‏إظهار الرسائل ذات التسميات ماكس فيبر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ماكس فيبر. إظهار كافة الرسائل

20/06/2024

الثقافة كصنعة حكومية

الحكومات هي الجهة الاقدر على تغيير ثقافة المجتمع. هناك بطبيعة الحال جهات اخرى قادرة على احداث تغيير بقدر ما (من سينما هوليوود حتى متاجر علي بابا). لكن لا احد يباري الحكومة في قدرتها على انجاز هذه المهمة. وأذكر لهذه المناسبة رؤية المفكر الامريكي بنديكت اندرسون ، التي أقامت أساسا متينا لدراسة مفهوم الهوية الوطنية والدولة القومية. رأى اندرسون ان تكوين هوية الامة او الجماعة الوطنية ، يبدأ باستعراض انتقائي للتجربة التاريخية ، وتحديد الفقرات التي ستشكل "التاريخ الرسمي للبلد" والذي سيكون – في نهاية المطاف – المرجع الرئيس للهوية الوطنية.

لو نظرنا الى واقع الحياة ، فسوف نرى ان غالبية الناس ، يعرفون انفسهم من خلال الأوصاف التي اخبرهم بها أشخاص آخرون. خذ مثلا معرفتك بآبائك وأجدادك ، كيف توصلت اليها.. اليس بالمعلومات التي سمعتها من أبيك او جيرانك. حسنا ، ماذا لو كانت هذه المعلومات مضخمة او مبتسرة او نصف حقيقية ، او هي معلومات مختلطة بالأماني والعواطف ، فهل ستعرف ذلك التاريخ على حقيقته؟.

إذا كنت تدعي لنفسك هوية عائلية او قبلية او تجربة تاريخية من أي نوع ، فاعلم انها ليست سوى روايات الآخرين ، التي قد تكون دقيقة محققة ، وقد تكون مجرد "سوالف" ، هذا ما أسماه اندرسون "جماعة متخيلة" اي هوية متخيلة. وهو وصف ينطبق على كل الجماعات والطوائف والامم ، بلا استثناء ، حسب اعتقادي.

تحدث أندرسون ايضا عن دور الطباعة ، اي الكتب والصحافة المطبوعة ، التي انتجت ما يمكن وصفة بثقافة معيارية مشتركة ، كما ساهمت في توحيد لغة الخطاب ، اي ما يقال وما لا يقال في المجال العام. وهذا هو الاساس الأولي لما نسميه "العرف العام". لا ننسى أيضا دور التعليم الرسمي والمنابر العامة الاجتماعية ، التي ساهمت بشكل فعال في رسم صورة موحدة عن الذات الجمعية ، مستندة الى تاريخ انتقائي او فهم محدد لما جرى في ذلك التاريخ.

لا شك اذن في قدرة الحكومة على صياغة الثقافة العامة وتوجيهها ، لأنها تملك كافة الأدوات اللازمة لهذه المهمة. وقد أشرت سابقا الى ان كافة الحكومات قد استثمرت هذه الامكانية ولم تفرط فيها.

لكن السؤال الذي ربما يراود بعض الناس: إلى اي حد ينبغي للحكومة ان تستثمر هذه القدرة... هل يصح للدولة ان تتحول الى صانع لثقافة المجتمع ، ام تكتفي بارساء الارضية اللازمة للمصلحة العامة او النظام العام؟.

