23/10/2012

فاتورة الوزير

في يوم صيفي من ايام 1993 التقى جوناثان ايتكن في مقهى باريسي بصديق جديد. وبعد ساعة ، خرج دون ان يدفع الفاتورة. عرف الناس بالقصة في ابريل 1995 حين نشرت صحيفة الغارديان تحقيقا على صفحتها الاولى ، اثار سؤالا بسيطا ، لكنه بدا للناس شديد الاهمية: "من دفع الفاتورة؟.
كان ايتكن نجما صاعدا في سماء السياسة البريطانية. فهو الوزير المسؤول عن مبيعات الاسلحة، وعين في وقت لاحق وزيرا للمالية. وهو منصب يؤهل شاغله – حسب العرف الدارج – لرئاسة الحكومة او الحزب الحاكم.
لكن الصحافة الحرة "جابت فيه العيد" كما يقول اهل بلدنا . في 1999 وقف جوناثان ايتكن امام القاضي الذي حكم عليه بالسجن ، بعدما خسر الوزارة وخسر مقعده البرلماني ، وانهار مستقبله السياسي.
"الفاتورة" هي كل المسألة. اكتشف صحافي شاب ان شخصا ما قد دفع فاتورة الوزير. فتساءل في نفسه: ما السبب الذي يدعو شخصا للانفاق على شخص آخر ، صادف انه وزير لمبيعات الاسلحة؟. تحقيقات الصحفي قادته الى كشف تعاملات غير قانونية تتضمن دفع رشاوى لنافذين اجانب لتامين مبيعات عسكرية.
ناقشت احد اساتذتي يوما حول دور القضاء والبرلمان والصحافة في تطهير المجتمع السياسي ، فقال لي ان فصل السلطات عامل مهم ، لكن الصحافة هي الاداة الاكثر فاعلية ، لسبب بسيط هو ان تلك المؤسسات تحتلها النخبة ، التي قد تتوافق – ضمنيا على الاقل – على السكوت او التكاذب. لكن الصحافة لا تسكت طالما كان في البلد قانون يحمي حق التعبير والنشر. لهذا فان معظم قضايا الفساد التي كشفت في الدول الصناعية ، ظهر خيطها الاول في الصحافة.
يؤدي الفساد المالي والاداري الى اضعاف هيبة الدولة ، واثارة الارتياب في مشاريعها. من المؤكد ان كبار رجال الحكم في اي دولة حريصون على نقاء المؤسسات التي يرأسونها. في المقابل ، يصطنع الفاسدون  الف طريقة وطريقة لتسويغ مسلكهم وابرازه كممارسة شريفة وعادلة .
الصحافة الحرة هي الاداة الوحيدة القادرة على كشف الفساد المستتر. حرية الصحافة لا تعني – فقط – السماح بالحديث عن وجود فساد او الحاجة الى مكافحته. بل تعني تحديدا توفر قواعد قانونية تحمي الصحف والصحفيين من انتقام الفاسدين وحلفائهم. لا معنى لحرية الصحافة ، اذا كان الصحفي سيخسر وظيفته بعد نشره تحقيقا عن حالات فساد. ولا معنى للحرية اذا عوقبت الصحيفة بحجب الاعلان عنها ، او منع النشر فيها او طرد مراسليها.
يعرف الناس مئات من حوادث الفساد ، وثمة جديد يظهر كل يوم. من المشكوك فيه ان تستطيع اية هيئة متخصصة متابعة هذه الحوادث ، فضلا عن التحقيق في كل واحدة منها. لكن الصحافة تستطيع ذلك ، اذا ضمن القانون حريتها ووفر لها الحماية اللازمة. 
ربما لا يخشى الفاسدون من المحاكم ، لانهم يستطيعون تدبير اقوى المحامين. لكنهم يخشون الصحافة، لانهم – ببساطة – يخشون الفضيحة اكثر مما يخشون ربهم واكثر مما يخشون القانون.
تطهير بلدنا من الفساد رهن بتوفير الضمان القانوني لحرية الصحافة. لسنا بحاجة الى اعادة اختراع العجلة. وجد الفساد قبل ان نعرفه.  وعرف علاجه قبل ان نتحدث عنه . وطالما تاكدنا من فاعلية الدواء ، فلنجربه علاجا لعلتنا ، والباقي على الله.
الاقتصادية 23 اكتوبر 2012

مقالات ذات علاقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...