اعلم ان بعض القراء الاعزاء يطمع في جواب للسؤال المحير الذي أثارته مقالة الاسبوع الماضي. أما أنا فلازلت آمل ان يتحمس الاصدقاء للتأمل في جوهر السؤال واحتمالاته.
احدى المسائل الهامة التي
أثارتها القصة الواردة في هذا المقال ، هي القيمة النسبية لحقوق الفرد مقارنة
بالجماعة. بيان ذلك: افترض انك وجهت السؤال التالي لجمع من الناس: إذا تعارضت حقوق
شخص واحد مع حقوق 100 شخص.. فأي الطرفين أولى بالرعاية؟.
أتوقع ان معظم الناس سيميل
لترجيح مطالب الجماعة على حقوق الفرد. هذا أمر متعارف في كافة الثقافات ، لكنه
سائد بدرجة اكبر في المجتمعات التقليدية ، التي تميل لاعلاء الرابطة الاجتماعية ،
ولو ادى الى خرق حقوق الافراد.
كان ايمانويل كانط ، الذي يعتبر أبرز آباء الفلسفة المعاصرة ، قد طالب كثيرا باحترام كرامة الانسان الفرد ، وعدم اتخاذه أداة او وسيلة. الانسان - وفقا لهذه الرؤية - غاية في ذاته. وكل ما يفعله هو أو غيره ، ينبغي ان يستهدف اسعاد هذا الكائن العاقل ورفعته. يمكن للفرد أن يعمل على إسعاد غيره ، في الوقت الذي يعمل لسعادته الخاصة أيضا. لكن لا يصح استغلاله أو التضحية به في سبيل اسعاد الغير.
حسنا ما هو الميزان الذي يعيننا
على التمييز بين الافعال التي لا تتعدى التفاعل العادي مع الناس ، وتلك التي تنطوي
على علاقة استغلال؟.
يجيب كانط بأن ملاحظة انعكاس
الفعل – ولو بصورة افتراضية - على الذات ، هو الذي يكشف لنا عن حقيقته. فان اردت
التحقق من سلامة فعل ما ، فافترض انك تريد جعله قانونا لكل الناس ، ومنهم أنت. وهو
هنا يشير الى الجانب الآخر ، اي كيف يكون الوضع لو انتقلت انت من جانب الفاعل الى
جانب المتأثر بفعل الغير. دعنا نفترض مثلا ، انك تعطي رأيا في استحقاق شريحة من
الناس لقروض بنكية او منحة حكومية أو وظيفة ما ، أو ربما كنت قاضيا يصدر حكما في
واقعة. تخيل لو أن حكمك هذا أو رأيك ذاك سيتحول الى قانون لكل الناس ، وان غيرك
سيستخدمه مستقبلا ضدك ، اي حين تطلب قرضا او منحة او وظيفة او حين تقف امام محكمة.
لو فكرت في هذا الاحتمال بجدية ، فهل ستتريث قبل اتخاذ القرار ام لا ، هل ستفضل
اتخاذ الجانب اللين ام ستختار الجانب الخشن؟.
تذكرت الآن حادثة واقعية رواها
ضابط عراقي سابق ، وخلاصتها انه طلب من مدير الامن العام تزويد عنابر السجناء
بمراوح هواء للتخفيف من شدة الحر ، أو السماح بتدبيرها من متبرعين. فغضب المدير وهدده
بالعزل لو سمعه مرة اخرى يجامل من اسماهم بالمجرمين. ومرت الايام ، فاذا بالمدير
سجينا في تلك العنابر ، وكان طلبه اليومي ، هو السماح له بتركيب مروحة هواء. يقول
الضابط انه ذكر المدير السابق – السجين حاليا بطلبه القديم ، فاعتذر ايما اعتذار ،
لكن فرصة الاحسان فاتته ووقع أسيرا لقراره. هذا معنى ان تفكر في رأيك او قرارك ، كما
لو انه سيمسي قانونا لكل الناس.
يذكرنا هذا بوصية
الامام علي بن ابي طالب لولده الحسن: "يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك
وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها، ... واستقبح من نفسك
ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك". ورسالة هذا النص تطابق
تماما فكرة كانط "قانون لكل الناس".
خلاصة ما يقال إذن ، ان الميل العام لترجيح مصالح وحقوق
الجماعة على مصالح الفرد وحقوقه ، قد ينطلق من مبررات معقولة ، في حالات كثيرة.
لكنه ينطوي على مشكلة اخلاقية واضحة. فالمسألة هنا لا تتعلق بعدد المستفيدين ، بل
بالفعل نفسه: اذا قبلنا بفعل خطأ ، لأنه يخدم أكثرية الناس ، فقد وضعنا تشريعا
يجعل الخطأ مقبولا وقابلا للتطبيق. واذا كان ضحيته اليوم شخص واحد ، فقد يكون
ضحيته غدا آلاف الناس. المسألة اذن تتعلق بالفعل نفسه وليس بعدد الذين يقع عليهم.
الشرق الأوسط الخميس - 20 جمادي الأول 1446 هـ - 21
نوفمبر 2024
https://aawsat.com/node/5083812