توصلت في دراسات سابقة إلى ان الطبقة الوسطى في المجتمعات التقليدية ، ترغب اجمالا بتبني الحكومة لدور صانع الثقافة العامة ، بل وما هو أبعد من ذلك. اما في المجتمعات الصناعية ، فان الطبقة الوسطى تميل بقوة الى تقليص دور الحكومة في هذا المجال ، واقتصاره على دعم الهيئات الاهلية النشطة في المجال الثقافي. يرجع هذا التمايز الى الدور التحديثي للدولة ، وفق رؤية ماكس فيبر ، ابرز آباء علم الاجتماع الحديث. ففي المجتمع التقليدي تلعب الادارة الحكومية دورا محوريا في عقلنة العرف العام وغربلة التقاليد ، وصولا الى جعل الحياة العامة مرنة ومستجيبة لتيارات التحديث. وهذا هو بالضبط الدور الذي تريده الطبقة الوسطى. اما في المجتمعات الصناعية فان مهمة التحديث منجزة فعليا ، وان الخيارات الثقافية تصنف ضمن المجال الشخصي ، حيث تتجلى الحرية الفردية في أوسع نطاقاتها ، الحرية التي لا يريد الانسان الحديث ان تتقلص او تمسي عرضة للاختراق ، من أي طرف كان.

أميل للاعتقاد بأنه خير للدولة ان تقتصر على التخطيط لأهداف العمل الثقافي الوطني ودعمه ، من دون التدخل في تفاصيله. ربما يقول بعضنا ان المجتمع لن يفعل شيئا ما لم تبادر الحكومة اليه. وهذا امر محتمل جدا. لكني أظنه نتيجة لنوع من التوافق السلبي على هذه المعادلة ، اي ان الحكومة تملك كل شيء فعليها ان تفعل كل شيء. ولو بدأنا في تغيير هذه المعادلة ، فربما يتغير الحال ، ولو بعد حين.

الشرق الاوسط الخميس - 14 ذو الحِجّة 1445 هـ - 20 يونيو 2024 م https://aawsat.com/node/5032468

 مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

بين هويتين

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول أزمة الهوية

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

مسيرة الهويات القاتلة

الهوية المتأزمة

 

07/09/2023

رأس المال الاجتماعي

استعرت عنوان هذه الكتابة من المفكر الامريكي المعروف فرانسيس فوكوياما ، وهو مساهمته في الكتاب المعنون "الثقافات وقيم التقدم" الذي حرره صمويل هنتنجتون ولورنس هاريزون. ويدور حول العلاقة الجدلية بين الثقافة والاقتصاد.

من المسلمات الشائعة في نظرية التحديث (وكذا في نظرية التنمية الكلاسيكية) ان الحراك الاقتصادي يؤدي – قطعا - لتحولات ثقافية. اقول انها مسلمة شائعة ، لأني اقبلها من جهة ، واتحفظ على تفاصيلها من جهة اخرى. وقد شرحت هذا بقدر من التفصيل في دراسة سابقة. لكن هذا التحفظ لا يقلل أبدا من قيمة الحجج التي بنيت عليها تلك النظرية.

د. فرنسيس فوكوياما

على ان هذا ليس موضوعنا اليوم. فغرضي هو الاشارة للاتجاه المعاكس ، اي تفصيح السؤال الهام: هل يمكن للثقافة ان تغير الاقتصاد ، كما ان الاقتصاد يغير الثقافة؟.

حسنا..

لماذا نعتبر هذا السؤال هاما؟.

من البديهيات ان الأمم تبجل ثقافاتها ، وتعتبرها جزء اساسيا من عناصر تمايزها وافتخارها على الأمم الأخرى. لو قرأت ايا من أعمال المفكر الهندي أمارتيا سن ، فقد تلاحظ انه يعتبر الثقافة الهندية موطن الحكمة في تاريخ العالم. ويعتبر العرب انفسهم أعلى الأمم كعبا ، ولغتهم اوسع اللغات وأغناها. وهكذا يفعل المنتمون الى سائر الثقافات.

لكن هذه الثقافة التي نفخر بها ، قد تكون هي بالذات معيقة للتقدم او مثبطة ، أو تكون – على العكس من ذلك - محركا للتقدم ، إذا عززت حس المغامرة والاكتشاف والمسؤولية والتعاون.

