||استئصال الفساد يبدأ
بتقليل الحاجة له، بتيسير القوانين ، ثم تقليل العامل الشخصي في التعاملات
الحكومية الى ادنى حد||
صدور الاستراتيجية الوطنية لمكافحة
الفساد هو الخطوة الاولى لعلاج هذا الداء المستفحل. من المفهوم ان الفساد مثل
جميع العلل الاخرى لا ينتهي بمجرد اتخاذ قرارات حازمة. فهو يحتاج ايضا الى بيئة
قانونية وثقافية واجتماعية تسد ابوابه وتسمح بتشكيل جبهة واسعة لمقاومته. مع تزايد
عولمة الاقتصاد وانفتاح الاسواق الدولية بعضها على بعض، تحول الفساد المالي
والاداري الى واحد من الشواغل الحرجة للسياسيين والباحثين ورجال الاعمال، وعقدت
لأجله العديد من المؤتمرات .
وفي
الوقت الحاضر ثمة منظمات دولية، حكومية وتجارية، مكرسة لمراقبة حالات الفساد
وتقييم الجهود المبذولة في مكافحته على المستويات الوطنية. وفي السياق نفسه فقد
اضيف مستوى الفساد الى قائمة المؤشرات التي تقيس كفاءة كل دولة من دول العالم
للاستثمار، ولا سيما استقبال الاستثمارات الاجنبية. البلدان المبتلاة بظاهرة فساد
متكررة تعتبر اليوم اقل أمانا للاستثمار. الفساد المالي والاداري لا ينتج فقط عن
سوء النية او قلة الورع . ثمة اسباب جوهرية تجعل الناس مضطرين في بعض الاحيان الى
تجاوز القانون، وتجعلهم في احيان اخرى اقل حرجا واكثر جرأة على العبور فوقه.
من
بين تلك الاسباب -على سبيل المثال- عسر القانون او ضيقه. وأذكر ان المفكر الامريكي
المعروف صمويل
هنتينجتون كتب قبل بضع سنوات مقالة اثارت كثيرا من الاستغراب، واظنها نشرت
لاحقا في كتابه «النظام
السياسي لمجتمعات متغيرة». يقول الرجل ان الفساد قد يكون الطريق الوحيد للحياة
والتقدم حين يتكلّس النظام القانوني ويستحيل اصلاحه.
ويضرب
مثالا بالهند في حقبة السبعينات حين كان الحصول على ترخيص لاقامة مشروع تجاري او
صناعي يستغرق شهورا وفي بعض الاحيان اعواما، ويحتاج الى مراجعة مئات الموظفين
والدوائر. وهي صعوبات اوجدت تجارة جديدة في تلك البلاد هي تجارة الحصول على
التراخيص في شهر او شهرين . وهو عمل يقوم به بعض النافذين لقاء رشوة يقتسمونها مع
موظفي الادارات الحكومية. ويبدو ان الكثير من المستثمرين كان يفضل دفع الرشوة على
الجري وراء العشرات من الدوائر طيلة عام او اكثر .
في
مثل هذه الحالة – يقول هنتينجتون – فان السماح بقدر من الفساد مفيد لتسهيل
الاعمال. ولو ارادت الدولة ان تتشدد في تطبيق القانون فلن يكون هناك عدد كاف من
المشروعات الاستثمارية الجديدة، ولن تكون هناك فرصة لتوليد وظائف جديدة.
قد
يبدو هذا الحل سخيفا ومُثيرا للاحباط . لكنه يشير في حقيقة الامر الى واحد من
منابع الفساد، اعني به عسر القانون وعدم واقعيته. وقد استدرك العديد من الدول هذه
المشكلة بتبسيط الاجراءات القانونية وجعل الاستفادة من القانون مُيسرة لكل مواطن.
واذكر
ان بعض البلديات في العاصمة البريطانية بدأت في تطبيق مفهوم جديد يطلقون عليه «one
stop shop» وخلاصته حصر مراجعة الجمهور في دائرة
واحدة تقوم بكل الاجراءات المطلوبة، فاذا كنت تريد الحصول على رخصة بناء، او كنت
تريد دفع رسوم، او استعادة تامين او اغلاق شارع بشكل مؤقت او حتى ترخيصاً لعقد
حفلة او اجتماع في حديقة عامة، فان مكتبا واحدا يتكفل بها جميعا.
واضافوا
الى ذلك تنشيط المراجعة عن بعد، فانت تستطيع القيام بهذه الاعمال جميعا بواسطة
البريد او التلفون او الانترنت. بعبارة اخرى فانهم بصدد الغاء العلاقة الشخصية بين
الموظف والمراجع. في الوقت الحاضر هناك العديد من الشركات السعودية تسعى وراء
تطبيقات مماثلة . اعرف مثلا ان التقدم للوظائف في شركة ارامكو واتحاد اتصالات
وربما غيرهما تتم عن طريق الانترنت حيث يقال ان فرز طالبي الوظائف يجري بصورة
آلية، الامر الذي يُقلل دور الوسيط الشخصي الى حد معقول. مثل هذه الاجراءات تتطلب
بالضرورة جعل القانون محددا ويسيرا.
ان
غموض القانون او عسره يفسح المجال لتدخل الاشخاص، سواء كانوا مديرين او ذوي نفوذ.
وتدخل الاشخاص قد يكون مفيدا في بعض الاحيان لكنه على أي حال باب يمكن ان يُستغل
في الفساد. ثمة بعد آخر يظهر فيه العامل الشخصي، حين يضع الموظف الاداري نفسه في
محل واضع القانون او المشرع، او حين يطبق القوانين والتعليمات بصورة انتقائية. ثمة
موظفون يعطون لأنفسهم الحق في اصدار تعليمات او فرض عقوبات من دون سند قانوني يسمح
بها او من دون ان يكونوا مخولين – قانونيا – باصدارها. قد يكون هذا الموظف مديرا
عاما او وكيل وزارة او وزيرا او موظفا بسيطا، لكنه في كل الاحوال لا يملك الحق في
وضع القانون او تجاوز القانون.
ومع
ان القانون لا يسمح – نظريا على الاقل – بممارسة مثل هذه الاجراءات، الا انها
متعارفة ومنتشرة. ثمة من يقف في وجه هؤلاء، لكن اكثرية الناس لا تستطيع تحمل الاذى
الذي قد يترتب على مثل هذه الوقفة. نحن بحاجة الى منع هؤلاء الاشخاص من التحكم على
هذا النحو، لانه يُضعف قيمة القانون من ناحية ويفتح ابوابا للفساد والاستغلال من
ناحية اخرى.
خلاصة
القول اذن ان القضاء على الفساد ينبغي ان يبدأ بتقليل الحاجة اليه، وهذا يتحقق
بتيسير القوانين وجعلها قليلة المؤونة على الناس، وكذلك جعلها واضحة محددة. اما
الخطوة الثانية فهي تقليل العامل الشخصي في التعاملات الحكومية الى اقل حد ممكن .
اخيرا فاننا بحاجة الى تشجيع الناس على الوقوف بوجه الموظفين الذين يتجاوزون
صلاحياتهم، وحمايتهم من الانتقام اذا اقتضى الامر ذلك.