الشورى
العامة ليست عملا ترفيهيا او تجميليا ، وليست اجراء اضافيا. بل هي جوهر مفهوم "القيام بالعدل" في الحياة السياسية.
عام 1995 طرح وزير الداخلية البريطاني اقتراحا بالزام المواطنين بحمل بطاقة هوية. لكنه سرعان ما تخلى عنه بعدما اثار اعتراضات واسعة.
وليس في بريطانيا حتى الآن قانون يلزم المواطن بحمل هوية شخصية. وعند الضرورة فان
اي وثيقة رسمية مع صورة تكفي لاثبات الشخصية.
تكررت المحاولة بعد الهجوم الشهير على
نيويورك في سبتمبر 2001. وطرح الوزير يومها مشروعا متكاملا يحوي تفصيلا للاجراءات
التي ستتخذ لتنفيذ القانون ، والنفقات المتوقعة ونوعية المعلومات الشخصية التي
سيسمح للحكومة بتخزينها ، والجهات التي سيمكنها الاطلاع على تلك المعلومات ، وحقوق
الافراد الذين تخزن معلوماتهم الشخصية ، والاجراءات الادارية والقضائية التي
يمكنهم اتباعها في حال تضرروا من تطبيق القانون عليهم.
طرح مشروع القانون للنقاش العام نحو ثلاث
سنين. وخلال هذه المدة خضع للكثير من التعديلات حتى وافق عليه البرلمان في 2006.
لكن كثيرا من القانونيين ومنظمات المجتمع المدني واصلوا اعتراضهم على القانون ،
وجادلوا بان كمية المعلومات الشخصية التي تحتفظ بها الحكومة ، تمكن اجهزتها من
مراقبة الافراد وربما التدخل في حياتهم ، على نحو يخرق استقلالهم وخصوصيتهم. وفي
2011 عاد البرلمان فاستبدل ذلك القانون بآخر مخففا ، يخلو من معظم البنود المثيرة
للجدل.
قد يندهش القراء من سياسة كهذه. لانهم
يفترضون ان حمل بطاقة شخصية واحتفاظ الحكومة بمعلومات كثيرة عن مواطنيها ، هي أمور
طبيعية. أنا ايضا افترض انه طبيعي. لكن هذا ليس موضوعنا اليوم. موضع اهتمامنا هو
"حق" المواطنين في مناقشة القوانين العامة والقرارات الحكومية قبل
اعتمادها ، سيما تلك التي تؤثر على حياتهم او حقوقهم ، حتى لو كان القانون بديهيا
مثل حمل بطاقة شخصية.
ثمة فرضية بسيطة وراء هذا المبدأ ، خلاصتها
ان الحكومة ليست كونا مستقلا عن المجتمع ، بل هي جهاز خدمة عامة ، يعيش على رضا
الناس وأموالهم ، وأن مهمتها الوحيدة هي احسان خدمة المجتمع ، وليس التسلط عليه.
ومن هذا المنطلق فمن واجبها مشاورة المجتمع ، قبل تبني سياسات يراها كل الناس او
بعضهم ، مضرة بأشخاصهم او مصالحهم او معاكسة لمراداتهم. الشورى العامة ليست عملا
ترفيهيا او تجميليا ، وهي ليست اجراء اضافيا ، بل هي جزء جوهري من مفهوم
"القيام بالعدل" في الحياة السياسية.
عرف تاريخ العالم حكاما متسلطين ، يقررون ما
يشاؤون ويفعلون ما يريدون ، دون نقاش او مساءلة. اما في عالم اليوم ، فان معيار
عدالة الدولة هو الانصاف ، اي الاقرار بحقوق جميع افراد المجتمع وضمانها بالقانون.
نعلم طبعا انه يستحيل ارضاء كافة الافراد. لكنا نعلم ايضا ان الحكومة ستكون معذورة
اذا طرحت سياساتها على الناس ، حتى يعلم كل فرد بما سيخسره او يربحه او يترتب عليه
من وراء كل سياسة او قانون جديد ، كي يكيف نفسه وحياته بناء عليه. وهذا هو الحد
الأدنى من الانصاف.
مثل هذا المبدأ يبدو أكثر لزوما في ظروف
العسر ، كالازمات الاقتصادية والسياسية ، التي تدفع الحكومات لاتخاذ سياسات ضاغطة ،
تؤثر في معظم الشرائح الاجتماعية.
تصدر القرارات عادة بعد مشاورة اهل الاختصاص.
ولعل هذا يتخذ حجة لتجاوز رأي الجمهور. لكنها حجة باطلة ، لأن رضا العامة جزء من
جوهر مبدأ "القيام بالعدل" وليس اجراء اضافيا. والتفريط فيه تفريط في
المبدأ.
الشرق الاوسط 24 فبراير 2016
http://aawsat.com/node/576151
مقالات ذات علاقة