وقد تحدث العديد من الكتاب عن هذا الموضوع. ونشير مثلا الى مقدمة ابن خلدون ، الذي كتب عن العرب والأقوام التي عرف بها او سمع عنها. لكن أبرز من طرحه للتحليل العلمي ، هو – على حد علمي - ماكس فيبر في كتابه "الاخلاق البروتستنتية وروح الراسمالية". قدم فيبر مقاربة تجريبية – تفسيرية ، تقارن بين الحراك الاقتصادي في مجتمعين ، حيث توصل الى ان العقيدة البروتستنتية ، ولا سيما في نسختها التي تنسب للراهب الاصلاحي جون كالفن ، وفرت منظومة مؤثرة من القيم والمعايير المحفزة للنشاط الاقتصادي الإبداعي ، في مقابل الكاثوليكية التي مالت لاحتقار العمل الدنيوي ، وتمجيد العمل الذي يعد الانسان لحياته في العالم الآخر ، بعد ان يموت.

واجهت طروحات فيبر معارضات شديدة ، لا سيما بسبب ما قيل عن انطلاقها من الايمان بالمركزية الأوروبية. لكنها – رغم ذلك - شكلت بداية قوية لدراسة العلاقة بين قوة الاقتصاد في بلد ما وبين تكوين العقل الجمعي لسكانه.

-         حسنا... ماذا عنا؟.

-         هل نستطيع الجزم بان الثقافة السائدة في مجتمعنا محفزة للتقدم او العكس؟.

اعتقد ان هذا من نوع الأسئلة الخاطئة التي ربما تفتح الباب امام نقاشات غير مفيدة. ذلك ان كل ثقافة تحوي عناصر من هذا النوع ، وعناصر مضادة. واذا قلت – مثلا – ان الثقافة الفلانية مثبطة او معيقة ، فربما تبعد الأنظار عن الأجزاء الإيجابية فيها ، وتستثير شعورا دفاعيا او تبريريا بين اتباعها ، بدل النقاش الواقعي الذي يستهدف تحليل المشكلة وكشف اطرافها.

هنا نأتي الى اخينا "فوكوياما" الذي اهتم بتلك الأجزاء فحسب ، وهو ما اطلق عليه "راس المال الاجتماعي" وهو مجموع القيم والمفاهيم والمعايير التي تشكل ثوابت في الثقافة العامة لبلد ما ، أي نواظم ومحددات ما اسميناه "العقل الجمعي". هذه ثوابت يشترك فيها كافة أهل البلد ، وتمثل أساسا للتفاهم والتشارك فيما بينهم ، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار ، ومن هنا فهي تخلق نوعا من الفعل الجمعي المنسجم ، الذي يمكن النظام الاجتماعي من العمل بكفاءة اكبر.

كل واحدة من القيم والمعايير والمفاهيم المؤثرة في تكوين الكتلة الاقتصادية ، او التعاون في الاعمال ،  تشكل موضوعا للنقاش ، وتحديد دورها ، سلبيا كان او إيجابيا ، هو الذي يعيننا على تحديد موقع ثقافتنا العامة ، ضمن جبهة التقدم او العكس. ولنا عودة للموضوع في قادم الأيام.

الخميس - 22 صفَر 1445 هـ - 7 سبتمبر 2023 م   https://aawsat.com/node/4531371/

 مقالات ذات علاقة

الثقافة المعوقة للنهضة

حول برنامج التحول الوطني

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عجلة التنمية المتعثرة

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

 العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

كي نتحول الى دولة صناعية

المجتمع السري

معالجة الفقر على الطريقة الصينية

نحو نماذج محلية للتنمية

النموذج الصيني في التنمية

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟



08/12/2021

نموذج لشرعية سياسية وسيطة

 

كان في ذهني حين كتبت مقالة الاسبوع الماضي ، ثلاث دول عربية ، افترضت انها جاهزة لاعادة تعريف مصادر الشرعية السياسية ، بالرجوع الى النموذج العقلاني - القانوني. هذه الدول هي العراق وليبيا وتونس.

د. جاسر الحربش

لكن استاذنا الدكتور جاسر الحربش ، وهو طبيب وكاتب رأي معروف في المملكة ، لفت انتباهي الى ان الصين وروسيا ، لا تزالان في حال تردد بين دائرتي الشرعية العقلانية/القانونية ونظيرتها التقليدية/الايديولوجية. تتمتع هاتان الدولتان باستقرار سياسي ونمو اقتصادي منضبط ، وبالتالي فهما اكثر استعدادا لتبني نموذج الشرعية العقلانية – القانونية الصافية. هكذا يفترض علماء السياسة. لكن واقع الحال يخبرنا ان غالبية الصينيين والروس ، صوتوا لصالح الزعماء الحاليين ، الذين يمثلون امتدادا للحقب السابقة بمحمولها الايديولوجي وتقاليدها. ويبدو ان في العالم العديد من النماذج المماثلة ، حتى في دول متقدمة أو شبه صناعية.

قد يشير هذا الى ميل عميق في التكوين الثقافي - النفسي للجماعات ، لم يخضع بقدر كاف للبحث والتحليل. سوف أسميه بالشرعية الوسيطة ، وهي مركب يجمع طرفا من المصدر التقليدي للشرعية السياسية ، مع مستوى متوسط من الانجاز الاقتصادي-السياسي.

من المفهوم ان حكومة الرئيس "شي جين بينغ" في الصين ، تتكيء على جدار متين من الانجازات الاقتصادية ، فضلا عن الاستقرار السياسي والأمني والمكانة الدولية. ومثلها حكومة الرئيس "فلاديمير بوتين" في روسيا ، الذي نجح ، الى حد ما ، في استعادة المكانة الدولية التي تمتعت بها موسكو ، قبل تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991.

هذا القدر من الانجاز ، يضاف الى عرف راسخ في الثقافات التقليدية ، يحبذ الاستمرارية والتواصل ويعرض عن التغيير ، ولاسيما التغيير الذي ينطوي على مغامرة او مفارقة صريحة للأعراف التاريخية. ان اهتمام الحكومتين بالتاريخ الوطني والرموز الثقافية ، يستهدف بشكل مباشر ومقصود ، تسليط الضوء على القيادة الحالية ، بوصفها وريثة امجاد الماضي المتخيلة ، القابضة أيضا على مكاسب العصر ومنجزاته.

 بعبارة أخرى فان النخبة السياسية في روسيا والصين ، تقدم مثالا ناجحا عن امكانية الجمع بين نموذج تقليدي محوره الاتصال بالماضي المجيد ، وانتقالي محوره الانجاز المادي الفعلي. أود أيضا اضافة المصدر القانوني الذي يتجلى في الدستور والانتخابات الدورية ، رغم ما يشوبهما من اشكالات.

اظن ان رؤية الدكتور جاسر صحيحة تماما ، في ان توليفا بين المصدرين: التقليدي والقانوني – العقلاني ، يمكن ان يشكل احتمالا مناسبا في الدول التي تمر بظرف انتقالي ، او تلك التي لا تملك ارثا ثقافيا يدعم النموذج الحديث للسلطة والسياسة.

وبالنسبة للدول العربية التي تعيش أزمات وجودية ، فان نموذجا مثل هذا او قريبا منه ، يمكن ان يشكل بديلا عن الفوضى الشاملة ، التي ربما يؤول اليها تحول ديمقراطي غير مؤسس على ثقافة عامة مساعدة ، كما هو الحال في ليبيا ،  كما انه بديل أسلم من بروز الاستبداد كمنقذ وحيد من الأزمات المستعصية والانسداد السياسي ، نظير ما نسمع عن العراق وتونس.

لقد اثبت النموذج الديمقراطي – الليبرالي نجاحا منقطع النظير ، بالقياس الى كافة التجارب التي عرفها تاريخ البشرية. لكننا نعلم ان هذا النموذج لم يهبط من المريخ ، بل كان ثمرة لبنية ثقافية تطورت بالتدريج. ولذا فقد يكون من الاجدى بالنسبة للبلدان التي تعيش أزمات ، او تلك التي خرجت للتو من أزمات ، ان تتبع النموذج الوسيط الذي طبقته روسيا والصين ، حتى تتبلور البنية الثقافية والاقتصادية الداعمة للتحول الى الحداثة السياسية الكاملة ، وعندئذ سيكون الانتقال سلسا وشبه اوتوماتيكي ، كما أظن.

الشرق الاوسط الأربعاء - 4 جمادى الأولى 1443 هـ - 08 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15716]

https://aawsat.com/home/article/3347061/

مقالات ذات صلة

الاسئلة الخطأ

تفارق الافهام بين المجتمع والدولة العربية

حاكم ملتح وحاكم يستحي

حدود الديمقراطية الدينية - عرض كتاب

الديمقراطية والديمقراطية الدينية : المباديء الاساسية

الشرعية السياسية في حكومة دينية حديثة

01/12/2021

تفارق الافهام بين المجتمع والدولة العربية

 

أشعر ان غالبية الدول العربية ، سيما التي تعيش ظروفا متأزمة ، في حاجة لمراجعة الارضية التي تقوم عليها شرعية الحكم. مفهوم الشرعية السياسية ينطوي في جواب السؤال التالي: ما هو المبرر الذي يعطي شخصا ما او هيئة ما ، الحق في الأمر والنهي والتصرف في أموال الناس وأنفسهم ، وما هو المبرر الذي يحمل الناس على طاعة تلك الأوامر.

من الضروري مراجعة وتجديد مصادر الشرعية ، في ظرف الاسترخاء السياسي على وجه الخصوص. لكنه يبدو اليوم ضروريا ايضا ، بسبب ما يظهر في الميدان السياسي ، من تفارق في فهم هذا الموضوع بالذات ، بين الجمهور والنخبة السياسية.

قانون الندرة: الجميع يتنافسون على موارد محدودة

بيان ذلك: تحاول النخب السياسية العربية تبرير سلطانها بالرجوع الى القانون. فهي تقول انها تحكم في اطار قانون معلن ، وان  أوامرها ونواهيها صادرة وفق هذا القانون). أما الجمهور فما زال يعتبر صاحب السلطة مسؤولا – بصفة شخصية – عن الوفاء بما قطعته الحكومة من وعود ، وما توقعه الجمهور من تحسن لأوضاع المعيشة والامن الخ.

   لفتت هذه المسألة انظار المفكرين منذ القدم. لكن جان جاك روسو ، الفيلسوف الفرنسي ، هو الذي وضع مفهوم الشرعية في صيغة محددة ، وربطها بالتفاهم الضمني بين الجمهور والنخبة. أوضح روسو مفهوم الشرعية في مقولته الشهيرة " "الاقوى ليس قويا تماما ، حتى يقتنع الناس بان ولايته عليهم حق له ، وان طاعتهم لأمره واجب عليهم". "الشرعية السياسية" من ابرز مباحث علم السياسة المعاصر. ويبدأ بحثها عادة بشروحات ماكس فيبر ، مؤسس علم الاجتماع الحديث ، الذي عالج المفهوم كما هو في الواقع ، وبغض النظر عن تفضيلاته الخاصة.

تحدث فيبر عن نموذجين للشرعية السياسية: تقليدي وعقلاني. اما التقليدي فيدور غالبا حول شخص الزعيم ، الذي يراه الجمهور صاحب حق في السلطان ، بغض النظر عن ممارسته السياسية الفعلية. مع مرور الوقت وبروز اجيال جديدة ، يبدأ الناس بالتفكير في "انجازات" الزعيم ، بوصفها عاملا شريكا في استمرار شرعيته.

لكن "الانجاز" مفهوم قصير الأمد ، بسبب المسافة الواسعة بين توقعات الناس وقدرة الدولة على تحقيق تلك التوقعات. يخضع عمل الدولة ل "قانون الندرة" ، الذي هو في الوقت ذاته السر وراء صعوبة ارضاء الجمهور (رضا الناس غاية لا تدرك ، كما نقل عن لقمان الحكيم).

يطالب الناس بأكثر مما تستطيع الحكومة انجازه ، فتضطر الحكومة لتذكيرهم بالقانون ، وهو الاطار الحديث/العقلاني للشرعية السياسية. اي انها تتحول من التأكيد على الانجاز كمصدر لشرعية سلطانها ، الى التأكيد على القانون كاطار ناظم لهذه الشرعية ومبرر لاستمرارها.

من الناحية الواقعية بلغ العالم العربي مرحلة الشرعية العقلانية. لكنه - على المستوى الثقافي – ما زال في مرحلة الشرعية التقليدية ، التي تتراوح بين الكاريزما والحق الشخصي. وقد ذكرت آنفا ان مطالبات الجمهور تتجه للاشخاص الذين تتألف منهم النخبة السياسية ، ولاسيما شخص الزعيم.

في اعتقادي ان تركيز الجمهور على الاشخاص مرهق لهم وللدولة معا ، فضلا عن كونه غير عقلاني وغير مفيد. ان الصورة المثلى للادارة العامة تتجلى في الفهم المشترك بين الجمهور والنخبة لقدرات كل طرف وحدوده ، والاطار الناظم للعلاقة بين الطرفين ، كي لا تتحول ادارة البلد الى نوع من التجاذب وترامي المسؤولية ، بدل التعاون على حمل الاعباء المشتركة. هذا يعني بالتحديد تحويل مفهوم القانون والشرعية المستندة اليه ، الى جزء نشط في الثقافة العامة ، والتأكيد على خضوع الجميع ، حكاما ومحكومين لمقولاته ، سيما في البلدان التي تعيش ظروف أزمة.

الشرق الاوسط  الأربعاء - 26 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 01 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15709]

https://aawsat.com/node/3334541/

27/11/2019

عودة الى ماكس فيبر



يرجع الفضل الى كتاب "الاخلاق البروتستنتية وروح الراسمالية" في لفت انظار الباحثين الى أهمية الجانب الوصفي – التفسيري في علم الاجتماع. واظنه ايضا السبب الرئيس في الشهرة العظيمة التي حظي بها مؤلفه "ماكس فيبر"  كصاحب نظريات اصيلة في الحراك الاجتماعي الواسع النطاق.
ويقول فيبر انه كان يحاول التعرف على الاسباب التي جعلت الرأسمالية طريقا وحيدا للنهوض الاقتصادي في اوربا. فقاده هذا الى سؤال آخر يتناول العوامل التي تجعل الرأسمالية ممكنة في مجتمع وممتنعة في مجتمع آخر.

في الخلاصة وجد الرجل ان الدين عامل حيوي ، في صياغة وعي الانسان بالعالم المحيط ودوره في هذا العالم ، وبالتالي أهدافه وأولوياته ، العوامل التي تشحذ طموحاته أو تثير قلقه ، وتلك التي تثبط عزمه او تمنحه الاطمئنان. وفيما يخص النشاط الاقتصادي ، رأى ان البروتستنتية هي الدين الوحيد الذي يحفز الفاعلية الاقتصادية للبشر ، من خلال ربطها العميق بين النجاح الدنيوي (في معناه المادي الصرف) وبين الخلاص الأخروي. يعتقد البروتستنت ، سيما في المنهج الذي اطلقه القسيس الاصلاحي "جون كالفن" ان التقرب الى الله ليس مشروطا بالطقوس المعتادة في الكنيسة. يمكن للانسان ان يتقرب الى ربه ، حين يؤدي واجباته اليومية على الوجه الأكمل. الفلاح وعامل المصنع والحرفي ، وكل صاحب مهنة ، يمارس العبادة (بالمعنى الحرفي وليس المجازي) حين يقوم في عمله. وفي هذه الحالة فانه لا حاجة للذهاب الى الكنيسة يوم الأحد او أي يوم آخر. كنيسة المسيح توجد – وفقا لرأي كالفن – حيث يوجد أتباع المسيح ومحبوه.
احتمل ان الفارق الجوهري بين ابحاث فيبر وسابقيه ، يكمن في اهتمامه المكثف بقراءة الوقائع ومحاولة تفسيرها ضمن سياق ميكانيكي ، وايضاح الدور الذي يلعبه كل عامل ، رئيسي او جانبي ، في تكوين الواقعة وتحديد الوظائف التي تولد من حولها. ومع ان هذه الابحاث لا تخلو من تعبير عن ميل شخصي أو موقف آيديولوجي ، الا ان غلبة الجانب التفسيري ، ونجاحه في تقديم إطار نظري معقول لكل موضع من مواضع البحث ، غطى على نقطة الضعف تلك.

