07/02/2018

حول التدين القسري



زميلنا الاستاذ عبد الله العلويط ، الباحث المعروف في المملكة ، أثار هذا الاسبوع مسألة التدين القسري ، في سياق حديث للتلفزيون عن اغلاق المتاجر والاعمال في أوقات الصلوات. وهذا عرف عمره نصف قرن على الأقل ، عرفنا لاحقا انه لا يستند الى قانون عام. فقد أنشيء بمبادرة من هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أيام كانت تأمر فلا يجرؤ أحد على مناقشة أمرها. واستمر هذا العرف الى اليوم. وبات معتادا ان يتوقف موظفو الدوائر الرسمية ساعة او بعض ساعة ، اذا حل وقت الصلاة ، مع ان الصلاة نفسها لا تستغرق سوى بضع دقائق.
وقد بعث حديث الاستاذ عبد الله جدلا ينشط ويهدأ بين حين وآخر ، حول صحة هذا العرف وانسجامه مع روح الدين. لا يصعب تصور موقف طرفي الجدل. فمن يؤيد استمراره يحتج بأن الصلاة اعظم تمظهرات الدين في الحياة اليومية. فلا ينبغي السماح بالتهاون فيها ، وان على الحكومة ان تستعمل سلطتها في جعل الطابع الديني حاضرا مشهودا في الحياة اليومية للمجتمع. ويكرر هؤلاء حديثا ينسب للخليفة الراشد عثمان بن عفان "مايزع السلطان الناس أشد مما يزعهم القرآن". وهو حديث مشهور ، ومعناه معقول. لكن نسبته غير متيقنة. والقصد من الاستشهاد به ان استعمال ادوات السلطة المادية ضروري حين لا يستجيب الناس للدعوة اللينة والتذكير الحسن.
معارضوا ذلك العرف ، حجتهم ان الصلاة تكليف فردي ، يجب على المؤمن اقامتها مختارا مطمئنا. ولو اقامها مجبرا فقدت نية التقرب الى الله ، والنية ركن في العبادة. وتذكر في العادة روايات وقصص عن صحابة وخلفاء تراجعوا عن استعمال القسر ، بعدما احتج عليهم بان المصلي صلى خوفا منهم ، لا رغبة في رضا الله.
اما حديث عثمان ، فالأولى صرفه الى عمل الحاكم ، الذي ينطوي بطبعه على جانب جبري ، ومثله عمل القاضي الذي يحكم في النزاعات ، فلا بد ان يكون احد الطرفين غير راض بالحكم ، لكنه يضطر لانفاذه خشية العقاب. وهذا من طبائع الأشياء. اما العبادات ، فهي كما سلف القول ، مشروطة بالاختيار وخلوص النية ، مجردة عن القسر المباشر والمادي.
جوهر الموضوع إذن هو التدين القسري الذي كان مسكوتا عنه في الماضي. لكنه اليوم يواجه باحتجاج صامت حينا وصاخب حينا آخر. وأعلم ان بعض الدعاة والآباء كانوا يتقبلون الفكرة في الماضي. لكنهم يعارضونها الآن ، بعدما اكتشفوا ان الجبر على الشعائر والمظاهر الدينية ، قد ساهم في توليد توترات نفسية وسلوكية ، بخلاف ما يفترض من ثمرات الايمان ، اي الاطمئنان والسلام الداخلي وملاينة الاخرين. وذكر احد الدعاة البارزين ، ان هذا النوع من الجبر قد يفسر ارتفاع نسبة الاكتئاب عند النساء ، مقارنة بالرجال الذين يتعرضون لقدر أقل من الجبر على المظاهر الدينية.
هذه النقطة تشير في الحقيقة الى حاجة ملحة للتفكير في الشعائر والمظاهر الدينية ، كعنصر متكامل مع الاطار العام للحياة الشخصية او الاجتماعية. بعبارة اخرى فان تحقيق حكمة الصلاة مثلا ، كما في قوله تعالى "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " رهن بتواصل الصلاة وتناغمها مع الاطار الحياتي الذي تجري فيه. أما الشعائر التي يقيمها الانسان مجبرا ، فهي مجرد حلقة منفصلة عن حياته ووجدانه ، مثل دواء يتناوله المريض وهو يتمنى الخلاص منه في اقرب وقت.
الشرق الاوسط الأربعاء - 21 جمادى الأولى 1439 هـ - 07 فبراير 2018 مـ رقم العدد [14316]
مقالات ذات علاقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...