02/10/2012

الوجه السياسي لسد الذرائع

الافراط في اصدار فتاوى التحريم امر غير مقبول . لانه يضيق على الناس ما وسعه الله. والانكى من ذلك تساهل بعض الفقهاء في اعادة تفسير الادلة على نحو يخدم منحى التحريم ، واحيانا اغراقهم في السماح بتسلسل الحكم الى موضوعات تتجاوز – وربما تختلف ذاتيا وعلائقيا – عن موضوع الحكم الاول . وقد وجدت ان كثيرا من تلك الفتاوى تستند الى قاعدة ثانوية ، من القواعد المعمول بها في اصول الفقه ، هي قاعدة "سد الذرائع". والمقصود بسد الذرائع هو منع الافعال التي يظن ان الاخذ بها ، مؤد في الغالب الى الفساد ، حتى لو لم يكن الفعل بذاته ممنوعا في الشريعة[1]. وعلى هذا الاساس صدرت الفتوى في سياقة المرأة للسيارة وكثير من الفتاوى المماثلة.
ونظرا لكثرة ما صدر من فتاوى التحريم على ضوء هذه القاعدة ، فقد تحولت بذاتها الى مورد جدل ، فدافع عنها متشددو التيار الديني وانكروا نقاط ضعفها. وفي المقابل طالب دعاة وباحثون بالتحفظ في تطبيقها. وكتب القاضي السابق محمد الدحيم :

في العرف الفقهي غلب السد على الفتح في قاعدة الذرائع، ولربما لا تجد للفتح ذكراً عند البعض، مما سبب أزمة في الفتوى والقضاء، وفي الدعوة والتربية؛ بل في الحياة والمعاش، فأصبح سد الذريعة سوطاً يضرب به الداعي والمربي، وملجأ لأشباه الفقهاء؛ ليعملوا به وصايتهم على الناس في حراسة مشددة للحدود، وإهمال مشعور أو لا مشعور به للداخل الاجتماعي، مما أنهك قوى الناس واستنـزف صبرهم، ودفعهم للمقاومة من أجل العيش والحياة. على حين لا يزال الفقيه يتمتع بالمعاندة والسلطوية. ولا أدري إلى متى؟ ومتى سيشعر –عفا الله عنه- بمتغيرات الحياة ومستجداتها[2].


في خط مواز ، راى الكاتب والاستاذ السابق بجامعة الامام ، محمد علي المحمود ، ان الاعتماد على قاعدة سد الذرائع ، ليس سوى انعكاس لثقافة متخلفة تميل الى المبالغة في التحريم والمنع ، وتستعملها لتجاوز المصادر النصية للشريعة:

عندما تقرأ آراء ومواقف (= تلك التي يسمونها : فتاوى) إخواننا المتطرفين من موضوع قيادة المرأة، تجد أنها مبنية على مُبررات وعلل لا علاقة لها مباشرة بالشرع المطهر في صورته النصوصية الأولى، بل هي مبررات وعلل مستقاة من الواقع المتخلف الذي صنعوه على هذه الحال الموغلة في التخلف، أو هي مبررات وعلل ذاتية نابعة من التخلف والانغلاق والخوف والانشداد إلى الذهنية التحريمية التي تأسست سلفا (في زمن سابق عليهم)، وأصبح مجرد تقادمها شرعية لها [...] المسألة لديهم ، مدنية خالصة حتى وإن لم يعترفوا بذلك ، إذ هي مبنية على قاعدة سد الذرائع ، بل وليست أية ذرائع ، إنها تلك الذرائع التي صنعوها / توهموها بأنفسهم ، ثم أرادوا سدها[3]

اما الشيخ سلمان العودة فقد شكك في صحة القاعدة ذاتها ، قائلا ان المنع بناء على هذه القاعدة منع قانوني مبني على المصلحة ، أكثر من كونه حكما شرعيا. وان ترغيب الناس في الخير وحثهم عليه، أفضل من المنع المتشدد سدا للذرائع[4]. واقر د. سعد العتيبي ، وهو من المدافعين عن المنهج التقليدي ، بما يؤول اليه التوسع في تطبيق القاعدة من حرج على عامة الناس:

الذين يُنظرون لقاعدة الذرائع لا يجيزون التوسع في سدها ؛ لأن التوسع فيه يؤدي إلى إيقاع الأمة في الحرج ، وفي هذا إخلال بأصل شرعي آخر مهم هو "رفع الحرج" ، وعليه فلا يجوز الإفتاء بناء على سد الذرائع مطلقاً مهما كانت ؛ بل لابد من تحقق مناط السد والمنع.

