هذا ماتبقى في ذاكرتي من رواية اشتريتها قبل أربعة عقود ، من رجل عجوز اقام بسطة على قارعة الطريق ، يبيع فيها كتبا ودفاتر ومجلات قديمة ، أسعارها تترواح بين 10 فلوس و100 فلس. وبينها هذه الرواية التي نزع غلافها وعدد من صفحاتها الاولى ، فلم اعرف اسمها ولا اسم مؤلفها ، وانما جذبني سعرها الزهيد قياسا بضخامة حجمها ، فقد دفعت يومها نصف درهم ، اي 25 فلسا ، عدا ونقدا ، وهي تعادل ربع ريال سعودي ، يوم كان الدينار العراقي دينارا.
تحكي
الرواية قصة سفينة غرقت ونجى نحو الف من ركابها ، ولاذوا بجزيرة مهجورة وسط
المحيط. وقد خصص الرواي نحو 200 صفحة لشرح علاقة الناجين ببعضهم بعد وصولهم
الجزيرة ، وكيف انقسموا الى اغلبية تريد ان تنظم حياتها معا ، واقلية يريد كل فرد
فيها النجاة بنفسه. ثم تحولت الأكثرية الى قرية منظمة تدير حياة طبيعية ، تزرع
وتبني ويجتمع أهلها في المقهى والكنيسة ، ويتزاوجون ويحتفلون في المناسبات ، بينما
بقي أعضاء الأقلية متشككين ، غير واثقين في مايجري ، خائفين من ان يتعرضوا
للاستغلال ، فاختاروا العيش منفردين في نقطة قصية ، يراقبون الساحل املا في سفينة
تنقذهم يوما ما.
لقد
نسيت الآن معظم تلك الرواية عدا قصة نزولهم الجزيرة ، وإعادة تنظيم المجتمع
الجديد. وللحق فاني لم ادرك مغزى تفاصيلها الكثيرة المملة ، الا يوم بدات دراسة
العلوم السياسية ، ولاسيما حين وصلت الى الجدالات التي أعقبت نشر كتاب "لفياثان"
او الغول لتوماس هوبز ، المفكر الإنجليزي ، الذي حاول فيه شرح سيناريو تحول الحشد
العادي الى مجتمع فيه سلطة سياسية وقانون.
اني
اميل للاعتقاد بأن المحرك الرئيس لتلك المجادلات ، هو تحفظ هوبز في الإقرار بخيرية
الانسان وميله الفطري للتعاون والتكافل ، على النحو الذي فعله غالبية الناجين من
ركاب السفينة. قدم هوبز مفهوما مزدوجا ، يؤكد في جانب منه على ان الانسان اقرب
للشر منه للخير ، فلو اجتمع عدد كبير من الناس لكانوا أميل للتنازع ، الامر الذي
يؤدي لما أسماه "حرب الجميع على الجميع". بينما يؤكد في الجانب الثاني
على ان الانسان عقلاني ، برغم فساد فطرته. عقلاني بمعنى انه يجيد حساب العواقب وما
يترتب على قراراته وافعاله. وهذه العقلانية أوصلت ذلك الحشد المتنازع ، الى ان
مصلحة كل منهم تقتضي إقامة سلطة فوقهم ، تلزم الجميع بالسلام والتسالم ، وهذا أساس
فكرة الدولة.
تعتمد
الفلسفة السياسية المعاصرة نظرية معاكسة ، أساسها ان البشر بطبعهم ميالون للخير ،
فلو اجتمعوا لتفاهموا وتعاونوا ونظموا حياتهم بما يفيد غالبيتهم. لكن يبدو ان
المجتمعات الشرقية لازالت تميل لرؤية هوبز المتحفظة. اني افهم هذا من رغبة الناس
في العقوبات المشددة كوسيلة للحكم ، وانكار غالبيتهم للتفاوض والمساومة والحلول
الوسط للمشكلات السياسية ، بل وارتيابهم في الذين يستعملون هذا الأسلوب او يدعون
اليه. هذا يعني انهم يؤمنون بان خوف العقاب هو الذي يدفع الناس للتسالم وليس كونهم
خيرين بالفطرة.
سوف
اشرح في وقت آخر علاقة هذا الميل بفكرة العدالة ، ومدى رسوخها في ثقافتنا. لكني
اردت اختتام هذه المقالة بدعوة القاريء العزيز لمساءلة نفسه: هل يرى البشر (وهو
واحد منهم) اقرب للشر والتنازع ، بما يستوجب قسرهم على التسالم ، ام يراهم مجبولين
على الخير والتكافل وتنظيم حياتهم معا؟.
الأربعاء - 6 ذو القعدة 1442 هـ - 16 يونيو 2021
مـ رقم العدد
[15541]
https://aawsat.com/node/3029386/
مقالات
ذات صلة
القانون للصالحين من عباد الله
يسروا القانون كي
تكسبوا طاعة الناس
الغول
الازمان الفاسدة والناس الفاسدون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق