توقع
صندوق النقد الدولي ان تسجل ميزانية المملكة في هذه السنة (2015) عجزا في حدود 488 مليار
ريال. وتم تاكيد سحب 244 مليارا من الاحتياطي العام حتى الان. محللون توقعوا ان يتكرر
العجز في ميزانية العام القادم ، الا اذا خفضت بشكل كبير بحيث تقتصر على المصروفات
الجارية والقليل فقط من المشاريع العمرانية.
هذا
يعيد الى طاولة النقاش جدلا قديما حول حاجة المملكة للتحرر من الارتهان شبه الكلي
لمبيعات البترول الخام. يتحدث الجميع تقريبا عن ضرورة التوسع في الصناعة ، حتى تصبح
منافسا للبترول في توليد الدخل القومي.
اعلم ان كثيرا من الناس ،
وبعضهم في مواقع القرار ، غير متفائل بقدرتنا على التحول الى اقتصاد صناعي خلال
وقت معقول. بعض الكتاب يشكك في قدرة العالم على الاستغناء عن البترول كمصدر رئيس
للطاقة. احد المصرفيين كتب يوما ان الصناعة ليست ضرورية طالما كان لدينا المال. كل
ما تحتاجه معروض في السوق ، في هذا البلد او ذاك. احدهم قال لي يوما "سمعنا
الكلام عن الصناعة والتحذير من الارتهان لاسواق البترول منذ السبعينات ، لكننا –
بعد اربعين عاما – ما زلنا اغنى واقوى من الذين حذرونا". هذا وذاك كلام صحيح
، لكنه يكشف نصف الحقيقة فقط. المشكلة اننا لن نستطيع رؤية النصف الثاني الا اذا
وقعنا فيه. في الفترة بين 1983-1990 واجهنا نموذجا مصغرا لظرف من هذا النوع.
والمؤسف اننا لم ندرس الانعكاسات الكارثية لما حدث في تلك الفترة القصيرة نسبيا.
واعني بها الانعكاسات الثقافية والسياسية ، فضلا عن الاقتصادية ، لانخفاض عائدات
البترول يومذاك. ولهذا لم نعتبر بما جرى.
لكن
الصناعة ليست مسألة اقتصادية فحسب. ثمة جوانب ثقافية وعلمية وسياسية لا تقل أهمية
عن جانبها الاقتصادي. كنت قد اشرت في مقال سابق الى دورها في تعزيز الهوية الوطنية
والاعتزاز بالوطن. كلنا نعرف ان التطور الصناعي ينعكس على شكل فخر بالوطن والجماعة
الوطنية وشعور بالاكتفاء الروحي والثقافي. وهذا يقود الى تعميق الاحساس الداخلي
بالانتماء.
كما
ان التحول الى اقتصاد صناعي سيوفر ارضية واقعية لانتاج العلم وتطوير التقنيات التي
نحتاجها. نحن اليوم ننفق مئات الملايين لتعليم ابنائنا في مختلف الفنون. لكن ظهور
مجتمع علمي ، اي توطين العلم والتقنية ، ليس ممكنا دون تحول العلم والتقنية الى
مصدر معيشة قائم بذاته. في الوقت الحاضر يستهلك ابناؤنا المتعلمون حياتهم في تطبيق
تقنيات طورها غيرهم. مع التحول الى اقتصاد صناعي سيشاركون هم في تطوير التقنيات
التي يحتاجونها ، وبهذا يتحول العلم الذي تلقوه في جامعاتهم الى راسمال قابل
للاستثمار ومصدر معيشة مستقل.
ثمة
من يقدم رؤية متشائمة ، مبنية على قلة كفاءة مجتمعنا وصعوبة انعتاقه من تقاليده.
يخبرنا بعضهم ان المجتمع الذي اعتاد الرفاهية السهلة وآمن بالاساطير والتقاليد
الخرافية لا يستطيع التحول الى مجتمع صناعي.
وهذا
الكلام مثل سابقه ، اقرب الى الهندسة العكسية. في حقيقة الامر هو يرى واقع الحال ،
ويفترض انه قائم بذاته او انه سبب لذاته.
لو تأملنا بعمق لوجدناه نتيجة لما فعلنا خلال نصف القرن الماضي. لقد شارك اباؤنا
في اقامة مؤسسة متقدمة مثل ارامكو ولم يعجزوا عن التعلم حينما اتيحت لهم الفرصة.
اما اليوم فأمامنا فرص اكثر. اطفالنا الذين لا زالوا في على مقاعد الثانوية يملكون
من المعلومات اضعاف ما عرفناه يوم كنا في اعمارهم ، وهم منفتحون على التكنولوجيا
والتيارات العلمية بما يزيد على حصيلة معظمنا ، رغم فارق السن بيننا وبينهم.
صحيح
اننا مجتمع استهلاكي ومتساهل. لكن هذا هو الحال الذي اوصلتنا اليه مقدمات سابقة.
وهو قابل للتغيير ، سيما مع اجيالنا الجديدة ، اذا قررنا تغيير المسار.
اعلم
ان تغيير المسار ، ليس قرارا سهلا. اعلم ان له تبعات كبيرة ، على الاقتصاد الكلي
وعلى معيشة كثير منا. لكني اعلم ايضا ان هذا هو الخيار الوحيد لمستقبل آمن ، ليس
فقط في مجال المعيشة ، بل ايضا كي نشعر باننا قدمنا شيئا للاجيال التالية ، قدمنا
وطنا يستحقونه ويستحق الفخر به.
الشرق الاوسط 12 شوال 1436 هـ - 29 يوليو 2015 مـ رقم العدد [13392]
http://goo.gl/mCPOVW
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق