||علة
وجود الدولة هي تلبية الحاجات التي لا يستطيع الافراد انجازها بانفسهم. اذا لم
يمكن توفير جميع هذه الحاجات فان تحديد اولوياتها هو جوهر موضوع السياسة||
يبدو
ان صيانة التوازن بين النظام العام وتلبية المطالب المتغيرة للجمهور هي اكثر مهمات
السياسيين حرجا. فكرة التوازن ليست اختراعا جديدا على اي حال ، فقد شكلت جزءا هاما
من الدراسات الغربية حول الدولة والتحديث . وقد اشتهرت في هذا السياق اراء المفكر
الامريكي صمويل هنتينجتون (وهو بالمناسبة معروف في الوسط الاكاديمي كعالم سياسة
ومنظر للتنمية قبل اشتهاره عندنا بنظرية صراع الحضارات). يدعو هنتينجتون الى تحديث
متوازن وتدريجي لاجهزة الدولة والنظام الاجتماعي . وفي رايه ان التحديث السريع وما
يوفره من حريات وما يكشف عنه من فرص يطلق تيارا هائلا من التوقعات والامال التي
يستحيل تلبيتها في فترة وجيزة . عجز الدولة والنظام الاجتماعي عن تلبية تلك الامال
، يحولها الى مولد للقنوط والقلق بين الاكثرية من الجمهور. ويقود بالتالي الى تصدع
المجتمع وتبلور ظواهر العنف والخروج على القانون والفساد الخ .
ومع
اني لا اميل الى نظرية التنمية التي دعا اليها هذا المفكر ، الا انها تقدم حلولا
جديرة بالتامل ، من بينها مثلا تركيزها على مؤسسات العمل الجمعي. النظام العام عند
هنتينجتون وليد لتوازن فعال بين مطالب الجمهور وحاجات الدولة . على المستوى
الاجتماعي ، يتحقق هذا التوازن اذا امكن تأطير مطالب الجمهور في قنوات عمل جمعي
تعمل على تحويل التطلعات الفردية من افكار غائمة الى مشروعات عمل . كما يتحقق
التوازن على مستوى الدولة اذا امكن تقريب المسافة التي تفصلها عن المجتمع ، من
خلال التوسع في الحوار وانتقال الافكار بين الطرفين. النظام العام – حسب هذه
التصوير – ليس وليد استعراض الجبروت الدولتي بل وليد القناعات المشتركة التي
يخلقها التفاعل عند الطرفين.
لا
يمكن لاي دولة في العالم ان تلبي "جميع" مطالب الناس ، كما يستحيل عليها
ان تعرف جميع تلك المطالب . لكن في الوقت نفسه فان النظام العام لا يمكن ان يستقر
دون تلبية حد معقول منها . فلسفة عمل الدولة بل وعلة وجودها هو تلبية الحاجات التي
لا يستطيع الافراد تحقيقها بانفسهم. وبالتالي فان جوهر المسألة هو تحديد ما يحظى
باهمية قصوى وما يمكن تاخيره . عمل الدولة – اي دولة في العالم – لا يتجاوز في
حقيقة الامر هذا المعنى. كل حاكم او وزير او مسؤول يتمنى ان يفعل كل شيء ، لكنه في
نهاية المطاف مضطر الى ملاحظة الامكانات المتوفرة والزمن المتاح وبالتالي فلا مفر
من الرجوع الى جدول اولويات مناسب.
السؤال
الان : من يقرر ان مطلبا معينا اولى من غيره ، وما هو المعيار في التقديم
والتاخير؟.
في
اعتقادي ان رضى عامة الناس يجب ان يكون المعيار الاول لاختيار اولويات عمل الدولة.
ويرجع هذا الاختيار الى فكرة النظام العام التي بدأنا بها هذا الموضوع . ثمة دائما
اعمال مهمة وضرورية لكنها لا تحظى برضى الجمهور ، واخرى اقل اهمية لكنها توفر
الرضى. اذا قبلنا بفكرة ان التفاعل بين الدولة والمجتمع هو القاعدة التي يقوم
عليها النظام العام والاستقرار ، فيجب ان نأخذ بهذا المبدأ حتى لو بدا لبعض النخبة
ناقصا او معيبا.
يستتبع
هذا - بالضرورة – توفير الفرصة لافراد الجمهور كي يحولوا اراءهم وتطلعاتهم الى
مطالب عقلانية ، منظمة وقابلة للطرح العلمي والمناقشة الموضوعية ، اي – بصورة
مختصرة – تحويلها من راي خاص الى راي عام . الوسيلة التي توصل اليها العالم
المعاصر للقيام بهذه المهمة هي ما يعرف بالمجتمع المدني . مؤسسات المجتمع المدني ،
من صحافة وجمعيات نفع عام وجمعيات حرفية وتخصصية ، هي الوسيلة التي مهمتها بلورة
الاراء وعقلنتها وتحويلها من ثم الى مشروعات عمل . تحديد المطالب والاولويات هو –
اذن - عمل المجتمع ، وهو التجسيد الابرز لفكرة التفاعل بين الدولة والمجتمع كقاعدة
للاستقرار والنظام العام.
Okaz
( Saturday 28 Feb 2004 ) - ISSUE NO 986
كي لا يمسي الخيال دليلا في السياسة
خطوط الانكسار
شبكة الحماية الاجتماعية
حول
جاهزية المجتمع للمشاركة السياسية
رأي الجمهور
مقالات
مماثلة