قارن
ما فعلته دبي خلال السنوات العشرين الماضية بما فعله جيرانها . لو اتبعت حكومة دبي
التقاليد السائدة في عالم العرب ، لكانت اليوم نسخة اخرى من رأس الخيمة . لكن
حكامها فهموا ان عقل الانسان يتسع لما هو ابعد من الخيارات القليلة الظاهرة امامه
. لم يكن لدى هذه الامارة الصغيرة ما يكفي من البترول مثل جيرانها ، لكن كان لديها
عقول وعقلاء ، واذا كان لديك عقل نير فانت تستطيع الحصول على موارد لا تقل قيمة عن
البترول . دبي اليوم لا تحتاج الى البترول لان جميع اصحاب البترول يحتاجون اليها ،
وجميع الذين يحتاجون اموال البترول يذهبون اليها .
قارن
ايضا ما فعله الاتراك والايرانيون وما فعله جيرانهم العرب خلال نفس الفترة . في
العام 1980 شن صدام حسين حربا ضروسا على ايران دامت ثمان سنين ، وما خلص منها حتى
مال الى حرب اخرى على جيرانه الخليجيين . في العام 1996 قال لي صديق زار بغداد ان
اسواق العراق علمته ان ايران هي التي كسبت الحرب ، لانه وجدها مليئة بالبضائع
الايرانية ، من البسكويت الى الثلاجة المنزلية حتى قطع غيار السيارات .
لم ينس
الايرانيون الام تلك الحرب لكنهم لم يتوقفوا عندها ولم يصرفوا جهدهم في تاليف
الاشعار حولها ، بل عضوا على جراحهم وكرسوا جهدهم لاعادة بناء اقتصادهم الذي حطمته
الحرب . في هذا الوقت كان البعث العراقي مشغولا بالبحث عن اسماء جديدة لجيرانه
ومنافسيه مثل اسم القادسية وام المعارك وغيرها . بعد عقد ونصف من تلك الحرب ، تشير
تقارير دولية الى ان ايران قد بنت خلال هذه الفترة ما يزيد على ثلاثة الاف كيلومتر
من سكك الحديد الجديدة . كما اقامت ثلاثين
مصنعا جديدا للسيارات ، وانتجت في العام الماضي وحده ما يقل قليلا عن مليون
سيارة مقارنة بنحو ثلاثين الف سيارة في العام 1988 ، ومعها توسعت صناعة قطع الغيار
من خمسين مصنعا الى الفي مصنع . في نهاية العام الجاري سيرتفع انتاج السيارات الى
نحو مليون وربع المليون مع بداية الانتاج في مشروع مشترك مع شركة رينو
الفرنسية. نعرف ايضا ان ايران تسعى بجد
لتوطين صناعة الطائرات ، وهي تتعاون مع شركات اوكرانية لانتاج محركات لطائرات
الهليوكبتر والطائرات الخفيفة والمتوسطة .
ركزت
ايران على تطوير التعليم والبحث العلمي ، وتعزيز ثقة شبابها بانفسهم وقدراتهم .
كما ربطت بين الجامعات وبين المصانع ومراكز الانتاج ، ولهذا فهي تحقق اليوم
اختراقات لافتة في مجال التكنولوجيا ، لعل اخرها هو نجاح مهندسيها في تخصيب
اليورانيوم الذي اثار الدنيا ولا يزال.
فعلت
تركيا شيئا مماثلا ، وسبقت ايران ، وسبقت بالطبع جميع جيرانها العرب ، فهي تصنع
اليوم معظم ما يحتاجه سكانها ، واذا قدر لك زيارة هذا البلد فسوف تجد ان معظم ما
يستعمله الناس في حياتهم اليومية مصنوع محليا ، من مواد البناء الى السيارة الى
مصعد البناية واثاث البيت وغيره . وحين انتكس اقتصادها في مطلع العقد الجاري ، لم
تتردد في علاجه سياسيا ، فقد تنحت الحكومة القائمة وفتحت الباب امام صعود حزب كان
يعتبر حتى وقت قريب معاديا للايديولوجيا الرسمية . لكن هذا التغيير اعاد الثقة
بالنظام السياسي واعاد الثقة بالقانون ، وبالتالي اعاد قطار الاقتصاد الى سكته .
هل
نحتاج الى مقارنة اخرى مع بلد اسلامي مثل ماليزيا ؟ . خلال اقل من ثلاثة عقود تحولت ماليزيا من دولة
زراعية فقيرة الى واحد من اقطاب الصناعة الجديدة في اسيا ، وهي اليوم دولة غنية
تصدر من المنتجات المصنعة ما يعادل صادرات ابرز الاقطار البترولية العربية . ويقول
رئيس حكومتها السابق مهاتير محمد ان السر في هذا يرجع الى تطوير التعليم وجعله
محور الانفاق والتخطيط الحكومي . ونضيف اليه ان ماليزيا اختارت الطريق الديمقراطي
واقامت نظاما يشعر كل مواطنيه بالمساواة في الفرص والحقوق . وتضم هذه البلاد
مسلمين ومسيحيين وهندوسا كما تضم اعراقا مختلفة .
يحتاج
العرب الى اخذ العبرة من جيرانهم . قد يكون عسيرا عليهم ان يقارنوا انفسهم
بالولايات المتحدة واوربا التي بدات منذ زمن بعيد وسبقتهم اشواطا . لكن ليس من
العسير ان نقارن انفسنا بجيراننا الذين بدأوا في وقت قريب . لا نحتاج الى اعادة
اكتشاف العجلة . هذه تجارب فعلية قريبة منا ، يقوم بها اناس مثلنا وفي ظروف مثل
ظروفنا .
بعض
الناس مهمومون الان بالبحث عن تسميات جديدة لما يصفونه بالتهديد الايراني ، وهي
تسميات سبق لحزب البعث وزعيمه صدام ان ابدع فيها ايما ابداع . مثلما اطلق صدام على
حربه اسم القادسية واسمى نفسه بحارس البوابة الشرقية من الفرس المجوس ، فان عددا
من الكتاب العرب ، من بينهم مثلا الدكتور عبد الله النفيسي ، يفكر في اسم من نوع
"التهديد الصفوي" ، وايحاءاته لا تختلف عن تلك التي ارادها صدام . واظن ان جوهر المشكلة يكمن في ضعفنا الذي
يجعلنا على الدوام في حالة قلق من الجيران ومن الاباعد . ضعفنا هو ثمرة تخلفنا في
مجال العلم ، وقد نهضت اوربا ونهض غيرها لانهم تقدموا علميا . اذا كان كل الناس قادرين على فك هذه الاحجية
وهم يفعلون ذلك اليوم وقريبا منا ، فلماذا نكون الوحيدين الذين يستبدلون العمل
بالنواح ؟. من الواضح ان الاسماء التي يخترعها النفيسي مثل التي اخترعها صدام ، لن
تزيدنا الا خبالا وضعفا . واظن ان ما نحتاجه اليوم ليس البحث عن تسميات سخيفة بل
البحث عن علل تخلفنا وقراءة تجارب الاخرين الذين سبقونا او كادوا.
الايام
25 ابريل 2006