‏إظهار الرسائل ذات التسميات فرانسيس فوكوياما. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فرانسيس فوكوياما. إظهار كافة الرسائل

14/09/2023

الواسطة ، راس مال اجتماعي

احتمل ان بعض القراء قد سمع عبارة "فيتامين واو" التي يتداولها الناس أحيانا في العراق والخليج. وهم يعرفون بالتأكيد ان "الواو" هنا تشير للواسطة. وقد سمعتها اول مرة في الكويت حوالي العام 1978 ، حين تحدث زميل لي مع احد الوجهاء ، طالبا شفاعته كي ينجح في اختبار قيادة السيارة ، وكان يومها شديد العسر. وحين سمع الزميل موافقة الطرف الثاني ، قال ضاحكا "فيتامين واو حلال المشكلات". وعلمت فيما بعد ان معظم الناجحين جاؤوا مع ذلك الفيتامين القوي.  

وتعرفت في بداية القرن الجديد على رئيس بلدية مشهور عندنا ، كان يتباهى بعبارة "اشفع تُشفَّع" التي تدعو – دون مداورة - الى اعتماد الواسطة اذا اغلقت الأبواب. ورأى صمويل هنتينجتون في مقالة مثيرة للجدل ، ان الواسطة (الرشوة بين قوسين) قد تكون علاجا محتملا اذا تخشبت القوانين ، فباتت سدا يعيق الاستثمار الضروري لتوليد الوظائف وتحسين مستوى المعيشة.

لكنا جميعا نعلم ان الواسطة ليست بالخيار الأمثل ، حتى لو لجأنا اليه أحيانا. ذلك انها تؤدي لاستئثار فئة من الناس بما هو حق للجميع. اي تقريب جماعة واقصاء بقية الخلق.

-         حسنا دعنا من هذا الكلام الخطابي. فكل الناس يعرفونه. ولنذهب الى مسألة مفيدة ، تندرج في سؤالين ، اولهما: ماهو جوهر "الواسطة" ولماذا هي مفيدة اكثر من غيرها؟. والثاني: اذا كانت فعالة ومفيدة ، فهل يمكن تعميمها ، اي تحويلها من امتياز لفئة خاصة إلى امتياز لجميع الناس؟.

"الواسطة" هي الثمرة الرئيسية للاشتراك مع جمع محدد من الناس ، في منظومة قيم أو معايير ، تولد خيطا من التعاطف والثقة المتبادلة فيما بينهم ، بحيث يشعر كل منهم ان بوسعه الاعتماد على دعم الآخر واسناده.

ربما تنشأ هذه العلاقة عن الانتماء المشترك الى قبيلة واحدة ، او قرية او مذهب او حزب ، او حتى الصداقة التي تولدت خلال سنوات المدرسة او العمل. لكن هذا القدر من الثقة المتبادلة يفيد اقلية من الناس فحسب وقد يؤدي – كما اسلفت – لاستئثار جماعة صغيرة بما هو حق للجميع.

السؤال الذي طالما راود الباحثين في علم الاجتماع ، هو: هل يمكن تحويل منظومة القيم والمعايير تلك ، الى أساس للعلاقة بين جميع أهل البلد؟. بعبارة أخرى: هل يمكن تصميم منظومة قيم ، او تطوير المنظومة القائمة ، بحيث تستوعب كافة الناس... وتبعا لهذا ، هل يمكن لكافة الناس في بلد معين ان يتمتعوا بما يشبه الواسطة في علاقاتهم واعمالهم ، بحيث يعاملهم موظف البنك والشركة والدائرة الحكومية ، كما يعامل أهله واصدقاءه؟.

وجهت هذا السؤال لعدة اصدقاء هذا الاسبوع. فوجدتهم متشككين في امكانية توسيع "دائرة الثقة" خارج حدود التعارف الشخصي. وقال احدهم ان قلة الشركات الكبرى في بلدنا ، سببها ضيق دائرة الثقة واقتصارها على المعارف. لكني تذكرت على الفور مثالا جيدا ، هو الشركات المساهمة ، التي شارك فيها آلاف الاشخاص مع انهم لا يعرفون بعضهم ولا يعرفون مؤسسي الشركة ولا مديريها. بعبارة أخرى ، فقد توفرت لديهم الثقة الكافية ليضعوا اموالهم بيد اشخاص لا يعرفونهم. اليس هذا مثال جيد؟.

هنا يظهر دور الثقافة. اي القناعة التي تولدت في أذهان هؤلاء الناس ، بأن القانون يمكن ان يضمن اموالهم ، وانهم لا يعطون اموالهم الى شخص بعينه ، بل الى نظام عمل ، اذا نجح فالكل رابح واذا فشل فالكل خسران ، بمن فيهم المدير والمؤسس. هذه الثقافة تقود الانسان من الثقة بالأشخاص الى الثقة بالنظام الذي يخضع له الجميع.

"دائرة الثقة Radius of Trust" تتناول في المقام الاول التعويل على القيم الموضوعية (مثل القانون) بدل الشخصية ، والاقتناع بأن عامة الناس حريصون على حقوق بعضهم بعضا ، ولذلك يمكن ان تأتمنهم وتطمئن الى عقلانيتهم. هذه كلها عناصر ثقافية يمكن غرسها في أذهان الناس كما يمكن انتزاعها منهم.

الشرق الاوسط الخميس - 29 صفَر 1445 هـ - 14 سبتمبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4545201/

مقالات ذات صلة

أم عمرو وحمار أم عمرو

بيروقراطية مقلوبة

البيروقراطية والإدارة

حتى لا تكون الادارة الحكومية عش دبابير

حول التفسخ السياسي

الخطوة الأولى لمكافحة الفساد.. تيسير القانون وتحكيمه

خطوط الانكسار

رأس المال الاجتماعي

رأي الجمهور

سلطة المدير

عسر القانون كمدخل للفساد الإداري

 العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

فضح العيوب واستنهاض المجتمع

قليل من صور الفساد

 فاتورة الوزير

كي لا يمسي الخيال دليلا في السياسة

كي نقتلع شبكات الفساد

من أبواب الفساد

07/09/2023

رأس المال الاجتماعي

استعرت عنوان هذه الكتابة من المفكر الامريكي المعروف فرانسيس فوكوياما ، وهو مساهمته في الكتاب المعنون "الثقافات وقيم التقدم" الذي حرره صمويل هنتنجتون ولورنس هاريزون. ويدور حول العلاقة الجدلية بين الثقافة والاقتصاد.

من المسلمات الشائعة في نظرية التحديث (وكذا في نظرية التنمية الكلاسيكية) ان الحراك الاقتصادي يؤدي – قطعا - لتحولات ثقافية. اقول انها مسلمة شائعة ، لأني اقبلها من جهة ، واتحفظ على تفاصيلها من جهة اخرى. وقد شرحت هذا بقدر من التفصيل في دراسة سابقة. لكن هذا التحفظ لا يقلل أبدا من قيمة الحجج التي بنيت عليها تلك النظرية.

د. فرنسيس فوكوياما

على ان هذا ليس موضوعنا اليوم. فغرضي هو الاشارة للاتجاه المعاكس ، اي تفصيح السؤال الهام: هل يمكن للثقافة ان تغير الاقتصاد ، كما ان الاقتصاد يغير الثقافة؟.

حسنا..

لماذا نعتبر هذا السؤال هاما؟.

من البديهيات ان الأمم تبجل ثقافاتها ، وتعتبرها جزء اساسيا من عناصر تمايزها وافتخارها على الأمم الأخرى. لو قرأت ايا من أعمال المفكر الهندي أمارتيا سن ، فقد تلاحظ انه يعتبر الثقافة الهندية موطن الحكمة في تاريخ العالم. ويعتبر العرب انفسهم أعلى الأمم كعبا ، ولغتهم اوسع اللغات وأغناها. وهكذا يفعل المنتمون الى سائر الثقافات.

