناس فحسب وقد يؤدي – كما اسلفت – لاستئثار جماعة صغيرة بما هو حق للجميع.

السؤال الذي طالما راود الباحثين في علم الاجتماع ، هو: هل يمكن تحويل منظومة القيم والمعايير تلك ، الى أساس للعلاقة بين جميع أهل البلد؟. بعبارة أخرى: هل يمكن تصميم منظومة قيم ، او تطوير المنظومة القائمة ، بحيث تستوعب كافة الناس... وتبعا لهذا ، هل يمكن لكافة الناس في بلد معين ان يتمتعوا بما يشبه الواسطة في علاقاتهم واعمالهم ، بحيث يعاملهم موظف البنك والشركة والدائرة الحكومية ، كما يعامل أهله واصدقاءه؟.

وجهت هذا السؤال لعدة اصدقاء هذا الاسبوع. فوجدتهم متشككين في امكانية توسيع "دائرة الثقة" خارج حدود التعارف الشخصي. وقال احدهم ان قلة الشركات الكبرى في بلدنا ، سببها ضيق دائرة الثقة واقتصارها على المعارف. لكني تذكرت على الفور مثالا جيدا ، هو الشركات المساهمة ، التي شارك فيها آلاف الاشخاص مع انهم لا يعرفون بعضهم ولا يعرفون مؤسسي الشركة ولا مديريها. بعبارة أخرى ، فقد توفرت لديهم الثقة الكافية ليضعوا اموالهم بيد اشخاص لا يعرفونهم. اليس هذا مثال جيد؟.

هنا يظهر دور الثقافة. اي القناعة التي تولدت في أذهان هؤلاء الناس ، بأن القانون يمكن ان يضمن اموالهم ، وانهم لا يعطون اموالهم الى شخص بعينه ، بل الى نظام عمل ، اذا نجح فالكل رابح واذا فشل فالكل خسران ، بمن فيهم المدير والمؤسس. هذه الثقافة تقود الانسان من الثقة بالأشخاص الى الثقة بالنظام الذي يخضع له الجميع.

"دائرة الثقة Radius of Trust" تتناول في المقام الاول التعويل على القيم الموضوعية (مثل القانون) بدل الشخصية ، والاقتناع بأن عامة الناس حريصون على حقوق بعضهم بعضا ، ولذلك يمكن ان تأتمنهم وتطمئن الى عقلانيتهم. هذه كلها عناصر ثقافية يمكن غرسها في أذهان الناس كما يمكن انتزاعها منهم.

الشرق الاوسط الخميس - 29 صفَر 1445 هـ - 14 سبتمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4545201/

مقالات ذات صلة

أم عمرو وحمار أم عمرو

بيروقراطية مقلوبة

البيروقراطية والإدارة

حتى لا تكون الادارة الحكومية عش دبابير

حول التفسخ السياسي

الخطوة الأولى لمكافحة الفساد.. تيسير القانون وتحكيمه

خطوط الانكسار

رأس المال الاجتماعي

رأي الجمهور

سلطة المدير

عسر القانون كمدخل للفساد الإداري

 العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

فضح العيوب واستنهاض المجتمع

قليل من صور الفساد

 فاتورة الوزير

كي لا يمسي الخيال دليلا في السياسة

كي نقتلع شبكات الفساد

من أبواب الفساد

07/09/2023

رأس المال الاجتماعي

استعرت عنوان هذه الكتابة من المفكر الامريكي المعروف فرانسيس فوكوياما ، وهو مساهمته في الكتاب المعنون "الثقافات وقيم التقدم" الذي حرره صمويل هنتنجتون ولورنس هاريزون. ويدور حول العلاقة الجدلية بين الثقافة والاقتصاد.

من المسلمات الشائعة في نظرية التحديث (وكذا في نظرية التنمية الكلاسيكية) ان الحراك الاقتصادي يؤدي – قطعا - لتحولات ثقافية. اقول انها مسلمة شائعة ، لأني اقبلها من جهة ، واتحفظ على تفاصيلها من جهة اخرى. وقد شرحت هذا بقدر من التفصيل في دراسة سابقة. لكن هذا التحفظ لا يقلل أبدا من قيمة الحجج التي بنيت عليها تلك النظرية.

د. فرنسيس فوكوياما

على ان هذا ليس موضوعنا اليوم. فغرضي هو الاشارة للاتجاه المعاكس ، اي تفصيح السؤال الهام: هل يمكن للثقافة ان تغير الاقتصاد ، كما ان الاقتصاد يغير الثقافة؟.

حسنا..

