|| هل نفهم التاريخ كسجل لتجربة جرت في الواقع ، ام كصورة ذهنية متخيلة عن الذات السابقة (السلف) التي تشكل مولدا للذات الحاضرة/الخلف ||
زميلي
الافغاني كان مندهشا جدا من حديث استاذ الفلسفة عن جده الذي هرب الى استراليا ،
بعدما أدين بسرقة عربات البريد. مال الزميل على كتفي وسألني بصوت خافت: هل يعني
جده فعلا؟.
كان
الاستاذ يقص علينا طرائف من حياة جده ، كما لو انه شخص غريب لا يعرفه. كنت وزميلي الوحيدين في الصف ، الذين اهتموا بالجانب الشخصي في القصة.
هذا ما لاحظه الاستاذ أيضا ، فانتهز فرصة الغذاء ، ليخبرنا بانه لا يرى عيبا في
بيان ان السارق المشهور هو جده. المسألة
ببساطة ان هذه معلومات مثبتة يعرفها كل قاريء لتاريخ البريد او تاريخ القضاء
في بريطانيا.
Edward O. Wilson |
كل
امم الارض تهتم بتاريخها. لأن صورة الماضي تضيف عمقا لصورة الحاضر ، او تمثل اداة مقارنة
بين حوادث الامس واليوم. لكن يظهر اننا على المستوى العملي ، نتعامل مع التاريخ ،
حتى القديم جدا منه ، كما لو أنه الصانع الحقيقي لحاضرنا.
دعنا
نضرب مثلا بالجدل المزمن حول اعتبار النسب عنصرا في تشكيل معنى التكافؤ ، او في
تحديد قيمة الاشخاص وأدوارهم. فالذين يرونه على هذا النحو ، يتبنون – ضمنيا على
الاقل – مبدأ ان حاضر البشر محكوم بما فعله أجدادهم في غابر الزمان. بمعنى ان
الانسان ليس سيدا لحياته ولا صانعا لأقداره ، بل بقية مما ترك السابقون ، او مجرد ظل
لهم.
للمناسبة
فهذا الاعتقاد ليس قصرا على العرب. في العام 1975 نشر عالم الاحياء الامريكي
ادوارد ويلسون كتابا بعنوان "البيولوجيا الاجتماعية: التوليفة الجديدة" يدعو
لنظرية جديدة ، تجمع مستخلصا من علم الوراثة الذي ينسب الى غريغور مندل ونظرية
التطور التي أسسها شارلز داروين.
افترض
ويلسون ان بعض الصفات السلوكية للكائن الحي ، ربما ترجع لعوامل جينية ، خلافا للتوافق
العام على نسبتها لتأثير البيئة والتربية.
أثار
الكتاب جدلا واسعا بين علماء الاجتماع والبيولوجيا على السواء. وحصل بسبب هذا
الجدل على رواج استثنائي. ففي العام 2014
نشرت طبعته الرابعة عشر ، وهو أمر نادر الحدوث في الكتب العلمية.
لا
يجزم ويلسون بدور العوامل الجينية في تشكيل هوية الانسان. فالاختبارات المثبتة
تتعلق بأنواع محددة من النباتات والحيوانات فقط. لكنه يركز على ان انقراض بعض
سلالات البشر القديمة ، وكذا سلالات الحيوان ، يسمح بالنظر الى ذات الاطار التطوري
، اي القابلية للبقاء ، كاساس محتمل لبحث فرضية انتقال الصفات السلوكية بالوراثة.
أشير
أيضا الى ان فقهاء المسلمين الذين عارضوا مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة ،
اعتمدوا تبريرا مماثلا لفرضية العوامل الجينية. كما استعمله تيار ظهر في الولايات
المتحدة واوربا بين 1912-1931 كاساس لدعوته الى تصفية العرق "الوطني الاصيل"
من لوثات المهاجرين.
زبدة
القول ان الجدل حول تأثير التاريخ ، يدور حول سؤال: هل أنا صانع حياتي وأقداري ،
ام أنا مجرد بقية من ظلال اجدادي الماضين؟.
الشرق الاوسط الأربعاء - 7 صفر 1440 هـ - 17 أكتوبر
2018 مـ رقم العدد
[14568]
https://aawsat.com/node/1428701/
مقالات ذات علاقة