ان السبب الذي يدفعني لتذكير القراء بأعمال فيبر ، هو رغبتي في ان نفكر معا ، في نفس السؤال الذي حاول الرجل مجادلته ، اعني سؤال: متى يمكن للدين ان يحفز النشاط الاقتصادي ومتى يثبطه.
اني لا اجد تفسير فيبر مقنعا ، الا في حدود النمط الصافي ، اي حين يكون الدين مؤثرا وحيدا في تكوين ذهنية الانسان ، مع انعدام اي مؤثر آخر مساعد او منافس.

لكنا نعلم ان هذا شرط غير واقعي. لأن الظاهرة الاجتماعية مركبة بطبيعتها ، وهي تشكل محصلة لتزاحم وتفاعل العديد من العوامل ، التي يترك كل منها أثرا في تكوين الظاهرة وتحديد حجمها ونطاق تأثيرها. هذه العوامل ، اضافة الى عوامل تدخل لاحقا  ، تحدد ايضا اتجاهات الظاهرة وأقدارها (اي الشروط التي تسمح باستمرارها او نهايتها).

أعلم ان التفكير والنقاش في السؤال المذكور سيتأثر – شئنا أم أبينا – بالميول التبجيلية او الاعتذارية ، التي تشكل نوعا من موقف مسبق ، تجاه اي نقاش يتعلق بالهوية او الايمان. لكني اود تحذير القاريء من ان هذه الميول مخربة للتفكير ، وهي لا تساعد أبدا في التوصل الى اي فكرة جديدة. الهوية الدينية ليست في خطر ، كما ان التفكير في الدين لا يؤدي الى اضعافه في النفوس.

الشرق الاوسط الأربعاء - 30 شهر ربيع الأول 1441 هـ - 27 نوفمبر 2019 مـ رقم العدد [14974] https://aawsat.com/home/article/2009626