لماذا نعتبر هذا السؤال هاما؟.

من البديهيات ان الأمم تبجل ثقافاتها ، وتعتبرها جزء اساسيا من عناصر تمايزها وافتخارها على الأمم الأخرى. لو قرأت ايا من أعمال المفكر الهندي أمارتيا سن ، فقد تلاحظ انه يعتبر الثقافة الهندية موطن الحكمة في تاريخ العالم. ويعتبر العرب انفسهم أعلى الأمم كعبا ، ولغتهم اوسع اللغات وأغناها. وهكذا يفعل المنتمون الى سائر الثقافات.

لكن هذه الثقافة التي نفخر بها ، قد تكون هي بالذات معيقة للتقدم او مثبطة ، أو تكون – على العكس من ذلك - محركا للتقدم ، إذا عززت حس المغامرة والاكتشاف والمسؤولية والتعاون.

وقد تحدث العديد من الكتاب عن هذا الموضوع. ونشير مثلا الى مقدمة ابن خلدون ، الذي كتب عن العرب والأقوام التي عرف بها او سمع عنها. لكن أبرز من طرحه للتحليل العلمي ، هو – على حد علمي - ماكس فيبر في كتابه "الاخلاق البروتستنتية وروح الراسمالية". قدم فيبر مقاربة تجريبية – تفسيرية ، تقارن بين الحراك الاقتصادي في مجتمعين ، حيث توصل الى ان العقيدة البروتستنتية ، ولا سيما في نسختها التي تنسب للراهب الاصلاحي جون كالفن ، وفرت منظومة مؤثرة من القيم والمعايير المحفزة للنشاط الاقتصادي الإبداعي ، في مقابل الكاثوليكية التي مالت لاحتقار العمل الدنيوي ، وتمجيد العمل الذي يعد الانسان لحياته في العالم الآخر ، بعد ان يموت.

واجهت طروحات فيبر معارضات شديدة ، لا سيما بسبب ما قيل عن انطلاقها من الايمان بالمركزية الأوروبية. لكنها – رغم ذلك - شكلت بداية قوية لدراسة العلاقة بين قوة الاقتصاد في بلد ما وبين تكوين العقل الجمعي لسكانه.

-         حسنا... ماذا عنا؟.

-         هل نستطيع الجزم بان الثقافة السائدة في مجتمعنا محفزة للتقدم او العكس؟.

اعتقد ان هذا من نوع الأسئلة الخاطئة التي ربما تفتح الباب امام نقاشات غير مفيدة. ذلك ان كل ثقافة تحوي عناصر من هذا النوع ، وعناصر مضادة. واذا قلت – مثلا – ان الثقافة الفلانية مثبطة او معيقة ، فربما تبعد الأنظار عن الأجزاء الإيجابية فيها ، وتستثير شعورا دفاعيا او تبريريا بين اتباعها ، بدل النقاش الواقعي الذي يستهدف تحليل المشكلة وكشف اطرافها.

هنا نأتي الى اخينا "فوكوياما" الذي اهتم بتلك الأجزاء فحسب ، وهو ما اطلق عليه "راس المال الاجتماعي" وهو مجموع القيم والمفاهيم والمعايير التي تشكل ثوابت في الثقافة العامة لبلد ما ، أي نواظم ومحددات ما اسميناه "العقل الجمعي". هذه ثوابت يشترك فيها كافة أهل البلد ، وتمثل أساسا للتفاهم والتشارك فيما بينهم ، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار ، ومن هنا فهي تخلق نوعا من الفعل الجمعي المنسجم ، الذي يمكن النظام الاجتماعي من العمل بكفاءة اكبر.

كل واحدة من القيم والمعايير والمفاهيم المؤثرة في تكوين الكتلة الاقتصادية ، او التعاون في الاعمال ،  تشكل موضوعا للنقاش ، وتحديد دورها ، سلبيا كان او إيجابيا ، هو الذي يعيننا على تحديد موقع ثقافتنا العامة ، ضمن جبهة التقدم او العكس. ولنا عودة للموضوع في قادم الأيام.

الخميس - 22 صفَر 1445 هـ - 7 سبتمبر 2023 م   https://aawsat.com/node/4531371/

 مقالات ذات علاقة

الثقافة المعوقة للنهضة

حول برنامج التحول الوطني

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عجلة التنمية المتعثرة

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

 العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

كي نتحول الى دولة صناعية

المجتمع السري

معالجة الفقر على الطريقة الصينية

نحو نماذج محلية للتنمية

النموذج الصيني في التنمية

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟



رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...