 لكنه في الوقت نفسه يلاحظ الخلفية السياسية لذلك التوسع :

 كلما كثر الفساد في الناس ، كلما كثرت الفتوى بسد الذرائع ، وهكذا الشأن في القضايا العامة ، وأمور الولاية : كلما وسد الأمر إلى غير أهله أو إلى من يشيع بين الناس اتهامهم بالسوء ، كلما كثرت الفتوى بسد الذرائع. والعكس بالعكس[5]

. اما الشيخ سعيد الغامدي فقد قال صراحة ان معارضي "سد الذرائع" يسعون لتصفية حسابات مع التيار الديني[6].
وفي العام 2005 نشر 118 من رجال الدين بيانا يؤكدون فيه على دعمهم للفتوى السابقة بتحريم قيادة النساء للسيارات، بناء على قاعدة سد الذرائع ، التي اعتبروها من قاعدة راسخة لا يصح التشكيك فيها ولا التقليل من ضرورتها واهميتها . وقال البيان ان "قيادة المرأة للسيارة لا تجوز ، لأن قاعدة سد الذرائع منطبقة عليها تماماً، لأنها - أي القيادة - تفضي بالمرأة والمجتمع إلى الوقوع في مفاسد عظيمة وعواقب وخيمة" وذكر البيان 14 مفسدة متوقعة فيما لو رفع التحريم، حتى مع القول بوجود مصالح فيها ، الامر الذي يستوجب تطبيق قاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"[7].
توقيع عدد من العلماء الناشطين في مجال الفتوى على بيان من هذا النوع يعتبر من الحالات النادرة . الحالات القليلة السابقة للبيانات الجماعية كانت تتعلق بقضايا ومطالبات سياسية . اما هذا البيان فهو يتحدث تحديدا عن مسألة فقهية. ويدافع عن صحة الحكم الصادر بشأنها. ولم يكن هذا معهودا في المجتمع الديني. لهذا فسر البيان عند الجميع بانه اقرار من جانب الموقعين بان تناولهم لموضوع حقوق المرأة ، وخصوصا موضوع قيادة المراة للسيارة ، لا ينظر الى جانبه الفقهي تحديدا ، قدر ما يحدد موقفا سياسيا ويدعو الجمهور الى اتباعه.
 تسييس الاحكام الشرعية سلوك معروف ، ويعرفه جميع الباحثين في السياسة والمجتمع. لكن رجال الدين اعتادوا انكار الربط بين الفتوى والسياسة. الجدل المزمن حول حقوق المرأة السعودية ، ولا سيما منذ العام 1990 يكشف دون لبس، ان تشدد التيار الديني التقليدي في المسألة، ليس سوى انعكاس لموقفهم العام في الصراع مع تيار التحديث ، الذي يصفونه بالعلماني والتغريبي. والحق ان هذا التيار قد دفع رجال الدين الى منزلق ما كان ينبغي لهم ان يقبلوا به ، اعني به الظهور امام المجتمع بمظهر المدافع عن التقاليد والاعراف القديمة ، ومعارضة الاصلاح في المجتمع والدولة ، من دون الاستناد الى مبرر علمي او واقعي او مصلحة عامة ظاهرة.

مقالات ذات علاقة






[1] لتفصيل حول الاساس الشرعي لقاعدة سد الذرائع وتطبيقاتها ، انظر محمد حسين الجيزاني : اعمال قاعدة سد الذرائع في باب البدعة ، مكتبة دار المنهاج ، (الرياض 1428). لراي معارض للافراط في تطبيق القاعدة ، انظر عبد الله الغذامي: الفقيه الفضائي، المركز الثقافي العربي (بيروت 2011)، ص 132
[2] محمد الدحيم : فتح الذرائع ، موقع الاسلام اليوم 22-6-2003 . http://muntada.islamtoday.net/t46843.html
[3] محمد المحمود: قيادة المرأة.. من الوعي المتخلف إلى ذهنية التحريم ، العربية نت 16-6-2011 http://www.alarabiya.net/views/2011/06/16/153535.html
[5] د. سعد العتيبي : أسس السياسة الشرعية (8/1) : قاعدة الذرائع /سد الذرائع ، موقع المسلم 23/10/1427 هـ ، http://almoslim.net/node/83617
[6] سعيد بن ناصر الغامدي: أريحونا من سد الذرائع ، نشرت بصحيفة المدينة ، وننقلها هنا عن موقع سليمان الماجد 9/7/1432 - http://www.salmajed.com/node/11841

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...