12/12/2018

حول الخمول والثبات على الاصول

||الجهل صفة للمجتمعات التي يغلب عليها الخمول الثقافي، اي ألفة الموروث الى حد اعتباره معيارا يقاس عليه كل جديد في الفكر والحياة||
لطالما توقفت عند طروحات استاذنا ابراهيم البليهي ، لا سيما تلك التي يجادل فيها حول قابلية الجهل للتعميم ، والانتقال عبر الاجيال. ينبغي القول ابتداء ان الجهل المقصود هنا ليس الانعدام التام للمعرفة. فمن المستبعد جدا ان يخلو عقل بشري من معرفة ، قليلة او كثيرة. المقصود هو هيمنة الثقافة السكونية التي تعطل فاعلية العقل ، فتجرد الانسان من الاداة الوحيدة التي تمكنه من اكتشاف ذاته ككينونة مستقلة ، مؤهلة لصياغة عالمها الخاص. اكتشاف الذات المستقلة تمهيد ضروري لتحول الفرد من كائن منفعل ، الى عقل متفاعل مع العوالم التي يصنعها الاخرون.
وفقا لهذه الرؤية ، فان الجهل صفة للمجتمعات التي يغلب عليها الخمول الثقافي ، اي ألفة الموروث الى حد اعتباره ، في الجملة والتفصيل ، معيارا يقاس عليه كل جديد في الفكر والحياة.
ينبغي ان لا يؤخذ هذا الوصف كتقرير عن الواقع. انه أقرب الى صورة الواقع في حدوده القصوى ، او ال Ideal Type وفق تعبير ماكس فيبر. وغرضه هو ايضاح فكرة الماضوية والارتياب في المستقبل.
من ناحية أخرى فان جدلية الثبات والتحول ، لا ينبغي ان تفهم كانكار مطلق لقيمة الماضي وفائدة الموروث. يتركز الانكار على "حاكمية الماضي على الحاضر والمستقبل" اي اعتبار الماضي مصدرا وحيدا او رئيسيا للمعارف والمعايير والاعراف والاخلاقيات. نقرر هذا ، نظرا لان جانبا مهما من قدرتنا على التعامل مع الواقع ، بل وقدرتنا على تبديله أو اصلاحه ، هي ثمرة لتجارب الاجيال التي سبقتنا والمعارف التي ابدعوها ، فجعلت عالمنا اكثر وضوحا ، وجعلتنا اقدر على التعامل مع تحدياته.
بالنسبة للانسان الحديث ، فان الماضي كان مفيدا وقيما مثل الحاضر. لكن هذه القيمة نسبية ومرهونة للعوامل التي شكلت ظرف ولادتها. بعبارة أخرى فان كلا الزمنين يعرف كظرف ثقافي لعمل الانسان ، وليس قيدا عليه او نهاية لنشاطه الذهني والحياتي. الانسان الذي صنع الماضي واعطاه قيمته ، هو ذات الانسان الذي يصنع الحاضر ويعطيه قيمته ، وهو ذاته الذي سيعبر من حدوده الى مستقبل مختلف.
التفكير في الزمن كظرف تجربة ، أو محطة عمل للانسان ، هو - على الأرجح - أبرز أركان الحداثة. ولهذا قيل ان جوهر التمايز بين عصر التقاليد وعصر الحداثة ، يكمن في تعظيم قيمة الانسان الفرد ، وتحريضه على اكتشاف قابلياته الذهنية ودوره كفاعل عاقل ومستقل ، قادر على صنع التغيير او المشاركة في صنع التغيير. ان "انسانية" الثقافة والنظام الاجتماعي لا تقاس بملاينتها للافراد او عطفها عليهم ، بل بالمدى الذي تتيحه والفرص التي توفرها ، لانعتاق الفرد من قيود الطبيعة وحدود الجماعة وما الفته من ثقافة وأخلاقيات عمل.
تميل الثقافات الخاملة الى كبح الافكار الجديدة ، إذ ترى فيها بدعا مثيرة للارتياب. وهي ترتاب فيها حتى قبل تمحيصها وتجريبها. يكفي ان تكون الفكرة الجديدة معارضة للموروث والمألوف ، كي ترمى بكل عيب. أما الثقافات النشطة فهي تنظر للافكار الجديدة كفرص إضافية ، ربما تصيب وربما تخيب. لكن تجربة البشر خلال التاريخ برهنت على أن العديد من الافكار التي قوبلت – عند ظهورها - بالانكار أو الارتياب او حتى عدم الاكتراث ، أثبتت لاحقا انها كانت مفتاح العالم الجديد.
تخبرنا تجربة التاريخ البشري ان الموقف من التغيير ودعاته ، هو الذي يضع الأمم على سكة التقدم او – على العكس – يلقي بها في هامش التاريخ.
الشرق الاوسط الأربعاء - 4 شهر ربيع الثاني 1440 هـ - 12 ديسمبر 2018 مـ رقم العدد [14624]
https://aawsat.com/node/1500811

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...