30/06/2021

المساواة اولا .. المساواة دائما

لطالما وجدت نفسي حاملا السلم بالعرض ، كما يقول اشقاؤنا في الشام. ولم اقصد هذا في اي حال. لكن بعض الاراء تورد الانسان هذا المورد ، برضاه او مجبرا. انها قضايا صغيرة ، تثير نقاشات عميقة متشعبة ، وقد تعلمت الكثير من متابعتها والتأمل في خلفياتها ، وأظن ان غيري قد استفاد منها ايضا.

ومن هذا القبيل نقاش العدالة والمساواة ، الذي عرضت له في مقال الاسبوع الماضي. فقد اعترض بعض القراء ، وبينهم اشخاص في مقام اساتذتي ، على تأكيدي المكرر على مبدأ المساواة. وهم يرون ان الاصل ليس التسوية بين الناس ، لأن الناس غير متساوين في الاساس. البديل بحسب هؤلاء الاعزاء هو مبدأ العدالة ، الذي يعني – عندهم - إعطاء كل شخص ما يستحقه ، ومراعاة الفروق الفردية ، حتى لو ادى ذلك الى تمييز واسع النطاق بين الناس.

انني مهتم بهذا النقاش لسبب بسيط ، وهو ان شريحة واسعة من القراء ، استراحت الى مقولة ان العدل يقتضي التمييز احيانا. وهذا مبدأ صحيح ، لكنه استخدم في المكان الخطأ. بيان ذلك ان أصل النقاش يرجع لخلاف حول التكافؤ الطبيعي. فهناك من قال بان الناس يولدون متكافئين في القيمة والقابليات ، وانما يتفاوتون لاحقا ، بحسب البيئة والتربية والاجتهاد الشخصي. وهناك من قال بان بعض الناس يولدون بدم انقى من الاخرين ، فمكانهم الاجتماعي ، على الدوام ، اعلى من غيرهم. وهذا أصل المسألة الفقهية المعروفة بتكافؤ النسب ، وتفضيل الأبيض على الاسود والرجل على المرأة ، وتفضيل العربي  والهاشمي على غيرهم الخ.

اما النقاش في معنى العدالة ، فقد اتخذ مسارات ثلاثة:

الاول: يقول بان العدل هو معاملة المتساوين بالسوية والتمييز بين المختلفين. مثلا: المساواة بين كافة الرجال الاحرار العاديين. والتمييز بينهم وبين الرجال العلماء ، والرجال العبيد ، والتمييز بينهم وبين النساء.. وهكذا.  وهذا الراي هو السائد في المدارس الدينية ، الاسلامية والكاثوليكية.

الثاني: يقول بان السوق منظم عادل للحياة: يولد الناس متساوين ، ويجب ان يضمن المجتمع حصول الجميع على فرص متساوية (المساواة في البداية). اما مايحصل لاحقا ، فان كفاحهم وظروف السوق والحياة هي التي تقرر من يحصل على ماذا. وهذا راي التيار المعروف بالليبرتاري.

الثالث: يقول بان المساواة هي التمثيل الأولي للعدالة. فاذا اقتضى الامر تمييزا ، فيجب ان يكون لصالح الاقل حظا حتى يتساوى مع الاخرين.

انني لا اخفي ميلي القوي الى الاتجاه الثالث ، والى التيار الذي يتبناه ، وهو المعروف بالمجتمعية/المساواتية الذي ينسب للفيلسوف المعاصر جون رولز. ومما شدني اليه ، انطلاقه من مبدأ العقد الاجتماعي وايمانه بخيرية البشر وقدرتهم على ادراك الحق والخير ، اضافة لتشديده على مبدأ الحرية ، وكونها الاساس الاول والركن الركين للعدالة الاجتماعية.

ان احدى السمات المهمة في المساواة – وفق تصوير ايزايا برلين – هي انها أصل وقاعدة معيارية. لو ساويت بين الناس فلن تحتاج لتبرير ، لانها هي الاصل. لكن لو اعطيت احدا اكثر من غيره ، فلا بد من تبرير لهذا الاستثناء.

وما دمت قد ذكرت برلين ، فلعلي أختم به ، فرغم قوله بأن المساواة هي الاصل ، الا ان طبيعة الحياة تقتضي تطبيق اكثر من مبدأ وقيمة كي تكون اكثر لينا ، اي ان ترجح هذه هنا وترجح تلك في الموضع الآخر. لكن يجب ان لا  ينتهي هذا ابدا الى تهميش القواعد الاساسية ، فنتحول من المساواة الى التمييز او من الحرية الى الاستبداد.

الشرق الاوسط الأربعاء - 20 ذو القعدة 1442 هـ - 30 يونيو 2021 مـ رقم العدد [15555]

https://aawsat.com/node/3054056/

مقالات ذات صلة

"شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...