لكن هذه الثقافة التي نفخر بها ، قد تكون هي بالذات معيقة للتقدم او مثبطة ، أو تكون – على العكس من ذلك - محركا للتقدم ، إذا عززت حس المغامرة والاكتشاف والمسؤولية والتعاون.

وقد تحدث العديد من الكتاب عن هذا الموضوع. ونشير مثلا الى مقدمة ابن خلدون ، الذي كتب عن العرب والأقوام التي عرف بها او سمع عنها. لكن أبرز من طرحه للتحليل العلمي ، هو – على حد علمي - ماكس فيبر في كتابه "الاخلاق البروتستنتية وروح الراسمالية". قدم فيبر مقاربة تجريبية – تفسيرية ، تقارن بين الحراك الاقتصادي في مجتمعين ، حيث توصل الى ان العقيدة البروتستنتية ، ولا سيما في نسختها التي تنسب للراهب الاصلاحي جون كالفن ، وفرت منظومة مؤثرة من القيم والمعايير المحفزة للنشاط الاقتصادي الإبداعي ، في مقابل الكاثوليكية التي مالت لاحتقار العمل الدنيوي ، وتمجيد العمل الذي يعد الانسان لحياته في العالم الآخر ، بعد ان يموت.

واجهت طروحات فيبر معارضات شديدة ، لا سيما بسبب ما قيل عن انطلاقها من الايمان بالمركزية الأوروبية. لكنها – رغم ذلك - شكلت بداية قوية لدراسة العلاقة بين قوة الاقتصاد في بلد ما وبين تكوين العقل الجمعي لسكانه.

-         حسنا... ماذا عنا؟.

-         هل نستطيع الجزم بان الثقافة السائدة في مجتمعنا محفزة للتقدم او العكس؟.

اعتقد ان هذا من نوع الأسئلة الخاطئة التي ربما تفتح الباب امام نقاشات غير مفيدة. ذلك ان كل ثقافة تحوي عناصر من هذا النوع ، وعناصر مضادة. واذا قلت – مثلا – ان الثقافة الفلانية مثبطة او معيقة ، فربما تبعد الأنظار عن الأجزاء الإيجابية فيها ، وتستثير شعورا دفاعيا او تبريريا بين اتباعها ، بدل النقاش الواقعي الذي يستهدف تحليل المشكلة وكشف اطرافها.

هنا نأتي الى اخينا "فوكوياما" الذي اهتم بتلك الأجزاء فحسب ، وهو ما اطلق عليه "راس المال الاجتماعي" وهو مجموع القيم والمفاهيم والمعايير التي تشكل ثوابت في الثقافة العامة لبلد ما ، أي نواظم ومحددات ما اسميناه "العقل الجمعي". هذه ثوابت يشترك فيها كافة أهل البلد ، وتمثل أساسا للتفاهم والتشارك فيما بينهم ، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار ، ومن هنا فهي تخلق نوعا من الفعل الجمعي المنسجم ، الذي يمكن النظام الاجتماعي من العمل بكفاءة اكبر.

كل واحدة من القيم والمعايير والمفاهيم المؤثرة في تكوين الكتلة الاقتصادية ، او التعاون في الاعمال ،  تشكل موضوعا للنقاش ، وتحديد دورها ، سلبيا كان او إيجابيا ، هو الذي يعيننا على تحديد موقع ثقافتنا العامة ، ضمن جبهة التقدم او العكس. ولنا عودة للموضوع في قادم الأيام.

الخميس - 22 صفَر 1445 هـ - 7 سبتمبر 2023 م   https://aawsat.com/node/4531371/

 مقالات ذات علاقة

الثقافة المعوقة للنهضة

حول برنامج التحول الوطني

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عجلة التنمية المتعثرة

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية

 العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

كي نتحول الى دولة صناعية

المجتمع السري

معالجة الفقر على الطريقة الصينية

نحو نماذج محلية للتنمية

النموذج الصيني في التنمية

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟



رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...