رغم مرور بضع سنوات على شياع تعبير العولمة
، فلا زلنا في مرحلة القراءة الاولى للمفهوم وتجلياته ، كثير من المجلات المتخصصة
أفرد ملفات لدراسة الموضوع ، كما عقد كثير من الندوات لمناقشته ، لكن العالم
العربي لم يتوصل إلى موقف محدد وقطعي من هذا المفهوم ، الذي يخفي تحته موجا هائلا
من التحديات ، ليس للعربي المعاصر فحسب ، بل للاجيال القادمة من العرب أيضا .
قد تكون العولمة فخا
وقد تكون فرصة ، لكنها في كلا الحالين ليست خيارا نقبله أو نرفضه ، فهي واقع
قائم ، يتضخم أثره وتتفاقم انعكاساته يوما بعد يوم ، ان المبرر الرئيسي لشيوع
المفهوم وارتفاع الاصوات المطالبة بمناقشته ، خلال السنوات الاخيرة بالذات ، هو
تطور المفاهيم الناظمة للعلاقات بين الدول والشعوب ، وتطور وسائل الاتصال والتواصل
، وعلى الصعيد الاول ، فقد أدت التغييرات السياسية ، ولا سيما نهاية عصر الاستقطاب
الثنائي ، إلى التقليل من شأن (السيادة
الوطنية) أي ما كان يعتبر الحق المطلق
للدولة في التصرف ضمن حدودها الاقليمية ، دون تدخل الدول الاخرى . بيل غيتس: الميل الاخير في رحلة العولمة
هذا المفهوم (السيادة
الوطنية) لم يعد اليوم مقبولا على اطلاقه ، وأقرب الشواهد الماثلة أمامنا ، هو التدخل العسكري الغربي
في يوغوسلافيا ، الذي جرى تحت مبرر التزام المجتمع الدولي بالحيلولة دون وقوع
كوارث انسانية ، مثل التطهير العرقي أو
الابادة الجماعية ، ان فكرة (المجتمع
الدولي) لم تكن أكثر جلاء مما هي عليه الآن ، وهي لا تعني شيئا سوى ان الدولة
القومية ليست حرة تماما في التصرف ضمن حدودها الاقليمية .
أما على الصعيد الآخر فان
تطور وسائل الاتصال ، قد جعل الخطاب الدولي قادرا على الوصول إلى المتلقي ، في ذات
الوقت الذي يصله فيه الخطاب المحلي أو الاقليمي ، ولأن هذا الخطاب يأتي عير الفضاء
المفتوح ، فان الخطاب المحلي قد خسر الميزة النسبية التي كان يتمتع بها ، يوم كانت
الحدود الاقليمية حاجزا حقيقيا ، يتيح للدولة القومية التحكم في نوعية وحجم المادة
الثقافية ، المسموح بوصولها إلى المتلقي أو المستهلك النهائي .
وفي وقت سابق من هذا العام
أشار بيل
غيتس رئيس شركة ميكروسوفت ، العملاق العالمي المنتج لبرامج الكومبيوتر ، إلى
مشروع يعتبره التحدي الحقيقي لانسان القرن الواحد والعشرين ، يتضمن هذا المشروع
انتاج نوع من التلفزيون الرقمي التفاعلي رخيص الثمن لكي يباع في الدول النامية ،
مدعوما بشبكة اتصالات عبر الاقمار الصناعية ، ضمن مشروع آخر أطلق عليه (تيليديسك).
وقد اختار غيتس الصين
كميدان اختبار اول لهذا الجهاز ، الذي يتيح تواصل الانسان المقيم في الارياف
النائية مع القنوات الفضائية الدولية ، وشبكة المعلومات الدولية (الانترنت) دون
الاضطرار لدخول دورات تدريبية لتعلم استخدام الكومبيوتر ، أو دفع مبالغ كبيرة ثمنا لاجهزة معقدة وصعبة الاستعمال ، وحسب غيتس
فان هذا الجهاز سيكون في مثل رخص وبساطة التلفزيون العادي ، لكنه سيكون في مثل
فاعلية الجيل الاحدث من الكومبيوتر ، وإذا نجح المشروع في الوصول إلى 40 مليون
عائلة كما يخطط غيتس ، فسيكون هذا دليلا لا يرد على انتهاء عصر السيطرة الحكومية
على تدفق المعلومات .
تيار العولمة ليست خيار معروضا علينا ، بل حلقة أخرى في سلسلة من الالزامات
، المبررة جميعا باختلال التوازن بين المجتمعات الصناعية المتقدمة ونظيرتها
النامية أو المتخلفة ، ولهذا السبب بالذات
فان مجرد التنبه إلى أخطارها وتحذير الاخرين مما سيأتي في طياتها ، ليس حلا
للمشكلة بقدر ما هو إعلان عن وجودها ، أما العلاج فيجب ان يتوجه إلى الانسان
المعني بالمشكلة ، والى المجتمع الذي سيتفاعل مع الوافد الجديد ، فالعولمة قد تكون
أسوأ شيء لكنها واقع يمشي على قدمين ، وهي تتطاول يوما بعد يوم وتتفاقم آثارها سنة
بعد سنة .
وأريد التنبيه هنا إلى
مسألة واحدة ، شغلت كثيرا ممن كتبوا عن العولمة ، إلا وهي انعكاسات العولمة على
الثقافة المحلية ، ووجدت مثلا من يشير إلى ان التزام المسلمين بهويتهم الدينية ،
لن يتضرر بالهجمة الثقافية الغربية ، ويستدل على هذا بنهوض الانتماء الديني في الشعوب المسلمة ، التي وقعت تحت اسر الحكومات الملحدة
سنوات طويلة ، كما حصل في دول اسيا الوسطى والبلقان ، ونهوض الدعوة الاسلامية في
الولايات المتحدة واوربا الغربية ، حيث ينضم إلى الدين الإسلامي عشرات من الناس كل
يوم ، وهذا رأي صحيح تماما ، فالدين الإسلامي له قابلية فريدة للنزول إلى اعماق
النفس حين يتعرض للقهر ، ثم العودة للتجسد في مظاهره الخاصة حين يزول القهر .
لكن ما نخشاه حقيقة ليس تحول الناس عن دينهم ، فهذا أمر مستبعد تماما ، ان
ما نخشاه هو اتساع الفجوة بين الدين والحياة ، الذي يتجسد في أبسط صوره ، في
التناقض بين هوية الانسان وطريقة حياته ، وفي الربع الثالث من هذا القرن أدى
الانفتاح المكثف للمسلمين على الغرب إلى تغيير نمط حياتهم ، لكنه لم يترافق مع
تجديد مواز في نظامهم الثقافي ، فحدث ما اصطلح عليه وقتها بالصدمة الثقافية ، التي
تعني وقوع الانسان في حالة تجاذب بين قطبين متعاكسين ، يشير أحدهما إلى الانتماء
الكبير (الديني أو القومي) ويشير الآخر إلى الانتماء الجديد (الشخصي أو الاجتماعي)
المتسق مع متطلبات الانفتاح على الخارج ، حيث القيم الحاكمة هنا تختلف عن نظيرتها
هناك ، وحيث ترتيب العلاقات والمصالح تتأثر بالحدث اليومي المتغير ، لا بالثوابت
الاخلاقية والثقافية المستمدة من الهوية والانتماء الكبير.
الانسان العربي سيكون مهددا بالتمزق بين هويته ومتطلبات حياته ، ودلت
التجربة الاولى في منتصف السبعينات وما بعدها ، على الحجم الكارثي لهذه المشكلة ،
رغم انها لم تكن أكثر من (بروفة) لما سيأتي في ظل تحول العولمة من تهديد يلوح في
الافق ، إلى نظام فعلي للحياة في العالم العربي وعلاقاته مع الخارج .